شبكة نوى - حنان مطير
خانيونس:
تقف أم ماجد وسط سوق المشروع بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة بجوار عربة الكارو، تارةً تلفّ شاشتها البيضاء حول رأسها وقد لفحتها رياح الغرب القوية، وأخرى تضع ما تبقى لديها من نبات الجرادة الخضراء والخبيزة في العربة، إنها على استعداد للعودة للبيت بعد أن انتهى المواطنون من التسوق، ولملم الباعةُ بواقي بضاعتهم.
أم ماجد عزب التي تعود بجذورها لبئر السبع المحتلّة ما تزال تحافظ على زيها القديم المعروف "بالداير والقنعة"، لقد تجاوزت السبعين من العمر، أربعون عامًا منها قضتها في العمل، الذي لم يكن مريحًا يومًا، ولا يُدرّ مالًا كثيرًا، إنما يطعم صغارًا ويمنع سؤال الناس ومد اليد.
-شبكة نوى- التقتها عصر ذلك اليوم العاصف بعد أن أنهكها طول الوقفة وضجة الباعة وزحمة السوق، لكن ذلك كلّه لم يوقف حلو الكلمات على لسانِها ولطف المعاملة في أسلوبِها.
منذ الشروق
تمسك بالخُبيزة وتقول:" أجمعها من البيارات كل يوم بعد عودتي من السوق وأكون قد استأذنت من أصحابها، وكذلك أجمع الأعشاب والخبز التالف أو الفائض من الشوارع ومن الناس وأجهزها للبيع ليوم الغد".
وتضيف:" أجهز ما سأبيعه في الغد، فأستيقظ فجرًا، وأصلي وأبدأ يومي مع شروق الشمس في السوق، الأمر ذاته يتكرّر معي منذ أربعين عامًا".
تزوجت أم ماجد في عمر 22، وأنجبت الأطفال الذين باتوا في احتياج للكثير من الأساسيات، والتي لم تكن متوفرة بسبب عدم توفر العمل لأبي ماجد "كنت أشتهي كوبًا من الشاي ولا أجده".
بلغت السادسة والعشرين وأصبحت أمًا لثلاثة أطفال، فلم يرق لها الحال أن تسمعهم يطلبون دون أن تقدر على توفير احتياجاتهم، فقررتِ الذهاب للسوق وشراء بعض الخضار من التجار بالدَّين ومن ثم بيعها وجني القليل من المال. "كنت مستعدةً أن أفعل أي شيء شريف مقابل توفير اللقمة لأولادي".
لكن والدة أم ماجد آنذاك اقترحت على ابنتها أن تتوقف عن ذلك التفكير وأن تبقى بجوار أطفالها في حين تقوم هي بالإنفاق عليهم.
تدعو أم ماجد لوالدتِها بالرحمة وتصف:" كم كانت أمًا حنونة، تحملت مسئوليتنا منذ وفاة والدي وأنا بعمر العاشرة، وفعلتْ ما أفعله اليوم".
لقد كانت والدة أم ماجد تبيع الخضار وتوفر قوت يوم أبنائها وقد علّمت أحد أبنائها وبات مدرسًا مميزًا رغم المال الشحيح"، تعلق:" بالطبع لم أقبل عرْضَها، فيكفيها ما تعبته لأجلنا ثم نزلتُ للسوق".
مردود ضئيل
وما زالت تلك الطيبة الكادحة لا تنسى أول نوع من الخضار حصلت عليه من التجار، إنه الباذنجان، باعته وأخذت مربحه اليسير وسدد دينها لأصحابه، تعلق "هكذا صرت أشتري وأبيع وأطعم أطفالي".
أربعون عاما قضتها تلك المرأة في هذا العمل ذي المردود المادي الضئيل، من بينها ثلاثة أعوام في الأراضي المحتلة كانت هي الأفضل من الناحية المادية، فجهزتْ بيتها شيئا فشيئا بعد معاناة كبيرة من ضنك العيش وظروف السكن غير الآدمية حيث عاشت لسنوات طويلة مع ثمانية أفراد في غرفة واحدة.
تنبش في ذاكرتها وتشرح:" أذكر أنني حين كنت أجهز في البيت رحت أُكَسّر أحد الجدران بنفسي بالشاكوش حتى هدمته وفعلت المطلوب من أجل توفير المال بدلاً من قيام العامل بذلك".
أم ماجد بَنَتِ البيتَ وعلّمَتْ بناتها الثلاث في الجامعة، إحداهن اللغة العربية والأخرى الإنجليزية والثالثة الخدمة الاجتماعية، فقد أرادت تعويض ما فاتها من العلم بعد دراستها للسنة الأولى من المرحلة الثانوية، تعلق:" العلم والمال أكثر ما يمكن أن يسند المرأة، وليس الرجل أو غيره كما يرى الكثيرون".
كبرت المرأة في السوق وكبر الأطفال الباعة بجوارها وصاروا شبابًا ينتظرون منها أن تطلب ليلبّوا، لكثرة ما رأوا منها الطيبة والودّ والنقاء، لكنها لم تسلم من الإصابة بالضغط والسكر وكذلك الغضروف.
قسوة الحياة
أم ماجد تحمد الله على كل شيء لكنها تتمنى لو أنها لم تعش تلك الظروف، تشرح:"ليس من العدل أن تعيش القسوةَ امرأة، نحن لم نُخلَق لنعاني ونتألم، انظري إلى حال كَفَايّ، فما بالك بقلبي؟" تفرد يديها لكاميرا – نوى- فيما تلمع عيناها العسليتان وسط شعاع الشمس المتسلل من الغيوم المتلبدة، ويراقب الشباب الباعة من حولِها كلماتِها بتقدير.
على مدار سنوات عملها الطويلة عانت أم ماجد من البرد والحر الشديد خلال تنقلها ونقل بضاعتها، وكذلك جمع الأحطاب، فكانت –وفق وصفها- تختبئ تحت أشجار الإثل غربًا من حبّات البَرَد في أوقات الشتاء القاسية.
ولم تسلم كذلك من غدر جيش الاحتلال قبل مغادرته قطاع غزّة على الحواجز حين كان يضرب عربتها بالجيب العسكري فيحطمها ومرات أخرى يُتلف الخضار ويلقيها أرضًا فتعود لجمعها فيما دموعها تحرق خديها.
انتهى حديثي مع تلك الكادحة فاستقلّت عربة الكارو التي يقودها حفيدها وغادرتِ المكان وأنا أراقبها دون أن أجرؤ على إخبارِها أنني التقيت زوجَها صدفة على رأس شارع بيتها يجلس بجوار كومة من الخبز التالف وأن كيس الخبز الكبير الذي جَمَعَتْه بعد عناء طويل لتحصل مقابله على 20 شيكل حقيقية قد اشتراه منه أحدُ مُربيي الدواب بـِ 20 شيكل مُزوّرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق