معن بشور
حين أصدر مركز دراسات الوحدة العربية قبل عامين كتاب "صفحات من مسيرتي النضالية" يتضمن مذكرات الدكتور جورج حبش مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ظن كثيرون أن الكتاب لن يلقى رواجاً فحركة "القومية العربية" التي كان "الحكيم" من رموزها المضيئة قد انتهت وأن أمثال جورج حبش قد باتوا من الماضي.
لكن إقبال القراء العرب، لا سيما داخل فلسطين حيث أصدر المركز بالتعاون مع دار الناشر (فلسطين) طبعة خاصة، أكد مقولة طالما رددها الدكتور حبش وكانت عنواناً لكتاب صدر عنه "الثوريون لا يموتون".
في ظاهر الأمور تبدو أحلام جيل جورج حبش وغيره من الوحدويين العرب، والنهضويين العرب والمقاومين العرب، قد أحبطت جميعها، لا سيما في ظل هرولة بعض الأنظمة نحو التطبيع، وتحوّل تجزئة سايكس بيكو الى تفتيت ذي طابع عنصري وطائفي ومذهبي، ولكن في حقيقة الأمر أن التدقيق في المشهد العربي والإقليمي والدولي يشي بصورة مناقضة...
فمقاومة الاحتلال التي رأى فيها جورج حبش ورفاقه طريق الأمة الى التحرر والاستقلال، تتحول الى قوة فاعلة لا يمكن لأحد إنكارها، وإن حاول كثيرون محاصرتها وإحاطتها بكل أنواع العدوات والخصوم والانقسامات.
وفلسطين برغم كل ما واجهته، وتواجهه، من مخططات وسياسات لتصفية قضيتها، وإجهاض لطموحات شعبها، ما زالت حاضرة في ضمير كل شرفاء الأمة وأحرار العالم، بل حاضرة في جدول أعمال كل اجتماع أو محفل أو لقاء ينعقد على مستوى العالمي...
وبعد أن كان الكفاح من أجل التحرير لا يتعدى المسيرات والخطابات المنددة بالاحتلال، تحول الى كفاح مسلح وانتفاضات شعبية داخل فلسطين نفسها، بل أيضاً بين أبناء الأمة في تخوم فلسطين وأكناف بيت المقدس...
فمن التظاهرات الى الحجارة، الى العمليات الاستشهادية، الى الصواريخ تدك قلب كيان العدو، يتقدم النضال داخل فلسطين، ومن أجل فلسطين محطماً كل ما يحاك له من دسائس ومؤامرات ومخططات.
والقدس الغالية على جورج حبش، والتي أرادها ترامب عاصمة للكيان الغاصب، تحولت الى ساحة مواجهات يومية بين المرابطات والمرابطين في حرمها الشريف وبين قوات العدو وقطعان المستعمرين وضد محاولاتهم لتهويد مقدساتهم الإسلامية والمسيحية ، وتقسيم الصلاة زمنياً ومكانياً في الأقصى المبارك وسط مقاومة شرسة من أبناء القدس وفلسطين.
وغزة التي كان لرفاق الحكيم دور كبير في مقاومتها، وفي مقدمها الشهيد القائد غيفارا غزة- محمد الأسود، تحولت اليوم الى قلعة مدججة بالمقاومة القادرة على منع جحافل العدو من التقدم أمتاراً في أرضها، بل القادرة ان تصل بصواريخ مقاوميها الى عمق الكيان الغاصب..
والضفة الغربية المشتعلة بالانتفاضات المتواصلة، والحافلة بالعمليات الاستشهادية، والمقاومة للاستعمار الاستيطاني بالوسائل كافة، تحولت الى مصدر ذعر للمحتل الذي أكثر ما يخشاه ان تقوم فيها انتفاضة شعبية هادرة تلاقي التحولات العالمية لصالح الحقوق الفلسطينية وتجبر المحتل على الانسحاب...
أما فلسطين المغتصبة عام 1948، فكل يوم تقدم لأمتها مفاجأة على غير مستوى، وتعلن للعالم كله ان سبعة عقود ونيف من محاولات "الاسرلة" لم تزدها إلا تمسكاً بهويتها الوطنية الفلسطينية وعروبتها، الى درجة انك تستطيع أن تجيب من يسألك "اين العروبة" فتحيله الى عرب 1948، تماماً كما كنت تحيله الى ثوار الجزائر قبيل الاستقلال، والى احرار مصر أيام جمال عبد الناصر، والى المدافعين عن عروبة العراق في زمن حلف بغداد، وحتى الان والى قلب العروبة النابض في دمشق، والى جماهير اليمن التي لا تزال تخرج بمئات الآلاف انتصاراً لأهلها في فلسطين ومحور المقاومة. والى كل قطر عربي ما زال شرفاؤه يؤكدون الانتماء لأمتهم.. والأمر ذاته يبرز حين نتحدث عن فلسطينيي الشتات، المنتشرين في كل أصقاع الأرض، والذين ما زالوا متمسكين ببلادهم كما القابض على الجمر .
أما الأمة العربية التي راهن جورج حبش ورفاقه من القوميين العرب، داخل صفوف الحركة وخارجها، على وجودها وقوتها فهي حاضرة في كل التحديات المفروضة عليها، وأخرها تحدي التطبيع، الذي باتت مناهضته في العديد من أقطار الامة هي الوجه الآخر لمقاومة الاحتلال، فاذا كانت المقاومة هي مهمة أهل فلسطين ودول الطوق، فإن التطبيع قد جعل من النضال من أجل فلسطين مهمة أبناء الأمة العربية من مراكش للبحرين، والأمة الإسلامية من محيط الباسيفيك (الهادئ) الى المحيط الأطلسي...
وما الرد على محاولات الشرذمة والتفتيت وإثارة العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية التي نراها حولنا بهدف عرقلة وحدة الامة ونهضتها إلا تأكيداً على سلامة الفكر العروبية الجامعة التي حملها جورج حبش ورفاقه منذ سعيهم لتأسيس حركة القوميين العرب...
أما الوحدة الوطنية الفلسطينية على قاعدة المقاومة والمواجهة، فليس أفضل تعبيراً عنها من موقف الدكتور جورج حبش في مهرجان أقامه الرفاق في الحزب الشيوعي اللبناني في بيروت في سبعينيات القرن الماضي حين طلب منه الشهيد جورج حاوي، بوجود الرئيس الشهيد أبو عمار ان يلقي كلمة الثورة الفلسطينية فقال الحكيم:" حين يكون القائد العام للثورة الفلسطينية حاضراً فهو من يلقي كلمة فلسطين وثورتها"، فأعطى بذلك نموذجاً للقائد الوطني الوحدوي مدركاً انه من الصعب ان تكون وطنياً من دون أن تكون وحدوياً، ومعلماً للأجيال كلها انه مهما أحتدمت الخلافات بين أبناء الثورة الفلسطينية فيجب ان يدار الخلاف تحت سقف الوحدة الوطنية..
في ذكرى رحيله ( 26/1/2008) لا بد من تحية لروح الدكتور جورج حبش ورفاق دربه في حركة القوميين العرب وكل الحركات القومية والتقدمية، ورفاق مسيرته النضالية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكل فصائل العمل الوطني الفلسطيني..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق