شهدت السنوات القليلة الماضية انفتاحاً متزايداً من عدد من دول الخليج العربي على الكيان الصهيوني، وأخذ التطبيع فيها أشكالاً مختلفة، بلغ حدّاً من الوقاحة مع خروجه إلى العلن، وتوقيع الإمارات والبحرين على اتفاق "أبراهام" في 15/9/2020، والذي يُمثل خطراً على القضية الفلسطينية، بشكل عام، وعلى القدس والمسجد الأقصى المبارك، بشكل خاص؛ حين جعل لليهود "حقّاً" مساوياً لحقّ المسلمين في الصلاةِ فيه، وحين شدد على أن تظلّ الأماكن المقدسة الأخرى في القدس مفتوحة للمصلين "المسالمين" من جميع الأديان.
أعلنت الإمارات والكيان الصهيوني في 13/8/2020 عن تطبيع رسمي لعلاقة تطورت، بالخفاء لسنوات. وقد كانت العلاقة بينهما قد اتسعت حتى وصف مؤسس مركز أصدقاء التراث الصهيوني مايك إيفانز ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد بأنه أكثر دعماً للكيان الصهيوني من كثير من اليهود. وكانت العلاقة بينهما تتمّ من خلال بوّابة المنظمات الدولية، ومن خلال علاقات تسليحيّة سرّية، حيث شكلت الإمارات سوقاً لصادرات الكيان الصهيوني من الأسلحة إلى قارة آسيا، بالإضافة إلى مشاركتها في مناورات وتدريبات عسكريّة إلى جانب الكيان الصهيوني.
وعلى عكس الحال مع أبو ظبي، لم يشهد البلدان العربيان (مصر والأردن) زخماً في الاتفاقيات التجارية والاقتصادية مع تل أبيب، فبعد الإعلان عن اتفاق "أبراهام"، تقدم مسار التطبيع الإماراتي بشكل أسرع، متجاوزاً كل الخطوط الحمراء، وكل الحدود، وبدت أصابع الاستثمارات الإماراتية في المستعمرات الصهيونية واضحة المعالم.
ومع رغبة واضحة للنظام الإماراتي في تحقيق اندماج كامل على كل المستويات مع الكيان الصهيوني، لم تترك باباً للتطبيع إلا طرقته، وسارعت إلى عقد جملة من الاتفاقات في مختلف المجالات؛ الاقتصادية والاستثمارية والخدمات المالية والعسكرية والأمنية والطاقة والتكنولوجيا والإعلام والسياحة والبحث العلمي والنقل والرياضة، وقطاعات أخرى...
ومن أبرز معالم الاتفاق التطبيعي:
1. اتفاق "أبراهام" وتصفية القضية الفلسطينية:
اللافت للنظر أن الإمارات قدمت اتفاق "أبراهام" في سياق تحقيق مكاسب للقضية الفلسطينية. فعلى الرغم من حرص وزير الخارجية الإماراتي، في كلمته خلال حفل التوقيع على اتفاق "أبراهام"، على ذكر حلّ الدولتين، فإن نص الاتفاق لم يشر أبداً إلى هذا الموضوع، بل اكتفى على تأكيد الحاجة "إلى إيجاد حلّ سلمي للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بما يحقق حاجات وتطلعات الشعبين"، وهذه لغة "صفقة القرن"، التي تفرض على الفلسطينيين تنازلات جوهرية في قضايا الصراع المركزية، كالسيادة والأرض والحدود والقدس واللاجئين...
وكانت الإمارات قد دعت، خلال السنوات القليلة الماضية، إلى أن العلاقات بين الدول العربية و"إسرائيل" بحاجة إلى تحوّل، من أجل تحقيق تقدم نحو السلام مع الفلسطينيين، مشددة على أن قرار الكثير من الدول العربية عدم التحاور مع الكيان الصهيوني عقّد مساعي التوصل لحلّ على مدى عقود.
ولتحقيق ذلك افتتحت الإمارات "مكتب مصالح" لإدارة علاقاتها السرية مع الكيان الصهيوني، يديره وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية أنور قرقاش، الذي أكد مرراً وتكراراً على أن الحوار مع الكيان الصهيوني شيء إيجابي.
2. القدس والأقصى في القلب من اتفاق "أبراهام":
وحينما يتمّ الحديث عن نموذج "بيت إبراهيم" في أبو ظبي بوجود مسجد وكنيس وكنيسة، بمعنى أن كل أبناء سيدنا إبراهيم يصلّون تحت سقف واحد، يقول نائب رئيس الحركة الإسلامية الشيخ كمال الخطيب إن "هذا النموذج يتمّ الترويج له وتعميمه بغية تنفيذه في الأقصى"، جازماً أن الإمارات، ومن خلال تتبع نهجها ودورها في القدس والأقصى بالسنوات الأخيرة، لا تعمل ولا تنشط من خلال رؤية خاصة بها بقدر ما أنها تعمل ضمن مشروع صهيوني تهويدي.
وفي خطوة تسهم في فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على القدس والأقصى، روج النظام الإماراتي للصلاة في المسجد الأقصى تحت سيادة الاحتلال، وتلاعب بالمفردات الدينية المتعلقة به، حيث تمّ تعريفه بالمسجد القبلي، مع موافقته على اتفاق التطبيع الذي يسمح لكل الديانات بالصلاة بساحات المسجد المبارك.
وقد تبنى اتفاق "أبراهام" العناصر الخمسة المركزية لطمس هوية الأقصى التي نصت عليها "صفقة القرن"، وأضفى عليها الاتفاق مشروعيةً عربية. فالاتفاق جاء بتسمية دينية، وكان الأقصى الموضوع الديني الوحيد في مضمونه، وأمام ذلك فليس من المبالغة القول إن تغيير هوية المسجد يقع في القلب من الاتفاق، والتطبيع العربي اللاحق له، باعتبار الأقصى قد بات المركز الرمزي لأجندة التصفية على مستوى الهوية.
وإشارة ترامب في خطابه، قبل توقيع الاتفاق، إلى "المواقع التاريخية في إسرائيل" التي "فتحت اتفاقية "أبراهام" الباب أمام المسلمين في جميع أنحاء العالم" لزيارتها، "والصلاة بسلام في المسجد الأقصى"، تشير إلى أن الإمارات والبحرين ربما قبلتا عملياً بالقدس الموحدة عاصمة للكيان الصهيوني، تمهيداً لسيطرته على المقدسات المسيحية والإسلامية فيها.
واستخدمت شركة الاتحاد للطيران الإماراتية صورة لمجسم أسمته "الهيكل الثاني" اليهودي، في إعلان ترويجي للشركة بعنوان "زيارة تل أبيب"، لرحلات ستبدأ تسيّرها إلى الكيان الصهيوني في آذار/ مارس 2021، مع ظهور صورة لأحد الأزقة بالبلدة القديمة من القدس باعتباره أحد المعالم الإسرائيلية.
وبينما لعبت الإمارات دوراً مؤثراً في بيع منازل المقدسيين في البلدة القديمة في القدس، القريبة من المسجد الأقصى، للجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية منذ سنة 2014، كشفت نائبة رئيس بلدية الاحتلال في القدس فلور حسن – ناحوم، في 17/10/2020، عن "استعداد وتحمس" إماراتي للاستثمار بنحو 700 مليون دولار في مخطط "وادي السيليكون أو بالسيليكون فالي" الاستيطاني، الذي سيُقام على أنقاض 200 منشأة تجارية مقدسية، ويهدف لإقامة منطقة صناعية حديثة، تضمّ 250 ألف متر مربع، ويهدف لربط قسم القدس الشرقي بالقسم الغربي، تكريساً لفكرة (القدس الموحدة) عاصمة للكيان الصهيوني.
3. التطبيع الاقتصادي:
وتسهيلاً للتطبيع الاقتصادي، الذي يُمكن أن يُعزّز قوة الكيان الصهيوني الاقتصادية، ألغت الإمارات قانون مقاطعة الكيان الصهيوني، وسمحت بعقد اتفاقيات مع هيئات أو أفراد مقيمين في الكيان الصهيوني أو منتمين إليها بجنسيتهم. وبهدف تعزيز علاقات التعاون والتجارة؛ تمّ تدشين "منتدى الأعمال الإماراتي - الإسرائيلي".
ولكي يتمّ الالتزام بما جرى التعهد به خلال توقيع اتفاق "أبراهام"، اتفقت الإمارات والكيان الصهيوني على تشكيل فريق مشترك لتنفيذ البرامج والمشاريع المشتركة، وأعلنت الإمارات والولايات المتحدة والكيان الصهيوني عن إنشاء الصندوق الإبراهيمي، الذي تقوم الإمارات والمؤسسة الأمريكية الدولية لتمويل التنمية والكيان الصهيوني من خلال هذا الصندوق، بتخصيص أكثر من 3 مليارات دولار في إطار مبادرات الاستثمار والتنمية.
وفيما توقع رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو أن تدرَّ اتفاقيات "السلام" مع الإمارات والبحرين مليارات كثيرة على اقتصاد بلاده، توقع وزير استخباراته إيلي كوهين أن يصل حجم التجارة مع الإمارات إلى 4 مليارات دولار في غضون 3 إلى 5 أعوام، مع توقع إماراتي أن تصل قيمة الصادرات الصهيونية إلى الإمارات إلى 500 مليون دولار سنوياً، وأن تصل قيمة صادرات الإمارات إلى "إسرائيل" إلى 350 مليون دولار سنوياً.
وعلى الرغم من إعلان منظمة إمباكت الدولية لسياسات حقوق الإنسان أن اتفاقيات التعاون بين مؤسسات وبنوك صهيونية وأخرى إماراتية قد يشكل مخالفة لمبادئ الأمم المُتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، لأن الشركات الصهيونية تعمل على شراء العقارات والأملاك من الفلسطينيين في الضفة الغربية بصورة غير شرعية لصالح المستوطنين الصهاينة؛ قامت الشركات الإماراتية بتوقيع عدد من الاتفاقيات في مجالات الاستثمار والخدمات المصرفية والأعمال المالية، لتعزيز التعاون في التمويل والاستثمارات، واستكشاف فرص ذات منفعة متبادلة، وتعزيز الحركة التجارية.
كذلك وقّعت الإمارات مع الكيان الصهيوني مذكرات شراكة استراتيجية وتعاون في مجالات التجارة والسياحة والزراعة والأمن الغذائي والتكنولوجيا والنفط والطاقة وخدمات النقل الجوي والبحري بين الدولتين. ومن بين هذه المذكرات كانت مع شركات تعمل في مستعمرات الضفة الغربية وهضبة الجولان المحتلين.
4. التطبيع العسكري والأمني:
أما عن العلاقات الأمنية والعسكريّة بين الإمارات والكيان الصهيوني، فهي علاقات قديمة يعود تاريخها لسنوات قبل الإعلان عن التطبيع العلني؛ وقد تحدّثت تقارير صهيونية عن تلك العلاقة، والتي ازدادت متانة في ضوء صفقات التسلح، وصفقات العتاد الأمني التّقني بين الجانبين.
بالإضافة إلى قيام وفود عسكرية من الجانيين بزيارات متبادلة، من أجل تبادل الخبرات العسكرية، والاتفاق على بيع سلاح إسرائيلي لأبو ظبي، ومشاركة الإمارات في مناورات وتدريبات عسكريّة إلى جانب قوات الاحتلال.
وفي سياق التعاون الأمني والاستخباري المباشر بين الإمارات والكيان الصهيوني، تعاقدت أجهزة الأمن الإماراتية مع شركات أمنية إسرائيلية لاختراق أجهزة الهواتف الذكية بهدف التجسس على أعدائها، والتنصت على عدد من السياسيين والصحفيين والشخصيات المعارضة.
كذلك أبرمت الإمارات صفقة ضخمة مع الكيان الصهيوني لتزويدها بقدرات استخباراتية متقدمة، وارتبطت مع الاحتلال الصهيوني بمستويات تعاون أمني واستخباري وسياسي مباشر لمواجهة ما يسميانه "التهديد الإيراني المفترض في الخليج".
وعلى الرغم من نفي الإمارات توقيعها مع الكيان الصهيوني مذكرة تعاون في المجال الأمني بعد توقيع اتفاق "أبراهام"، شدد قال رئيس الأمن السيبراني في الحكومة الإماراتية محمد حمد الكويتي على أنه مع توقيع الاتفاق بدأت معاملات كثيرة مع شركات الإنترنت الإسرائيلية، بما في ذلك في مجالات الأمن السيبراني والتكنولوجيا الرقمية والتعليم، مبيناً أن الكيان الصهيوني شريك استراتيجي في ذلك. يأتي ذلك في وقت أكد فيه مستشار حكومة الإمارات لمكافحة الإرهاب علي النعيمي على أن اتفاقيات التطبيع تسهم في التصدي للتطرف في الشرق الأوسط.
5. التطبيع التعليمي والتكنولوجي:
وفي خطوة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تستهدف تغيير وعي الشعوب، خاصة الأجيال القادمة، أعلنت الإمارات عن رغبتها في تغيير الخطاب الديني والسياسي والإعلامي والمناهج التعليمية حول الكيان الصهيوني، بهدف تغيير نظرة العداء للكيان الغاصب، وتغيير النظرة المألوفة عنه من محتل، إلى صديق، "حتى يشعر الإسرائيلي بالطمأنينة والانتماء"، بحسب تعبير مستشار حكومة الإمارات لمكافحة الإرهاب علي النعيمي.
وإرضاء للكيان الصهيوني، ستحاول الإمارات جاهدة المس بوعي شعبها وأجيالها؛ من خلال التأثير بشكل مباشر على عقولهم عبر مناهج جديدة خالية من أي دعوة لمحاربة الإسرائيليين، وإبراز السلام بشكل قوي جداً. وستحاول العمل على تربية أبنائها على أن ما يجمعها مع الاحتلال اتفاق تطبيعي، ولا يوجد بينهما أي عداء، أو يتم إطلاق الصواريخ بشكل متبادل، أو تكون هناك أي دماء".
وبدأت المدارس الإماراتية، بالفعل، تدرّس معاهدة "السلام" مع الاحتلال الصهيوني في كتبها المدرسية. واللافت للنظر أن عملية تغيير المناهج بدأت مبكراً، ولكن دون إعلان رسمي، حيث تداول نشطاء، في شباط/ فبراير 2018، صورة من أحد كتب مناهج الإمارات تزعم أن "رام الله" عاصمة فلسطين وليس مدينة القدس.
ولتحقيق "سلام دافئ وحميمي مع إسرائيل"، رحبت مديرة الاتصالات الاستراتيجية في وزارة الخارجية الإماراتية هند العتيبة بالتحاق طلبة إسرائيليين للدراسة في جامعة بن زايد، وسفر طلبة إماراتيين للدراسة في الجامعات الإسرائيلية.
وقّعت الجامعات الإماراتية مع الجامعات الصهيونية مذكرات تفاهم للتعاون "في عدد من المجالات"؛ التكنولوجية والأبحاث والدراسات والتدريب والمؤتمرات المشتركة وتنظيم الفعاليات، ومشاركة الخبرات، وتطوير المهارات...
التطبيع الطبي:
وتحت إطار "الخدمة الإنسانية"، بدأت خطوات التطبيع العلني بين الإمارات والكيان الصهيوني، مع الإعلان عن إطلاق عدة مشاريع مشتركة في المجال الطبي ومكافحة فيروس كورونا في حزيران/ يونيو 2020.
وتطور هذا الأمر مع الإعلان عن اتفاق "أبراهام"، ليشمل التوقيع على مذكرات تفاهم من أجل التعاون في مجال الصحة والبحث العلمي والتطوير وتبادل الموارد والخبرات، إلى جانب الصناعات الدوائية، والأبحاث الطبية.
وفي السياق نفسه، أجرى مستشفى هداسا – عين كارم في القدس مفاوضات مع مسؤولين في الإمارات بشأن فتح فرع له في إمارة دبي.
خاتمة:
تذرعت الإمارات بعلاقاتها مع الكيان الصهيوني بدعم عملية التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، ومواجهة الخطر الإيراني، ومكافحة الإرهاب، وغيرها... ولكن سير العلاقات بين الجانبين وتطورها يكشف ما هو أبعد من ذلك، وأخطر مما هو معلن. حيث أن هذه العلاقات تطورت بشكل كبير خلال فترة قصيرة، وتعمقت بشكل واسع ومنفصل عن القضية الفلسطينية، أو "العدو المشترك إيران".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق