بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
قَلَّ من الحكام من يكرمهم الله عز وجل في أواخر أيام حياتهم بالتوبة، ويشرح صدورهم بالإنابة، وينير قلوبهم بالخير، وييسر لهم سبل المحاسبة والمراقبة، ويمنحهم الفرصة لتغيير مسار حياتهم، وتصويب مسيرتهم وتعديل منهجهم، وإعادة النظر قبل ملاقاة الله عز وجل فيما مضى من عمرهم، ومحاولة استدراك ما مضى والتعويض عما سبق، بالإكثار من صالح الأعمال وخير الأفعال، والإقلاع عن الأخطاء والمعاصي، ومعالجة العيوب والمساوئ، فيختم حياته بالخير، ويزينها بالطاعات، ويجعل خير أعماله في خواتيم أيامه، فَيَجُبَ بها ماضيه، ويصنع بها مستقبله، ويدب بها الغيبة عن نفسه، ويجعل ذكره بين الناس في الدنيا عبقاً، وعند الله عز وجل طاهراً، وينسى الناس بها مرَّ أيامه، وتتجاوز له الأجيال بؤس سياسته، ولا تحفظ عنه إلا نهاية عهده، وحكمة قراره، وصدق خياره، الذي به سلم الأمانة، وأفضى إلى الله خالقه صادقاً مقبلاً، واثقاً راضياً.
لعل الانتخابات الفلسطينية على اختلافها، وهي التي تأخرت كثيراً وتعطلت، وخُلقت لها العقبات وتأجلت، نعمةٌ من الله عز وجل، ومنحةُ منه سبحانه وتعالى، وهبةٌ يمتن بها على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو في هذا السن المتقدم والعمر الطويل، الذي يتطلع بعده إلى ملاقاة الله عز وجل، والمثول بين يديه راجياً عفوه وآملاً غفرانه، خائفاً يترقب من هول الحساب وشدة المساءلة، فقد حمل أمانةً عظيمةً، وتسلم إدارة قضيةٍ مقدسةٍ، وكان مسؤولاً عن شعبٍ مجاهدٍ صبورٍ، قدم وأعطى، وبذل وضحى، وما زال على العهد وفياً، وعلى الدرب ماضياً، يتطلع إلى النصر والعودة والتحرير.
إنها فرصة الرئيس محمود عباس التي نظنها –والعلم عند الله- الأخيرة، أن يقدم على بعض الخطوات التصحيحية، وهنا لا أتحدث عن جريمة أوسلو ووجوب التخلص والتطهر منها، فهذا لعمري أمرٌ لا يقوى عليه الرئيس أبو مازن، ولا يؤمن أصلاً بأنها طريق الضلال وسبيل الهلاك، بل يرى أن بذرة أوسلو كانت بذرة خيرٍ، ولكن رعاتها أفسدوها، فجاء ثمرها مراً وجناها فجاً، ولكنه ما زال يأمل في العودة إلى أصلها، وتصحيح مسارها، ومشاركة المؤمنين بها والموقعين عليها، وما علم أن من وقع عليها واعترف بها لا يؤمن بها، ولا يقبل بتطبيقها، رغم أنها أقل بكثيرٍ مما يحلم به الفلسطينيون.
هل يقدم الرئيس محمود عباس في هذه الأيام المشهودة والمناسبات الموعودة، على خطواتٍ شجاعةٍ وقراراتٍ جريئةٍ، فيجري انتخاباتٍ فلسطينيةٍ حقيقيةٍ، تتنافس فيها البرامج السياسية بشرفٍ، وتتقدم فيها القوائم الوطنية بأشخاصها وبرامجها، فلا يتدخل بها تأثيراً أو تزويراً، ولا شطباً أو تثبيتاً، ولا يساهم مع غيره في الضغط على الشعب وترهيبه، وتخويفه وتحذيره، بل يتركه يختار حراً وينتخب سيداً، دون ولايةٍ عليه أو وصايةٍ، وبغير قيدٍ أو شرطٍ، فالشعب الفلسطيني شعبٌ حرٌ عزيزٌ، مثقفٌ واعي، يدرك مصلحته ويعرف منفعته، ويستطيع أن يميز بين الغث والثمين، وبين الفاسد والصالح، والكاذب والصادق.
عليك سيدي الرئيس أن تتم الانتخابات على أكمل وجه، فلا يعتريها نقصٌ ولا تشوبها شائبة، ولا تقم ببعضها وترجئ أخرى، بل امض فيما عزمت عليه، ونفذ القرارات التي أصدرتها والمراسيم التي وقعتها، ولتكن انتخابات تشريعية، يختار فيها المواطنون الفلسطينيون في الوطن، من ينوب عنهم ويمثلهم، ومن يتحدث باسمهم ويراقب عمل حكومتهم، وفيها يمنحون الثقة ويجددون الشرعية لمن يرون أنهم لها أهل ويستحقونها، فقد آن الأوان للتغيير ومحاسبة من فرط وقصر، وأخطأ وأفسد، ومكافأة من ضحى وقدم، وصدق وبذل ومحض النصح ومارس الرقابة، وعلا صوته ناقداً ورافضاً كل انحرافٍ وفسادٍ، وأبى الخضوع للإغراءات أو الامتثال للتهديدات، وبقي مثالاً حياً للرائد الذي لا يكذب أهله.
وأهم من ذلك كله، فإن المطلوب من الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يترفع عن الانتخابات الرئاسية، ويسحب اسمه من التداول، ويرفض ترشيح نفسه، ويفسح المجال رحباً أمام غيره من المتنافسين الوطنيين الأشراف، الذين يرتضيهم الشعب ويختارهم، ولا يسمح للاحتلال ولا لأي قوةٍ أجنبيةٍ أو عربيةٍ، أن تبسط رأيها وتفرض مرشحها، وتصر عليه مرشحاً وحيداً منقذاً، فقد بلغ من العمر -الذي نسأل الله عز وجل له فيه حسن الخاتمة- ما يجعله يتنحى ويقدم غيره، فالمهمة كبيرة والمسؤولية عظيمة، ويوجد في هذا الشعب العظيم من يقوى على حمل الأمانة، ومواصلة المسيرة، ولكن عليه أن يفسح الطريق لهم، ويتنحى من أجلهم.
سيدي الرئيس لست بحاجةٍ إلى من يذكرك بالحراك الجزائري الأخير، خلال الانتخابات الرئاسية الجزائرية، فقد خرج محبو الرئيس عبد العزيز بو تفليقة إلى الشوارع، وطالبوه بالتنحي وعدم القبول بترشيحه لعهدةٍ رئاسيةٍ خامسةٍ، وهو الرجل الذي عرفتموه وعملتم معه، عندما كان وزيراً لخارجية الجزائر ثم رئيساً لها لأربع دوراتٍ متتالية، وتدركون عظم دوره وكبير مكانته، ومدى تأثيره في الجزائر، ولكنه أدرك أنه ليس رجل كل المراحل، وليس الوحيد بين شعب الجزائر، ولا يستطيع أن يواصل الحكم والرئاسة من المهد إلى اللحد، بل آثر أن يكون لحده وطنياً ووداعه شعبياً، فتنحى لغيره وتنازل لسواه.
سيدي الرئيس إنك بخطواتك هذه مجتمعة، وفي المقدمة عنها ترفعك عن الترشح شخصياً، وانسحابك من معركة المنافسة على رئاسة السلطة، ووقوفك على الحياد التام بين جميع المرشحين، وقيامك برعاية الانتخابات كلها وتنظيمها بنزاهةٍ، وضمان احترام نتائجها والالتزام بمخرجاتها، فإنك تكون قد أحسنت صنعاً، وأنهيت صفحةً من حياتك بشرفٍ يحسب لك، وفضلٍ ينسب إليك، وتكون آخر أيامك أفضلها، وأصدق أعمالك خواتمها، فاربأ بنفسك واسمُ بها، وانجُ بروحك وخلد بالخير ذكرك، واعلم أنه طوبى لمن طال عمره وحَسُنَ خاتمة عمله.
بيروت في 24/1/2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق