بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
مضت عشر سنواتٍ على غياب الأسد الهصور والمقاوم العنيد، المقاتل المغوار الثائر الهدار اللواء محمود المبحوح، الذي استحق بجدارةٍ لقب المقاوم وصفة المقاتل، فقد قاتل بشرف وقاوم بصدق وضحى بسخاء، وبذل غاية ما يستطيع لرفعة المقاومة وشرف فلسطين،
وعمل بصمتٍ وهدوءٍ، في السر والخفاء، وبالقوة واللين، وبالإرادة واليقين، وتنقل في كل الساحات وسافر إلى كل البلاد، بحثاً عن طلقةٍ تسعف المقاومة، وصاروخٍ يقويها، وقذائف تثريها، ومتفجراتٍ تلزمها،
فما عرف المستحيل في بحثه، ولا استسلم أمام الصعب في مهمته، بل استهوى التحدي واستعذب المواجهة وتصدى لكل حاجةٍ،
وجلب إلى قوى المقاومة كلها، حماس وفتح، والشعبية والجهاد، وكل من رفع لواء المقاومة غيرهم، وصمم على المواجهة والقتال، كل ما يحتاجونه من سلاحٍ نوعيٍ، وأمدهم بالصواريخ والقذائف والآليات، وعمل إلى جانب أشرافٍ مثله ورجالٍ يشبهونه في دعم المقاومة الفلسطينية بكل السبل الممكنة.
نال محمود المبحوح شرف الشهادة وفضل الانتقاء، وارتقى إلى مصاف الشهداء، مختاراً من الله عز وجل، ومتخذاَ من عنده سبحانه وتعالى، ليكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جانب الشهداء الأطهار الذين سبقوه إلى المجد، وكانوا معه رفاق درب ورجال مقاومة،
وقد كان بنفسه جيشاً لجباً، ولواء مقداماً، وكتيبةً لا تتردد، لا يدخر جهداً إلا للمقاومة، ولا يفكر في استراحةٍ إلا استجماماً بعد عناء معركة وغبار مواجهة،
وقد أدرك أن الشهادة منيته كما هي أمنيته، وكان قد تعرض قبل استشهاده إلى محاولات اغتيالٍ كثيرة، وكان يشعر بأنه مراقبٌ ومتابعٌ، وأنه مقصودٌ ومستهدفٌ، لكنه ما خاف ولا جبن، ولا اختبأ وخنس، ولا هدأ وسكن، بل واصل دربه بقوةٍ، وشد مأزره بعزمٍ، فقائده صلاح شحادة الذي بكاه مُرَّ البكاء قد استعجل لقاءه، كما كان يحثه على الجد والعمل، فارتحل إليه صادقاً وفياً، محافظاً على العهد أميناً.
في مثل هذا اليوم قبل عشر سنواتٍ، التاسع عشر من يناير/كانون ثاني عام 2010، تآمر على اللواء محمود المبحوح ما يزيد عن أربعين رجلاً وامرأة من العدو الصهيوني، المجهزين بالوسائل التقنية، والمدربين على مختلف الفنون القتالية، وقد سبق لهم الجريمة إذ قاموا بمثلها كثيراً،
وقد وصلوا إلى دبي من أكثر من مكانٍ، يحملون صورته ويحفظون اسمه، تكالبوا عليه بكثرةٍ، واجتمعوا ضده بغلبةٍ، وتعاونوا مع أجهزة الأمن القذرة مثلهم، ليتمكنوا من مواجهة رجلٍ يعرفونه أسداً، ومقابلة مقاومٍ يعلمونه هزبراً، شجاعاً لا يجبن، ومقداماً لا يتردد، وقوياً لا يضعف،
تآمروا على قتله، ووضعوا مختلف الخطط لاغتياله، واستخدموا الخدعة والحيلة في الوصول إليه، إذ كان الخوف يسكنهم، والرعب يهز أوصالهم، والفشل يطاردهم، فهم يعلمون أن محمود المبحوح لا يهزمه رجلٌ واحدٌ ولا عشرة، ولا يقوى على صرعه كتيبة الرجال، أو الوقوف فيه وجه والتعرض لقبضته الفولاذية وغضبته المضرية، فلهذا تكاثروا عليه، وأعدوا لمواجهته عدتهم الخبيثة وسمومهم القاتلة.
علم الإسرائيليون أن وجود محمود المبحوح خطرٌ عليهم، وأن استمراره في مهمته يقلقهم ويعرض أمنهم وسلامة مستوطنيهم للخطر، فقرروا التخلص منه وإزاحته من طريقهم، بعد أن رسخ في أذهانهم أنه عازمٌ بقوةٍ وماضي بلا تردد، وسيواصل عمله بلا توقف، وقد أعد الخطط جيداً ورسم المسار واتفق مع تجار السلاح ومهربيه،
وبات تسليح المقاومة في ذهنه برنامجاً يجب أن ينفذ، وهدفاً يجب الوصول إليه، أياً كانت الصعوبات والعقبات، أو التحديات والمخاطر، ففلسطين التي عاشت في قلبه وطناً وبات تحريرها في وجدانه أملاً وهدفاً، تستحق منه ومن كل الشرفاء كل تضحيةٍ وفداءٍ، فهانت دونها الصعاب ولانت أمامه التحديات.
آمن المبحوح بضرورة خلق معادلة توازنٍ رعبٍ جديدةٍ مع الكيان الصهيوني، يحسب حسابها ويخاف منها، ويحترمها ولا يقوى على خرقها، رغم فارق القوة واختلاف القدرات والإمكانيات، إذ لا يكفي أن يواجه الفلسطينيون غاراته الهمجية وعدوانه المستمر عليهم، ببنادق بسيطة وعبواتٍ صغيرة، لا تكفي للنيل منه وإيذائه، أو صده ومنعه من العدوان عليهم، وفي كل عدوانٍ عليهم يكبدهم خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، إذ لا يجد ما يصده أو يمنعه، أو يقاومه ويردعه، ولا يحسب حساب رد الفعل والانتقام، ولا يخشى من وجود سلاحٍ رادعٍ قادرٍ على الرد والأذى، ولهذا سعى المبحوح لتغيير المعادلة وفرض شروطٍ جديدة، قوامها أسلحة فتاكة وصواريخ قادرة على الوصول إلى أبعد مدى في الكيان الصهيوني، وقادرة على إصابة أي هدفٍ مهما بَعُدَ بدقةٍ وقوةٍ، وتستطيع أن تلحق في صفوفه أذىً وضرراً بالغين.
في الذكرى السنوية العاشرة لاستشهاد محمود المبحوح، الذي لن يذهب دمه هدراً بإذن الله، إذ ما زال مرتكبو جريمة قتله يتوارون عن الأنظار، ويخفون شخصياتهم، ويموهون حركتهم، ويتنقلون بحذرٍ في الأماكن التي يظنونها آمنةً بالنسبة لهم،
لكنهم وغيرهم يدركون أن هذا الدم الطاهر سيثور، وجمر ناره الكامنة ستتقد ناراً ولهباً، وهذا السيف البتار سيخرج من غمده لينتصر له، ويثأر من قاتليه وينتقم له ولكل الشهداء، ولعله بعد عشر سنواتٍ ما زال حياً بيننا، قضيته حاضرة وشهادته شاهدة وقامته شامخة ورأسه مرفوع، وروحه الطاهرة بيننا تسري، وهو يروي بسيرته الطيبة وذكره العبق أرض المقاومة، ويحدو رجالها، ويمسك من عليائه بخطام الركب المبارك نحو النصر الأكيد والوعد المكتوب والعودة المأمولة.
سلام الله عليك ورحمته وبركاته أخي أبا العبد الأغر، أيها الفارس الذي ترجل، والجندي الذي سبق، والمقاتل الذي ما مَلَّ، والفلسطيني الذي ما يأس ولا تعبَ، سلام الله عليك أيها المحمود في الخالدين، طبت حياً وطبت شهيداً، وطوبى لك جنان الخلد والفردوس الأعلى، وهنيئا لك النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم رفيقاً، وصحابته الأخيار وشهداء أمتنا الأطهار، وإننا وإياك لعلى موعدٍ بإذن الله، نرفع البيارق ونعلي الرايات، وندخل بخطىً ثابتة واثقة أبواب القدس وأعتاب المسجد الأقصى المبارك.
بيروت في 20/1/2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق