قد يكون بهيج طبارة خذلنا كقرّاء في “كتابات في دولة القانون”، لأننا إنتظرنا منه أن يفرج لنا عن كثير من فصول تجربته الغنية في حقول القانون والمحاماة والسياسة، فإذا به يختصر ليقتصر كتابه الجديد على ما أراد الإشارة إليه هو، بكل ما يحمل من دلالات قوية ومعبرة.
تتسرّب من صفحات هذا الكتاب نزعة مدنية يجاهر بها بهيج طبارة، تجعل انحيازه إلى دولة القانون ألفباء حَرْفية وروحية تعامله مع السياسة والمحاماة والناس، وصولاً إلى تموضعه في اللااصطفاف والذي – للأسف – يصبح علامة نافرة في النموذج اللبناني منذ قيام دولة لبنان الكبير حتى يومنا هذا.
مدنية بهيج طبارة لا تدل عليها فقط أفكاره وطريقة زواجه وتربية أسرته، بل أيضاً تنوع علاقاته وصداقاته اللبنانية والعربية والفرنكوفونية. إستضافته منابر لبنانية وعربية عديدة. تربطه صداقات بسياسيين وأكاديميين وحقوقيين لبنانيين وعرب، من أطياف عديدة. إبن المدرسة الشهابية الذي تأثر كثيراً بصداقته بفؤاد بطرس. صداقة بدأت في خمسينيات القرن الماضي عندما تدرج المحامي البيروتي حامل الدكتوراه من فرنسا في “مكتب محترم”، هو مكتب فؤاد بطرس في بناية العسيلي في وسط بيروت. قال في كتابه عن فؤاد بطرس إنه الأيقونة التي كانت منسية في مستودع لبنان الزمن الجميل، وإستشهد بما كتبه صديقه رئيس تحرير “السفير” الأستاذ طلال سلمان في رثاء بطرس:”هذا الكبير من بلادي، أحد القلائل من الرجال المحترمين”.
لم يخص فؤاد بطرس فقط بصفحات من كتابه. خصّ أيضاً رفيق الحريري بقصة تعارفهما في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عندما طلب منه كمحام درس إمكانية تطوير مرفأ صيدا على طريقة ما بات يعرف حالياً بنظام الـ BOT، وهو الذي كان قد إختلى بالرئيس الشهيد يوم الثالث عشر من شباط/ فبراير 2005 (عشية إستشهاده)، في سياق معالجة قضية مساعدات جمعية التنمية في العاصمة. في كتابه، يروي طبارة أيضاً قصته مع الأديب فؤاد سليمان ومع المجلس الدستوري، وحبذا لو روى لنا شيئاً من تجربة المنظمة العربية لمكافحة الفساد التي ترأسها لسنوات خلفاً للرئيس الدكتور سليم الحص (بقي رئيسها الفخري) وأفسحت أمام شبكة علاقات عربية واسعة قبل أن تتجمد فعاليتها بسبب صعوبات عديدة أبرزها التمويل.
في العام 1973، إختاره أمين الحافظ وزيراً وفي العام 2020، كاد أن يصبح رئيساً للحكومة. ندر أن تُعرض رئاسة الحكومة على شخصية لبنانية وتقول “لا”. قال طبارة للوسطاء: هذه شروطي وإلا لن أقبل أن أكون رئيس حكومة كيفما كان
هذا البهيج في علاقاته وصداقاته، كان يرفض كل أنواع الإصطفافات، فالاصطفاف، برأيه، “من عوامل القضاء على اللعبة الديموقراطية وتعطيل دور المؤسسات وعملها، إضافة إلى دوره المزعزع لروح الميثاقية والعيش المشترك، كيف لا وقد نجمت عن هذه الاصطفافات حروب داخلية، وحروب كامنة في النفوس”.
في كتابه، يستعير طبارة مقالات الزميل نقولا ناصيف عنه، بعنوان “شاهد على جمهوريتين”: حكومة 1973 وكانت أول مشاركة له في وزارة برئاسة الراحل الدكتور أمين الحافظ وما شَابَ تلك المرحلة من مقدمات وتوترات انفجرت يوم 13 نيسان/ أبريل 1975، وكانت تجربته تلك مزيج من حرارة ومرارة وسط دهاقنة زعماء الطوائف ومصالحهم. والثانية، في ما وصفه بانحراف تيار المستقبل عن نهج رفيق الحريري، متوقفاً عند معارضته للبيان الذي صدر عن لقاء عقدته قوى 14 آذار وتيار المستقبل في فندق البريستول في أيلول/ سبتمبر 2006، ووردت فيه مرتان عبارة “نزع سلاح حزب الله”، بينما “كنا لا نزال نجرجر أذيال العدوان الإسرائيلي” (ص359)، وما تلاه من انقطاع عن ترؤس كتلة المستقبل النيابية تركه لها وللتيار، مبرراً إنسحابه بـ”انحرافه (التيار) عن خط الرئيس الشهيد ونهجه الذي اعتمده منذ عدوان نيسان/ أبريل 1996 والقاضي بلمّ الشمل وجمع الكلمة” (ص360).
كتب بهيج طبارة مبدياً رأيه القانوني في مسألة دستورية التمديد لرئيس الجمهورية، وعن “الخصخصة ومخاطرها”، وعن اصلاح القضاء، متسائلاً “هل أن الطبقة السياسية الحاكمة راغبة حقاً في اقامة قضاء فاعل ومستقل، بعيداً عن نظام المحاصصة، يكيل العدالة بمكيال واحد، ويكون ضامناً بالفعل للقيم الديموقراطية المؤتمن عليها ولحقوق الانسان”؟(ص300)، ومثلها في قانون الانتخاب الذي لطالما أراده طبارة نزيهاً وعادلاً “ومن دون تأثير المال على إرادة الناخب”. قانون “يساوي بين المرشحين في الظهور الإعلامي”، كما أن “افتقار حياتنا السياسية إلى أحزاب منظمة وشاملة وعابرة للطوائف هو عامل يضاف إلى العوامل الأخرى التي تفسد العملية الانتخابية”.
أيضاً تناول طبارة عمل الحكومة أثناء تصريف الأعمال حيث يجوز للحكومة المستقيلة، بل يقتضي منها “اتخاذ ما يلزم من تدابير لانقاذ البلد من خطر الانهيار دون أن يشكل ذلك تجاوزاً لتصريف الأعمال ولو بالمعنى الضيق”، وكذلك عند حصول الفراغ في سدة الرئاسة، عدا عن انتقاده كيفية تشكيل الحكومات بعد اتفاق الدوحة والذي وصفه بـ”الانقلاب على اتفاق الطائف”.
في مقدمة كتابه، يسجل طبارة موقفاً للتاريخ. بعد الإنفجار المدمر في مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، “القضاء في لبنان، من نيابات عامة إلى قضاة تحقيق إلى قضاة حكم، مدعو أكثر من أي وقت مضى لإثبات وجوده في الكشف عن ملابسات هذه الجريمة وتحديد المسؤولين عنها وإنزال العقوبات بهم”.
لبهيج طبارة الحقوقي باع عميق في مسائل القانون، فنراه يبارز تلميذه في مرحلة التدريس الجامعي رئيس المجلس النيابي (لاحقاً) نبيه بري في هذه المسائل في أكثر من جلسة نيابية، عندما كان نائباً عن بيروت، لكن ما نلمسه من الوجه الآخر له هو لمسة المذاق الأدبي، فيخصّ أستاذه الراحل الشاعر والأديب فؤاد سليمان بمقالة بعنوان “ذكرياتي معه”، فيصفه بأنه “لم يكن استاذاً بالمعنى التقليدي للكلمة. كانت له القدرة النادرة التي لا تتوافر الا لقلة من المعلّمين على تحريك المواهب الدفينة في نفوس طلابه ودفعهم الى تجاوز الذات والارتقاء بهم الى أعلى درجات العطاء” (ص320)، إضافة إلى إطلالته في جريدة “النهار”.. “متخفياً باسم إلَه الشمس البابلي “تموز”، أو أدونيس عند اليونانيين”، فلم يكن يسكت عن الذين كانوا يأكلون ـ أمام عينيه ـ أموال الناس حراماً، الذين يتاجرون بالشعب ويدوسون الكرامات؟ ها هو ينهال على كل هؤلاء بالكلمة وكأنها المطرقة على رؤوس اللصوص والفاسدين” (ص321)..
إلى ذائقته في الأدب والفن، أذكر أنني رأيته مرتين مشاهداً لمسرحية الممثلة والكاتبة المسرحية الفلسطينية الرائدة رائدة طه “ألاقي زيك فين يا علي”، وتحكي فيها عن والدها الشهيد علي طه.. كان بهيج طبارة بين الحضور بكامل أناقته مبدياً إعجابه بالعمل، والى جانبه عقيلته السيدة هدى. هدى التي أهداها كتابه بين أيدينا فيقول: “كانت تدخل البهجة الى قلبي في ساعات اليأس والاحباط”.
“كتابات في دولة القانون”، عنوان كتاب للدكتور بهيج طبارة صدر حديثاً بطبعته الأولى، من دون إشارة إلى دار النشر، مع تصدُّر صورة المؤلف غلاف الكتاب على ضفتيه بإبتسامة تشي براحة ضمير من يرسمها.
يتضمن الكتاب مجموعة مقالات بعضها منشور سابقاً في صحف أبرزها “لوموند” الفرنسية، “السفير”، “الأخبار” و”النهار”، أو ألقيت كمحاضرات في منابر متعددة (ندوة العمل الوطني، لقاء الجمهورية، مجلس النواب، الجامعة الأنطونية، مركز عصام فارس، رابطة اصدقاء كمال جنبلاط، بيت المحامي، لقاء الاربعاء الثقافي، ندوة الحوار الاسلامي المسيحي، الندوة اللبنانية، جامعة هايكازيان، منتدى الفكر والادب في صور، الجمعية اللبنانية لتراخيص الامتياز، كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية إلخ)..
بهيج طبارة شاهد على عقود من السياسة. بدءاً بعهد كميل شمعون وصولاً إلى عهد ميشال عون. في العام 1973، إختاره أمين الحافظ وزيراً وفي العام 2020، كاد أن يصبح رئيساً للحكومة. ندر أن تُعرض رئاسة الحكومة على شخصية لبنانية وتقول “لا”. قال طبارة للوسطاء: هذه شروطي وإلا لن أقبل أن أكون رئيس حكومة كيفما كان.
حبذا لو كشف طبارة بعض فصول علاقاته وتجاربه، ولا سيما قضية المحكمة الخاصة بلبنان، كونه كان الأكثر قرباً من كل فصولها وصولاً إلى تهريبها عبر الأمم المتحدة.
بهيج طبارة يجلس في متراسه الأخير. بين جدران مكتباته المرصوصة بالكتب والمراجع القانونية. المقاتل الأخير من أجل دولة القانون.
“كتابات في دولة القانون” لعله تعبير عن اليأس من عدم إحترام القانون وتطبيقه. إحباط من براغماتية وإنتهازية طبقة سياسية تتناتش بأنيابها الحادة لحم الوطن ودولة القانون!
ينشر بالتزامن مع موقع post180
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق