أيهما أكثر ديمقراطية؟



ماهر الصديق


هذا رأي محايد لا غاية له إلا الإنصاف ، لأن الحقيقة يجب أن تقال ، و الحقيقة
لا تخفى بغربال . لا شك بأن العديد من الأخوة و الأصدقاء و الرفاق الأعزاء
لن يرضيهم هذا الراي كونه يخالف آرائهم التي لا تقبل النقاش ، لا سيما عندما
يتعلق الامر بموضوع يطلقون عليه " الاسلام السياسي " . ذلك ان البعض يرى
بأن الاسلاميين يجب ان لا ينخرطوا في السياسة و ان لا يكون لهم دور في الحياة
العامة لان مكانهم الطبيعي في المساجد و الدعوة و التعبد ، تماما كالزهاد و
العاكفين في الصوامع و المنقطعين للعبادة و التفكر ، و كأنهم من طينة اخرى
و ليسوا من المكونات الاجتماعية و لا يؤثرون و يتأثرون بما يدور حولهم
كغيرهم من الشرائح الاجتماعية غير الملتزمة دينيا . لقد راقبت طرفي
المعادلة من بعيد : الإسلام السياسي كما يرغب البعض ان يسميه و قوى اليسار
و العلمانية و معهما الأنظمة المستبدة من جهة أخرى . لم أجد من الأول مواقف
عدائية أو كيدية كما وجدت عند الثاني . الأول يعبر في كل مناسبة عن حرصة
على المشاركة و تداول السلطات و منع احتكار الحكم من قبل عائلة أو حزب أو
او طائفة او دكتاتور جاء الى الحكم بالوراثة او على ظهر دبابة ، و يدعو للاحتكام
لاختيار الناس . بينما الثاني يضع العراقيل من اجل عدم مشاركة الاول في العملية
الديمقراطية ، و لو تمكن الاول من المشاركة في الانتخابات فإن الثاني لا يقبل ان
يشاركة في الحكم اذا انتخبه الشعب ، و لا يقبل ان يسلمه السلطة كما هي التقاليد
الديمقراطية حتى في مجاهل افريقيا . و يلجأ للقوة و البطش لابعاد من اختاره
الشعب ثم يلصق به كل أشكال التهم و التشكيك التي ليس لها علاقة بالواقع
لا من قريب و لا من بعيد ، اللهم الا الانصياع لارادة الاستبداد و الامبريالية التي
لا تريد واقعا ديمقراطيا حقيقيا في بلادنا . القوى التي تتبنى الفكر اليساري و معهم
بقية الاتجاهات العلمانية لا يرون ضررا في مراعاة الاستبداد ! و يعتبرون انهم
يحققون مكاسب اذا عرض عليهم الحاكم المستبد حقيبة وزارية او وظيفة حكومية
أو سفير في احدى المنافي او بعض المقاعد النيابية . يؤكدون له الولاء و الطاعة
كلما سنحت لهم الفرصة . ولاء بثمن او دون ثمن ، و غالبا اذا كان بثمن فان الثمن
هو مصلحة حزبية او مادية او معنوية . و ربما يكون الثمن عبارة عن وزارة أو
مقاعد نيابية كما اسلفنا ، أو السماح بصحيفة أو وسيلة أعلام . ينافقون للحاكم المستبد
و يقدمون له الطاعة في كل مناسبة ، و يغضون ابصارهم عن جرائمه و خياناته و
فساده و انتهاكه لحقوق الإنسان ، فلا يرون المعتقلات المكتظة بالابرياء الذين لا
ذنب لهم إلا اختلافهم و معارضتهم و رفضهم للطغيان . و بهذا تتحول القوى التي
تدعي الديمقراطية إلى أدوات في أيدي الأنظمة و أقنعة لتجميل صورته و خنجرا
في خاصرة خصومه ، و عادة لا يكون خصومه إلا من الإسلاميين ، او من
المستقلين الذين يرفضون القمع و التنكيل و احتكار السلطة . هذا واقع عام لا
ينحصر في بلد واحد من بلادنا بل يشملها من محيطها إلى خليجها . لقد جرب
الاسلاميون اللجوء الى الشعب حتى لا يعارضوا من الجبال او من المخابئ بل
تكون معارضتهم من داخل مؤسسات السلطة ، او ان يكونوا على سدة الحكم اذا
اراد لهم الشعب ذلك . فعلا وصلوا عندما توفرت اجواء انتخابات نزيهة او معقولة
على الاقل ، لكنهم في كافة البلدان ووجهوا بجبهة مشتركة تشمل كل دعاة الديمقراطية
و معهم زبانية الحكم البائد و انتهاء باشباه المثقفين الذين يتلونون عندما يكون
ذلك ضروريا ! و في كل مرة يجد الاسلاميين انفسهم وحدهم لا يقبل احد من الاحزاب
مشاركتهم في قيادة البلاد ، و لا تريد السلطة الخاسرة ان تسلم لهم المقاليد ، و بهذا
تدخل البلاد في فوضى . حصل هذا في الجزائر و في السودان و تونس و فلسطين .
في كل بلد كانت تحدث كارثة نتيجة المكر و رفض الاسس الديمقراطية التي يريدها
البعض على مقاسه فقط . لقد اثبت الاسلاميون عن رغبتهم الحقيقية بالتغيير و
المشاركة و الاحتكام للديمقراطية . لم يفرضوا آرائهم على احد و لم يمارسوا اي
نوع من التسط . اختار الشعب التونسي العلماني منصف المرزوقي رئيسا للبلاد
و من بعده احد رجالات العهد القديم و المعادي للاسلاميين السبسي رئيسا ، ثم الرئيس
الحالي قيس سعيد و كلهم من خارج الحركة الاسلامية و تعاونوا مع الجميع بالرغم
من انهم قادرون على السيطرة على كافة الامور كونهم يمثلون الاغلبية النيابية . و
في فلسطين طالبوا الفصائل بالتعاون و المشاركة و تشكيل حكومة وطنية ائتلافية ، لم
يستجب لهم احد ، بل ان بعض القادة من فتح هددوا اي عضو فتحاوي يفكر بان
يشارك حماس ! فنحن امام مجموعات لا تفهم الديمقراطية و لا تعترف بها و لا
تقبل بما ينتج عنها . الديمقراطية بمفهومهم هو استمرار سيطرتهم على السلطة
و اذا آلت لغيرهم لا يقبلونها و لا يشاركون من اختاره الشعب . في مصر
اكد المراقبون المنصفون بان الديمقراطية الوحيدة التي عرفتها مصر عبر
تاريخها الطويل كانت الفترة التي حكم فيها الرئيس الراحل محمد مرسي رحمه الله
حيث كلف رجل مستقل برئاسة الحكومة ، و شملت الحكومة مجموعة من غلاة
المستبدين كوزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي و وزير الداخلية محمد ابراهيم .
لقد اكد المراقبون المحايدون ان الرئيس مرسي لم يأمر باعتقال احد من المعارضين
او يقفل محطة تلفزيونية او صحيفة او محطة اذاعة . لم يتعرض حتى لاشد الخصوم
من الذين فجروا في الخصومة ، بل و تسببوا باعمال عنف و قتل و اعتداء . لقد
تحدث قائد حرسه و هو برتبة عقيد انهم عندما تعرضوا لهجوم على مقر الرئاسة
سأل الرئيس اذا كان يجب ان يطلق النار دفاعا عن النفس ، رد عليه الرئيس : لا
تطلق النار الا عند الذروة ، فسأله الضابط : متى تكون الذروة ؟ قال الرئيس : عندما
تجد دمي مسفوحا على الارض ! لكن عندما تولى الحكم هذا المجرم المنقلب قتل
في ساعة واحدة 6 الاف بريئ و حرقهم احياء في رابعة و ادعى انهم كانوا مسلحين .
و لا زال يعتقل عشرات الالاف من الابرياء قضاة و اساتذة جامعات و علماء و مشايخ
و طلاب و كتاب و من عامة الناس فقط لميولهم الفكرية و العقائدية و لرفضهم الظلم
و الاستبداد . هذا عدا الانتهاكات لحقوق الانسان التي وثقتها مؤسسات دولية و
اعتداءات على الممتلكات و الاعراض و بيع لمقدرات البلاد و تخلي عن الاراضي
و المياه و حقول الغاز . مع كل ذلك فان القوى اليسارية و العلمانية تقف بشدة
خلف هذا المجرم ، و تعتبره المخلّص الذي انقذ مصر من الاسلاميين ! و سيبقى
هذا الدكتاتور الجديد على راس اكبر دولة عربية مادامت القوى الديمقراطية تسانده
و الشعب يفتقر لقيادة حكيمة طليعية تقوده للتحرر من الحكم الدكتاتوري العسكري .
اما دكتاتورية الاحزاب اليسارية و العلمانية فحدث و لا حرج . و اذا قارنا بينهم
و بين الاسلاميين نجد الديمقراطية الحقيقية عند الاسلاميين و ليست عندهم ، و الدلائل
على ذلك كثيرة يصعب حصرها و لكن نقدم بعضها هنا . بتاريخ 11 كانون الثاني
2010 تنازل زعيم الاسلاميين في مصر عن مركزه طواعية و قال يومها محمد
مهدي عاكف رحمه الله : اتنازل عن فترتي الثانية و اترك المجال لمجلس الشورى
لاختيار بديلا عني . و قبله تنازل الرئيس السوداني الاسلامي عام 2006 عن
السلطة و عندما سأل احد الصحفيين الرئيس عبد الرحمن سوار الذهب : هل التزمت
بوعدك للسودان وأهله؟ رد قائلا : " أضفتُ فوق تلك المدة عشرين يوما فقط حتى
تكتمل الانتخابات الديمقراطية، وقد اكتملت، سلّمتُ مقاليد السلطة للحكومة المنتخبة
الجديدة ، ولرئيس وزرائها الصادق المهدي ثم انسحبتُ " ! و هناك العديد من مشاهد
الديمقراطية في الاحزاب الاسلامية على مستوى العالم الاسلامي و لكننا نريد الحديث
في واقعنا الفلسطيني . فلقد تخلى خالد مشعل عن قيادة حماس و رفض مطالبات كثير
من المقربين له بالترشح من جديد ، و قبله موسى ابو مرزوق الذي كان رئيسا ثم
نائبا للرئيس ثم عضوا في القيادة ، و بينهما رمضان شلح رحمه الله الذي تخلى عن
منصبه لنائبه . اما عند القوى اليسارية او العلمانية فإن الامين العام مخلد الى الابد،
بعضهم في منصبه منذ تأسيس منظمته و الى الان بل و حتى الموت ، محاكين بذلك
مقولة الملك الاشبيلي المعتمد بن عباد الذي قال لابنه الرشيد : الملوك يا بني من
القصور الى القبور . و لا يستثنى في هذا المجال الا الراحل جورج حبش الذي
تخلى عن الامانة العامة للشهيد ابو علي مصطفى و الراحل عبد الرحيم ملوح
الذي تخلى عن منصب نائب الامين العام . فأي ديمقراطية يتحدثون عنها و يدافعون
عن افكارها ، فإذا كانوا على مستويات حزبية لم يتنازلوا عن مناصبهم فكيف لو
اصبحوا على كرسي الحكم ؟! لهذا فانهم لا يتوانون عن دعمهم للاستبداد الحاكم
في فلسطين و غيرها من الدول العربية بالرغم من معرفتهم بان الحكام المستبدين
يحكمون بغير ارادة شعوبهم ، و انهم مفروضين بقوة السلاح و القمع و التنكيل .
ليعذرني الاخوة الاعزاء و الرفاق الكرام على هذه الصراحة ، فالحقيقة يجب
قولها و إن كانت مرة ، و من يعرفني منهم يعرف صراحتي و التماسي للحقيقة .
و بهذا المجال انا لا انزه الحركات الاسلامية و بعض قيادييها من الاخطاء ، ربما
بعض تلك الاخطاء فادحة و لا يمكن التسامح بشأنها . و عندما اتحدث عن الاسلاميين
استثني منهم التكفيريين و المجرمين الذين يتخذون من قتل المخالفين اسلوبا ، كتنظيم
القاعدة و ما تفرع عنه من منظمات و لا سيما منظمة داعش الاجرامية المشبوهة ،
التي هي اداة في ايدي الاستبداد و الصهيونية ، و هي انشأت اصلا للوقوف في وجه
قوى التغيير و الديمقراطية و كان معظم ضحاياهم من الاسلاميين و الابرياء من
المواطنين الامنين . و استثني غلاة الوهابية من المداخلة و غيرهم ممن يجعلون الحكام
في قداسة الاله ، يدافعون عن الحاكم المستبد الظالم بكل ما اوتوا من قدرة ، و يكفرون
كل معارض للنظم الشمولية و الدكتاتورية . انهم بنظري مطايا للحكام المستبدين
يقومون بتخدير الشعوب لمنعهم من الثورة على الفساد وعلى نهب الثروات و الخيانة .
عندما نتحدث عن الاسلاميين فاننا نعني اؤلئك الذين يؤمنون بالتداول السلمي للسلطات
و بحرية الناس في افكارهم و معتقداتهم ، كما تعلموا من النبي عليه الصلاة و السلام
و من الصحابة رضوان الله عليهم . النبي الكريم الذي وضع دستورا لاهل المدينة
يناسب كل من يعيش فيها من المسلمين و غير المسلمين . و الصحابة الذين احترموا
عقائد الناس و افكارهم و لم يتعرضوا لهم لمخالفتهم ، فلقد عاش تحت حكمهم كل
الناس على مختلف دياناتهم و عقائدهم بامان و دونما مساس ، بل كانوا ياخذون
حق غير المسلم من المسلم مهما كانت مكانته المادية او المعنوية ، و ربما كانت
قصة القبطي مع عمرو بن العاص و ابنه اكبر دليل على العدل الاسلامي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق