علي بدوان ... عضو اتحاد الكتاب العرب
كان مخيم اليرموك، أول مخيم وتجمع فلسطيني على الإطلاق يشهد مسيرات تشييع الشهداء في الثورة الفلسطينية المعاصرة، وعموم الحركة الوطنية الفلسطينية. وكانت مقبرة الشهداء القديمة في اليرموك أول مثوى لشهداء فلسطين خارج أرض فلسطين التاريخية. حيث أقيمت في مخيم اليرموك قرب حارة المغاربة وعلى حدود قرية يلدا في حينها، ودفن فيها أول شهيدين هما الشهيد على الخربوش من عرابة البطوف، والشهيد مفلح السالم من صفورية، من الكتيبة الفلسطينية (68) العاملة في الإستطلاع الخارجي في الجيش العربي السوري، كان هذا منتصف العام 1964، وقبل ذلك كان يدفن الفلسطينيون شهدائهم من العاملين في الجيش العربي السوري وغيره قبل هذا التاريخ في مقابر مختلفة كان منها مقبرة الشهداء في الدحداح. بعد مقبرة الشهداء الأولى في اليرموك، قامت مقبرة الشهداء الثانية في مخيم الوحدات في عمان بالأردن، وبعدها المقبرة الثالثة في بيروت.
مسيرات التشييع كانت مُغايرة لكل ما قد يراه أو يتوقعه الإنسان، منذ تلك المسيرات التي تدفقت من خلالها توابيت العشرات من القوافل الأولى لشهداء الثورة الفلسطينية في معارك الجولان والأغوار في الأردن وجنوب لبنان.
في تلك المسيرات التي شَهدتُها عندما كُنت طفلاً، كانت زغاريد النساء تملأ شوارع اليرموك، في وقت كان فيه الجميع يندفع للمشاركة في تشييع الشهداء من عموم المواطنين السوريين والفلسطينيين.
أذكر من تلك الجنازات، مسيرة تشييع تسعة شهداء لحركة فتح في شباط/فبراير عام 1967 أي قبل حرب العام 1967، كان منهم الشهيد المؤسس في حركة فتح (منهل توفيق شديد) (من علار قضاء طولكرم) حيث شارك في تلك المسيرة الكبرى الرئيس الراحل ياسر عرفات وأبو علي إياد وأبو جهاد وكمال عدوان وغيرهم، فتمت الصلاة على الشهداء في مسجد فلسطين، وأطلقت أثناء التشييع العيارات النارية في وقت كانت فيه أجواء التشييع تصدح بزغاريد النساء التي ملأت الأجواء والتي لم تتوقف، وحينها قال الرئيس جمال عبد الناصر في إحدى المناسبات "لم أرى أو أشهد أو أسمع " عن تشييع للشهداء مترافقاً مع زغاريد النساء إلا عند الشعب الفلسطيني.
وهكذا تتالت مواكب الشهداء التي كانت شبه يومية في مخيم اليرموك والى حين ليس بالبعيد. كانت مواكب ضخمة لشهداء، وكان منها تشييع العديد من القادة والكوادر المعروفين، وبمشاركة قيادات عليا عربية وفلسطينية كما حصل مع تشييع جنازة الشهيد زهير محسن الأمين العام لقوات الصاعقة صيف العام 1979 بمشاركة الرئيس الراحل حافظ الأسد والرئيس الراحل ياسر عرفات. ومسيرة تشييع أبو صبري صيدم، وسعد صايل، وخليل الوزير، وطلعت يعقوب، وفتحي الشقاقي، وجهاد جبريل، وطلعت يعقوب، وابو العباس، وابو داوود، الخ ....
أي مسيرةٍ لتشييع شهيدٍ أذكرها، أو أستطيع إستحضارها من ذاكرتي، فذاكرتي مُتخمة بصور مسيرات التشييع التي لا أنساها مهما صدأت الذاكرة بفعل عامل الزمن... تشييع الشهيد حفظي قاسم، شهداء معسكر الهامة، شهداء معسكر حمورية، شهداء معسكر عين السخنة ..... مسيرات تشييع شهداء معارك زغرتا من الكتيبة (11) من قوات حطين التابعة لجيش التحرير الفلسطيني، مسيرات تشييع شهداء معارك بيروت عام 1976، شهداء معارك البقاع خلال وبعد إجتياح لبنان عام 1982، مسيرات تشييع وتشييع وتشييع ... والفرقة النحاسية لموسيقا الثورة تعزف ألحان الأناشيد الوطنية (جابو الشهيد جابوه ... يافرحة أمه وأبوه).. ونشيد عائدون ونشيد فدائي ....
مسيرة مُكتظة، كُتبت بدم زهرات الشباب والمناضلين، مسيرة حاشدة، مسيرة متواصلة على درب الخلاص والجلجلة، كان الأمل فيها وسيبقى سيد الموقف، مع مرور تلك السنوات الطويلة منذ أن حمل أبناء مخيم اليرموك على أكتافهم توابيت الشهداء الملفوفة بالعلم الفلسطيني لأول مرة منذ نكبة عام 1948.
لوكانت الصورة الفوتوغرافية حاضرة في تلك المسيرات، ولو كانت الصورة المتحركة حاضرة لنطقت الآن تلك الفعاليات الوطنية بما يعجز القلم عن تدوينه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق