الفضل شلق
ما هو دور المثقفين العرب في تشكيل الثقافة التي ينتمون إليها، بالأحرى ما هو دورهم في إعادة تشكلها بما يجيب على ما يُطرح من أسئلة العصر؛ أو في طرح أسئلة وحلول جديدة غير ما تعودنا تكراره؟ ربما اعتبروا أنفسهم أوصياء على العلم السائد (الحديث)، كما يعتبر علماء الدين أنفسهم ورثة الأنبياء بسيطرتهم على المعرفة الدينية.
ما يميّز الباحث عن المثقف هو أن الباحث يبحث في العلم معتبراً هدفه الوصول الى معرفة جديدة مهما كانت النتائج. هو يهدف الى المعرفة في سبيل المعرفة. أما المثقف فهو يبغي المعرفة لاتخاذ موقف في السياسة. نطرح هنا ثلاثة مواضيع سياسية عربية فيما يخص الفكر السائد. وما هي مقاربة المثقفين للموضوع، وكيف يستخدمون معرفتهم في هذه المقاربة. المواضيع الثلاثة المقترحة هي مسؤولية الامبريالية في تقرير مصير بلادنا. المسألة الثانية هي مسألة فلسطين ومقاربة مجتمعاتنا بما فيه المثقفين لها، ثم التكنولوجيا وما هو دورها في الوعي أو الممارسة.
بلادنا العربية جميعها مستقلة. تعاني هزيمة صارخة في إدارة شؤونها من جملة ذلك قضية فلسطين وتطوراتها الأخيرة. إزدياد الفقر والأمية هزيمة أيضاً. ثورة 2011 كانت محاولة في دفع الأمور نحو إسقاط الاستبداد وولوج درب التنمية الحقيقية. قضت على هذه الأمال الثورة المضادة. عادت الأحوال أسوأ مما كانت. فشلت الثورة. كانت عربية شاملة، بمعنى أنها حدثت في وقت واحد في جميع البلدان العربية. نجحت الأنظمة في تحويلها الى حروب أهلية. معنى ذلك أن العروش قد اهتزت. فقدت المنطقة استقرارها. لن تعود الأمور الى ما كانت عليه قبل 2011. الاستبداد صار أشد مما كان.
الأهم هو أن المجتمعات العربية قد انهزمت أمام أنظمتها. لم تستطع هذه المجتمعات بناء دولة حقيقية ولا ديمقراطية ولا تنمية. لم تستطع ولوج درب الحداثة. هل يعود الأمر الى أمر ما يكبح هذه المجتمعات، أم أننا نمضي في إلقاء اللائمة على الخارج؟ على الغرب ومؤامراته، وعلى الاستبداد وقصر نظره. لم نجب على السؤال: هل هي هزائم مجتمع أم هزائم أنظمة؟ كيف انهزمنا واسرائيل في تقدم مضطرد؟ هل يكفي القول أن الغرب، خاصة الولايات المتحدة، تدعم اسرائيل؟ أم أن إسرائيل أحسنت استخدام الدعم لصالحها ضدنا؟ ذلك في وقت لم نستطع استخدام مواردنا في خدمة مجتمعاتنا، علماً بأننا نتلقى دعما خارجيا أيضاً. السيطرة الامبريالية تمنعنا. هل استطاعت منع مجتمعات ودول كانت أدنى من مجتمعاتنا على سلم التقدم، بينما هي الآن في مقدمة دول العالم (دول آسيا الشرقية). ما زال كثيرون منا يضعون اللائمة على الغرب. نضع أنفسنا في مواجهة الغرب ثم نلومه على ما نحن فيه. هل فكرنا في معنى أن نكون مجتمعات لا دول لها؟ بل أنظمة استبداد وحسب. هذه ليست دول. هي مجرد أنظمة تنخر في المجتمع، في وقت يسحب منها الشرعية ولا يضع بديلاً لها. الدولة في النهاية هي الشرعية وهي قرار المجتمع؟ هي المجتمع القادر على اتخاذ قرار من خلال الدولة، لا النظام الذي يأخذ القرار دون المجتمع وفي وجهه.
لا نستطيع تحمّل الجواب، وهو أن العلة فينا، وفي تفكيرنا وأساليبه، وفي وعينا وفواته، وفي عقلنا الذي اعتاد على تكرار الخطأ. نخوض صراعات على مدى العقود الماضية بين بعضنا وضد الغير بنفس الشعارات والأساليب والسياسات. ما كان الاستبداد قادراً على إخضاعنا لو لم نكن قابلين للخصوع. نكرر ما ذكرناه في مقالة سابقة تم نشرها. فكأننا لا نستطيع إبداع مقالة جديدة بأفكار جديدة. والأدهى تكرار ما قال فلان عن فلان عن فلان. ما زلنا في طور النقل. طريقة العرب في معالجة مسائل التاريخ في القرون الأولى بعد الهجرة كانت صحيحة، لأنهم أرادوا الدقة في النقل والحديث. أما أن يأتي من يقول بالنقل بعد خمس عشرة قرناً، فمعنى ذلك أنه لا مكان للعقل إلا في النقل عن الأوائل. ذيل على التذييل. تهذيب على التهذيب. تقديس ما قاله الأوائل. ولا أدري إذا كان الأوائل ينوون تقديس ما يقولونه.
لكن المثقف لا معنى ولا قيمة له إذا لم يكن مشاغباً، يطرح أفكارا غير مألوفة، وأسئلة يصعب الجواب عليها، وأجوبة لا توافق عليها السلطات القائمة. السلطات القائمة يمكن أن تكون سياسية تقبض على الدولة، أو دينية تقبض على المجتمع؛ وكلٌ منهما يتعاون مع الآخر. يشددان التضيق عى المثقفين. هؤلاء يخضعون لضغوط كبيرة. تحاربهم السلطات بالتهديد، أو السجن، أو النفي، أو القتل، أو بكل ما سبق، دون أن ننسى التعذيب والإدانة والاتهام والإذلال. على الدوام لدى السلطات وسيلة هامة لإخضاع المثقفين وهي إفقارهم. اعتمادهم على رواتب لا يملكون غيرها ربما، ويفقدونها إذا طرحوا أو اعتنقوا آراء لا توافق عليها المراجع العليا. شريحة قليلة من المثقفين يتوفر لديهم ترف المشاغبة، وهم الذين يملكون وسائل العيش. لاحظ لينين أن أولاد البورجوازية والنبلاء يساهمون مساهمة كبيرة في الثورة.
في البلدان الديمقراطية المتقدمة يزدهر وضع المثقفين نسبياً. يحتاج النظام الى آراء جديدة. ولا يمانع ضدها إلا في ظروف محدودة: ذلك عندما يكون النقد يطال أسس النظام. حتى في تلك الحالة، يُترك للمثقفين مجالا واسعاً للمشاغبة. لكن هذه الأنظمة أحدثت الى جانب الجامعات، ذات الحرية الكاملة، مؤسسات للتفكير وطرح الأسئلة والأجوبة. وهي أسئلة ممولة، والأجوبة ممولة، والخروج عليها أجوبة ممولة. أنتج الاقتصاد السياسي للغرب دائرة واسعة للحريات. بقيت دائرة الحريات عندنا ضيقة. بقي الفرد مقيداً بما يقوله الاستبداد السياسي والمجتمعي. توسعت دائرة الحريات في الغرب بسبب وثوق هذه المجتمعات من نفسها. وبسبب رسوخ الأنظمة فيها. وبسبب تطوّر أنظمتها الى دول.
تفاقم الاستبداد عندنا بسبب عدم وثوق الأنظمة من نفسها، وارتخاء شرعيتها، وغياب كونها الوعاء للمجتمع. تفاقم الاستبداد عندنا بعد فترة من الليبرالية في أيام الاستعمار، بسبب اختلال الدين والسياسة والمجتمع. في قعر كل هذا الخليط عدم ثقة المجتمعات بنفسها. جاء نابليون في نهاية القرن التاسع عشر وهزم المصريين بساعات، كما يقول الجبرتي. وكانت الدولة العثمانية تنوء تحت عبء الانكشارية التي أصبحت خارج التاريخ. الى أن أخرج السلطان محمود الثاني الدولة العثمانية من أزمة العسكر. لكن بعده بقيت إزالة المجتمع. خلال القرن التاسع عشر جرت عدة محاولات للإصلاح في الثلاثينات والخمسينات. لكنها جميعها لم تشمل ارتداد المجتمع على نفسه. اعتقد الجميع بما فيهم السلطان العثماني، والنخب التركية والعثمانية، أن الإصلاح يكون في تغيير هيكلية السلطة، من العسكر الى البيروقراطية. الى أن جاء أتاتورك فاعتمد تغييرات فجائية في المجتمع، من منع لبس الطربوش الى تغيير خط الكتابة العربية في اللغة الرسمية، وكانت التركية. أحدث أتاتورك تغييرات ثورية تتجاوز ما يمكن لكل ثورة أن تدركه. غيّر اللباس والكتابة، عملياً اللغة، وكل ما يتعلّق بالمجتمع التركي. إلا أنه لم ينفذ الى الدين. الدين السياسي الذي أسس له السلطان عبد الحميد بقي حياً. الى أن ظهر بعنف يضاهي أتاتورك في القومية التركية-الإسلامية التي رفضتها أوروبا، فارتدت الى المشرق العربي الذي اعتبره داود أوغلو مدى حيويا لتركيا. بقي الإسلام لا يقر ولا يعترف بالوقائع. جوهرها أن الدولة الحديثة لا تحتمل الحديث القومي، فيما يتعدى حدود الدول. فكيف به يقر سلطة أسرة عثمانية على ما كان لها في حدود الامبراطورية؟
في إيران ارتدت الدولة من الحداثة، على علاتها، والتي حاول الشاه فرضها، الى إسلام سياسي جوهره قومية فارسية. تخلت عن الحداثة إلا في التكنولوجيا. هل استطاعت الثورة الإسلامية ولوج العلم الذي صار هو ما ينتج التقنيات؟
يعتقد الذين حرروا الأرض أنهم يستطيعون أن يديروا البلد بأساليب استخدموها في النضال الذي استخدموه ضد الاحتلال. مواجهة الاحتلال تتطلب تعبئة عامة. كل من يخرج عنها يمكن أن يُتهم بأشياء شتى، ومنها العمالة للمحتل على أساس أن أي من يتصل بالعدو أو من يدعمه يمكن أن تكون لديه معلومات تفشي أوضاع المقاتلين وهم في حرب صعبة. حرب التحرر الوطني.
مع التحرر من الاحتلال يأتي دور بناء أنظمة الدولة وأجهزتها والاقتصاد والبنى التحتية. كل ذلك يتطلّب نقاشاً واسعاً، يفضي الى اتخاذ قرارات نحو البناء والتشييد والعمل والانفتاح. كل ذلك يتطلّب نقاشا يكون فيه الاختلاف سيد الموقف. من حق المجتمع أن يناقش أموره عندما تصبح أرض الدولة له.
معركة التحرر الوطني تتطلّب تأييداً كاملا للمقاتلين. صحيح أن القتال فرض عين، لكن يصبح فرض كفاية على أساس أن الجميع لا يستطيعون أن يقاتلوا؛ وإن من لا يقاتل عليه دعم المقاتلين. معركة بناء الدولة تتطلّب التخلي عن التعبئة الشاملة، وإفساح الحرية للجميع. تصبح الحرية فرض عين.
فشل المثقفون عندنا بسبب الاستبداد السياسي والمجتمعي. طالهم هذا الاستبداد بالرقابة والسجن والنفي والتشريد والقتل. عدد كبير من المثقفين قتلوا لأن لديهم آراء تخالف السلطة أو تتجاوز الدين السياسي المسيطر على المجتمع. يعتبر الطغاة الذين يحكمون بلادنا هم وحدهم الذين يملكون الرأي السديد؛ لا أحد غيرهم. يعتقد سدنة الهيكل في الدين أن المعرفة موجودة في بطون كتب التراث، وهم وحدهم “الخبراء” الذين يستطيعون فهمها وإنتاج المعرفة منها. لم يستطع المثقفون، على العموم، الخروج الى العالم والاندماج في المعاصرة، ولم يستطيعوا تجاوز الثقافة الموروثة. بقينا المجتمعات تدور حول نفسها. بالأحرى منغلقة على نفسها. بقي العقل مغلقاً.
مسألة المثقفين ليست معرفية وحسب. هي سياسية بالدرجة الأولى. عندما تقفل الأبواب بوجه المثقف، وعندما يفرض عليه بالقوة والعنف والإكراه تبني فكرا ما، فإنه مضطر لإعلان ذلك. ربما أضمر غيره. عندما يكون النفاق، تتراجع الأخلاق. يتفتت المجتمع.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق