ماهر الصديق
في رده على رسالة الملك الانكليزي الصليبي الحاقد ريشارد
قلب الاسد التي قال
فيها بان : القدس متعبَّدنا ، لا نتنازل عنها ولو لم يبق منا إلاّ واحد ، قال الملك
الناصر صلاح الدين الايوبي رحمه الله : القدس لنا كما هي لكم ، وهي عندنا
أعظم مما هي عندكم ، فإنّها مسرى نبيّنا ومجتمع الملائكة ، فلا يُتَصوّر أن
نتنازل عنها ، ولا نقدر على التفريط بذلك بين المسلمين . وأما البلاد (فهي أيضاً
لنا في الأصل) واستيلاؤكم عليها كان طارئاً عليها لضعف من كان فيها من المسلمين
في ذلك الوقت ، و لن تعمروا عليها حجر ما دامت الحرب قائمة . أما السلطان
العثماني عبد الحميد الثاني رحمه الله فقد بعث للزعيم الصهيوني هرتزل الذي عرض
تقديم المال مقابل السماح لليهود بالهجرة الى فلسطين : " إنصحوا هرتزل بألا يتخذ
خطوات جدية في هذا الموضوع فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض
فلسطين ، فهي ليست ملك يميني ، بل ملك الأمة الإسلامية ، ولقد جاهد شعبي
في سبيل هذه الأرض وروّاها بدمه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم ، وإذا مزقت دولة
الخلافة يوما فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن.. ولكن التقسيم لن يتم
إلا على أجسادنا " . هذه كانت قيمة فلسطين عند غير الفلسطينيين و العرب من
الحكام المسلمين ، و هناك مواقف اخرى مشابهة من بعض حكام الدولة الايوبية
و من السلاجقة و المماليك و الاخشيديين كلهم استماتوا دفاعا عن عروبة و
و اسلامية الارض المقدسة . بقي الامر كذلك حتى منتصف القرن العشرين او
قبل ذلك بقليل حيث كان يتصل بعض العرب من اتباع الانكليز و الفرنسيين بقادة
الصهاينة سرا و يتعاطفون معهم و مع اقامة كيان لهم على ارض فلسطين ، و
بالاخص فيصل و عبدالله ابنا الشريف حسين و عبد العزيز آل سعود امير نجد . و
كان اول من تجرأ من العرب و اعلن جهرا عدم معارضته لتقسيم فلسطين لدولتين
هو الرئيس التونسي بورقيبة و ذلك في 21 نيسان 1965 عندما قدم مشروعه
القائم على قرار التقسيم ، و الذي يرتكز على ثلاث نقاط اساسية :
اولا : تعيد " اسرائيل " ثلث المساحة التي احتلتها لتقوم عليها دولة فلسطينية .
ثانيا : يعود اللاجئون الفلسطينيون الى دولتهم الجديدة .
ثالثا : تتم المصالحة بين العرب و " اسرائيل " و تنتهي الحرب بينهما .
لقد رد الفلسطينيون و العرب على هذه المبادرة المشبوهة بالرفض و الادانة ، و
أصدرت منظمة التحرير الفلسطينية بياناً بتاريخ 23 نيسان 1965، شجبت فيه
تصريحات بورقيبة، كما دعا رئيس المنظمة الراحل أحمد الشقيري الى عقد اجتماع
فوري و استثنائي لمجلس الجامعة . وعقد المجلس الوطني الفلسطيني دور انعقاده
الثاني في القاهرة ، خلال الفترة من 31 ايار حتى 4 حزيران 1965، بحضور
الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وأعلن أن تصريحات الحبيب بورقيبة خيانة
عظمى للقضية الفلسطينية . و اصدرت معظم الدول العربية بيانات استنكار
لتصريحات بورقيبة و قامت مظاهرات في عديد من العواصم تندد بالتنازل عن
فلسطين و تدعو للتمسك بعروبتها و اسلاميتها من النهر الى البحر . و منذ ذلك
الوقت خرست الالسن الداعية للاعتراف بكيان الاحتلال و لاقامة دولتين على ارض
فلسطين ، مع وجود اتصالات سرية هنا و هناك لكنها لم تتجرأ على مواجهة الغضب
الشعبي العربي الذي يرفض التنازل عن ارض فلسطين مهما كان الثمن ، و كان معظم
القادة الوطنيون من فلسطينيين و عرب يتفهمون الاختلال بالتوازن العسكري بيننا و
الصهاينة خصوصا في ظل الدعم غير المحدود من قبل الادارات الامريكية و الدول
الغربية ، لكنهم كانوا يراهنون على المقاومة من جهة و على التغييرات التي يمكن
ان تحدث في الموازين الاقليمية و الدولية . الشيئ الطبيعي الذي يعلمه كل عاقل بان
الشعوب تتغير و الموازين تتقلب و القوي يكون ضعيفا في مرحلة و الضعيف
يصبح قويا في وقت ما . و الحق لا يمكن ان يضيع بجرة قلم و لا بتنازل صاحب
الحق او غيره لمصلحة الباطل . بقي الامر كذلك حتى اعلن الرئيس المصري انور
السادات في خطابه امام مجلس الشعب بتاريخ 9 تشرين الثاني 1977 استعداده
لزيارة كيان الاحتلال ، ثم اتبع ذلك توقيعه على اتفاقية كامب ديفيد . كذلك كان
واضحا ان هناك مفاوضات و اتفاقيات سرية بين بعض العرب و بين الصهاينة .
و لكن الطامة الكبرى كانت بموافقة المؤسسات الرسمية الفلسطينية على فكرة
الدولتين ! جاء ذلك مبكرا في دورة المجلس الوطني العشرين في الجزائر المنعقدة
بين 23-28 ايلول 1991 حيث قرر المجلس في الفقرة الاولى : الاستناد لقرارات
الشرعية الدولية ، بما فيها قراري مجلس الأمن 242 و 338، والالتزام بتطبيقهما،
بما يكفل الانسحاب الإسرائيلي الشامل من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة
بما فيها القدس الشريف، وتحقيق مبدأ الأرض مقابل السلام ، والحقوق الوطنية
والسياسية للشعب الفلسطيني ! و بهذا تكون المنظمة قد خطت خطوة سياسية خطيرة
الغت من خلالها الموقف الذي اتخذه المجلس الوطني الثاني عشر المنعقد في القاهرة
بين 1-8 حزيران 1974 الذي اكد في الفقرة الثالثة على : ان منظمة التحرير تناضل
ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل
عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير مصيره فوق
ترابه الوطني . ثم توالت المواقف و القرارات بالانزلاق اكثر فاكثر نحو فكر
التسوية القائمة على اقامة دولتين ، و وصل لذروته في اتفاق اوسلو و بعد ذلك
في قرار المجلس الوطني 21 الذي عقد في غزة في نيسان 1996 بحضور الرئيس
الامريكي كلنتون و الذي تم بموجبه الغاء الميثاق الوطني الفلسطيني ، و الاعتراف
بكيان الاحتلال الصهيوني . هذا التطور الكبير في الانحدار الفلسطيني تلقفته
الدول العربية التي سارعت لعقد اتفاقيات مع العدو ، بدأت باتفاق وادي عربة
و بفتح الممثليات " الاسرائيلية " و مكاتب تجارية في عدد من الدول مثل عمان
و قطر و الامارات و تونس و المغرب ،و لم تنته بعد في التطبيع الذي يجري الان بين
الامارات و البحرين و المغرب و السودان و كيان الاحتلال الصهيوني . ان اغرب
ما يمكن ان تلاحظه في هذه المجادلات التي تدور في حلقة فارغة ان الصهيوني
المغتصب للارض الفلسطينية يتصلب في مواقفه و يرفض حل الدولتين و يهوّد
الاراضي و يتوسع في المستعمرات و يمارس اجرامه اليومي بحق اصحاب الارض
فيما يتمسك بعض الفلسطينيين بهذا الوهم الذي لا يمكن تحقيقه ! ان فلسطين
هي ارض الفلسطينيين منذ فجر التاريخ ، بنوها اجدادهم العرب الكنعانيين و اليبوسيين
و غيرهم من القبائل العربية التي جاءت في موجات هجرة قبل ميلاد السيد المسيح
عليه السلام بآلاف السنين . و لم يغادرها الشعب الفلسطيني اطلاقا بالرغم من الغزوات
التي تعرض لها على مر العصور ، و كان من تلك الغزوات الغزو العبراني حوالي
1200 قبل الميلاد . لقد قاتل الفلسطينيون كل الغزاة و لم يتخلوا عن وطنهم المقدس
و لم يستسلموا بالرغم من كل الصعاب و قدموا التضحيات و لا زالوا . لقد سقط منهم
70 الف شهيد خلال الاحتلال الصليبي للقدس ما بين 7 حزيران الى 15 تموز من
عام 1099 . و هم في رباط و صراع لا ينتهي الا بازالة الكيان الصهيوني المغتصب
لارض فلسطين . ان فلسطين لم تتسع في الماضي لدولتين و لن تتسع في الحاضر او
في المستقبل الا لدولة واحدة هي دولة فلسطين المستقلة على الارض التاريخية . اما
الدعوات لاقامة دولتين ما هي الا محاولات بائسة مآلها الفشل ، فهذه الارض التي
لفظت الغزاة في الماضي ستلفظ الدنس الصهيوني في الحاضر ، و سيعود الحق الى
اصحابه مهما طال الزمان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق