بقلم : اللواء الركن (متقاعد) جهاد جيّوسي
من كتاب سيصدر قريباً بعنوان (في رحلة الصعود إلى الوطن)
في يوم من أيام صيف العام 1975م وقف فتىً طويل رياضي البنية يعتري وجهه حياء وخجل أمام مكتب الجبهة الشعبية – القيادة العامة في مخيم تل الزعتر شرقي بيروت، بعد رحلة طويلة مضنية بدأها من مدينة جنين بفلسطين المحتلة مروراً بالأردن فسوريا وإلى لبنان، يفتش عن من يتبنى حلم شباب وفتية متحمسين، ويعزز من قدراتهم للتصدي للإحتلال الإسرائيلي.
إستقبله الرفيق أبو نضال الأشقر مسئول المكتب، وأبلغ القيادة عنه بعد اجراء مقابلة سريعة معه اطمئن فيها للزائر، حسه الأمني الناجم عن خبرة طويلة بالعمل النضالي جعله يطمئن للفتى ذو ملامح الوجه الطفولية، والذي نام ما تبقى من يومه وليله الطويل بفعل إجهاد السفر.
تدقيق أمني شامل تم أجرائه على نادر فزع ذو الستة عشر ربيعاً وعلى أسماء أعضاء مجموعته ومعظمهم أكبر منه سناً، نتائج التدقيق الأمني كانت إيجابية، فتم تكليف المجموعة بعدة مهمات نضالية نفذتها بدقة بقيادة نادر إبن حارة السيباط، وكان للجبهة فيهم مرتكزاً قوياً بالداخل المحتل ووجهاً نضالياً مشرفاً.
نادر الذي اختار لقب أبو كفاح كساتر نضالي يخفي إسمه الحقيقي عاد ثانية إلى لبنان للقاء مسئوليه وليتم إلحاقه بدورة مكثفة بالجانبين التنظيمي والعسكري، فكان شعلة من النشاط والإستجابة للتدريب والذكاء والقدرة العالية على الحفظ واسترجاع المعلومات رغم زخمها وتنوعها، علي إسحق الذي كان يشغل موقعاً مهماً بالجبهة أوكلت له مهمة تقييم هذا الفتى المتحمس، كان معجباً به جداً وقال لرفاقه بالقيادة أن لذلك الشاب مستقبل قائد فأسماه فهد وكان له من إسمه كل النصيب، وعاد ليدرب مجموعته ويقودها بطريقة أكثر فاعلية.
المخابرات الإسرائيلية كثفت من متابعتها الأمنية وتمكنت بعد سنتين من عمل المجموعة الفدائية إلى الإهتداء لطرف خيط من خارج المجموعة مكَّنها من اعتقالهم عندما كان قائدهم في لبنان، والذي أصر على العودة مهما كانت النتيجة، وبذل الرفاق بالقيادة جهداً كبيراً لضبطه ومنعه من العودة خشية اعتقاله.
تم تكليفه بقيادة معسكر تدريب قرب قرية النجارية الواقعة جنوب مدينة صيدا وخدم في مخيم برج البراجنة في بيروت، ولاحظ الرفاق بالقيادة قدرته على التواصل مع الجماهير بكافة مستوياتهم، حيث كان له حضور لافت ومميز بين الناس البسطاء خاصة، وكان له ولرفاقه دور كبير بالتصدي لمجموعات أحمد جبريل والصاعقة والمدعومة من القوات السورية سنة 1977م والتي استهدفت مواقع الجبهة في مخيمات بيروت بعد عودة جبريل إلى لبنان التي طُرد منها بعد تأييده السافر للتدخل العسكري السوري في لبنان سنة 1976م، وبعد الإنفصال عن جبريل والعودة لإسم جبهة التحرير الفلسطينية تم تكليفه بقيادة الوضع التنظيمي والعسكري في مخيمي البداوي ونهر البارد شمالي لبنان، حيث تمكن خلال سنتين من تطوير أوضاع الجبهة بشكل كبير.
أبو كفاح الذي تعرفت عليه للمرة الأولى بمناسبة رفاقية في بيروت ترك بداخلي أثراً جميلاً، كان من الرفاق الذين يتميزون ببصمة خاصة، يقنعونك بهم كما هم بلا مجاملة أو إدعاء، وإضافة لكاريزميته وشجاعته وتقدير الرفاق له كان من مدينة جنين، تلك المدينة الوادعة الجميلة التي ترك أبنائها في نفسي الإنطباع الأجمل عندما زاملتهم خلال دراستي بالجزائر فصادقتهم، خفيفين الظل مرحين سريعي البديهة وأصحاب نكتة تأتي هكذا بلا تصنع، وما كان يميزهم أيضاً عشقهم لمحبوبتهم جنين وحنينهم إليها، ولم يكن حظ أبو كفاح فهد أقل منهم في حمله لتلك السمات، وهي بتقديري معجونة عجناً بجينات أهل جنين.
دعانا أبو كفاح ذات يوم (الرفيق توفيق القادم من المانيا وأنا القادم من الجزائر) لزيارة مخيماتنا في شمال لبنان حيث يداوم، رحبنا بالفكرة وانطلقنا ثلاثتنا من بيروت وفي محطة وقود على الطريق التقينا مصادفة الرفيق أبو العباس نائب الأمين العام للجبهة وقائدها العسكري، والذي دعانا بدوره – عندما عرف بنيتنا التعرف على الشمال اللبناني - لمرافقته في زيارة للقطاع الشرقي (العرقوب) في الجنوب، وكانت زيارة جميلة تعرفنا بها على الرفاق بذلك القطاع وعلى معالم المنطقة.
أكملنا رحلتنا عبر منطقة البقاع الشرقي ميممين صوب الشمال، وصلنا منطقة بعلبك في منتصف الطريق إلى طرابلس والشمس توشك على الغروب، وتفادياً لمفاجآت غير سارة على الطريق غير الآمن في منطقة جْرود عكَّار عرجنا على مخيم الجليل لزيارة مكتب الجبهة والتقينا الرفيق أحمد مراد المسئول التنظيمي للجبهة بالمنطقة، كادر هادئ الطباع مُسَيَّس لطيف المعشر، وقضينا ليلتنا هناك بعد سهرة مع بعض ساكنيه من كبار السن رووا لنا ما شهده المخيم من عسف وإذلال من موتورين معبئين طائفياً وعنصرياً.
يحضرني مشهدين خلال هذه الرحلة توقفت عندهما الذاكرة وأبيا أن يغادراها، الأول أن نبتة الحشيشة مزروعة على امتداد الطريق الرئيس الرابط بين أول منطقة البقاع قرب بلدة شتورا ومدينة بعلبك ووصولاً إلى منطقة الهرمل قبل الدخول بمنطقة جْرُود عَكَّار، والطريف بالأمر أن الحشيشة مزروعة بحديقة مركز شرطة طِلْيَا، وثاني المشهدين عندما أوقفنا حاجز عسكري سوري في منطقة راس الهرمل ليس بعيداً جداً عن مقر قيادة الفرقة السورية المنتشرة بالمنطقة، توقفنا خلف جرَّار زراعي كبير (تراكتور) يجر عربة كبيرة مليئة بالحشيشة، وأشار له الجنود لمواصلة الطريق، ليسألنا الجنود بعد أن عرفوا أننا من المقاومة الفلسطينية إن كان بحوزتنا سلاح فنفينا رغم أن بحوزتنا رشاش قصير وأربعة مخازن ذخيرة ومسدس مع عتاده وأربع قنابل يدوية، وللحقيقة كان سؤالهم من باب رفع العتب وبلا تدقيق، وسألونا إصطحاب جنديين من الحاجز لمقر الفرقة غير البعيد، أبو كفاح سألهم بامتعاض كيف يدققون علينا ولا يوقفون تجار الحشيشه، إجابة الجنديين المتلعثمة لم تقنعنا ولم تخفف من الحرج الذي انتابهما من هذه الملاحظة.
رغم سيطرة الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية والمسندة بقوات الثورة الفلسطينية على منطقة شمال لبنان وعاصمته طرابلس، إلا أن جيوباً كانت لا زالت بيد تنظيم المردة(32)، كما أن حزب الكتائب الفاشي كان له تواجد سري بالمنطقة، لذلك التزمنا الحذر في بعض مقاطع الطريق، وصلنا لمحطتنا الأولى مخيم البداوي ومنه انطلقنا إلى مخيم نهر البارد الأكبر حجماً وعدد سكان، وزرنا موقعاً عسكرياً للجبهة على البحر الأبيض المتوسط، وبالطبع زرنا طرابلس ومينائها الجميل وقهوة شمشون وضاحية صير الجميلة، وعايشنا تجربة رفاقنا هناك والمخاطر التي يواجهونها.
فدائيته وروحه المقاتلة وعشقه للعمل ولفلسطين جعلتني أختار العمل معه وبقيادته عن طيب خاطر رغم أنه أصغر مني سناً، كان قادماً من جمهورية فيتنام الاشتراكية منهياً دورة فدائيين – حرب عصابات يشتعل حماسة للعمل والبذل، صداقتنا مع الأيام توطدت، زارني بدورة الكادر المتقدمة في جبل لبنان وأعلمته برغبتي بالعمل سوياً، ومعه بدأت رحلتي كمتفرغ للعمل العسكري بالقطاع الشرقي (العرقوب) في جنوب لبنان.
في أحدى الليالي سنة 1981م إتصل به الرفيق برهان قائد قاعدة البُرغُلية القريبة من مدينة صور بالقطاع الأوسط على جهاز اللاسلكي يطلب حضوره، كان أبو كفاح حينها قائداً للجنوب، أصر على الذهاب بعد منتصف الليل، ولأن سيارته كانت معطلة طلب سيارة أحد رفاقنا بمخيم عين الحلوة، أمام إصراره على عدم تأجيل ذهابه إلى الفجر، رافقته رغم مخاطر الطريق الساحلي بين صيدا وصور ليلاً على أن أتركه وحيداً.
كان لديه قدرة كبيرة على التواصل مع المقاتلين، إذا عزم على تكليفهم أمراً تكون يده بيدهم، يشاركهم يعمل معهم فكان قدوة للمقاتلين، كيمياء عالية كانت تجمعه مع الناس، بكل فئاتهم وأعمارهم ومستويات تفكيرهم، محب لهم قريب إلى قلوبهم، لم يغادره الخجل ولا التواضع، له بصماته الجميلة في قلوب من عرفوه بمخيمات برج البراجنة وفي البداوي ونهر البارد، وأينما حلَّ وعمل، صاحب نخوة وكريم، لا تفارقه الإبتسامة والتفاؤل، المرة الوحيدة التي رأيته بها متجهماً مستفزاً عندما أساء أحد المقاتلين لعائلة مسيحية بمنطقة درب السيم القريبة من مركز قيادتنا والمجاورة لمخيم عين الحلوة، عاقبه عقاباً شديداً.
في الأول من شباط سنة 1982م كان عيد ميلادي، في ذلك اليوم كان بضيافتنا الرفيق أبو نضال الأشقر، وهو أول رفيق التقى نادر إبن الستة عشر عاماً القادم من مدينة جنين إلى بيروت ليلتحق مع مجموعته بالمقاومة، وخلال جولة طويلة بإقليم التفاح وقطاع العيشية – الوادي الأخضر كانت ذكرياتهما المشتركة محور الحديث، وتفاصيل لقائهم الأول، وفي الثالث من شباط غادرت مقر قيادتنا متجهاً إلى بيروت للإلتحاق بتجمع المرشحين للكلية العسكرية بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، وأذكر أنه حضر إلى بيروت لحضور عيد ميلاد فوفو، وهي مناسبة لا يمكننا أن نفوتها بالطبع، وفوفو هو إسم التدليل لوفاء الإبنة البكر لرفيقنا نائل عاصي، كانت تحبنا جداً ومتعلقة بنا عندما نحضر لزيارة أهلها ولرؤيتها وتدليلها، ونحضر لها شوكولاته "شوكوبرنس" كانت تحبها، كانت تنادي أبو كفاح "فح" وتناديني "داد"، وأذكر أنه تمنى لي كل الخير بمشواري التخصصي، متأكداً ومؤكداً أنني سأكون متميزاً بدورتي العسكرية، وهذا بالفعل ما كنت عليه.
ذات يوم أحب زيارة مقرنا وبترتيب مسبق إبن عمتي جمال الخطيب (جمال سليم)، والذي كان حينها قائداً للمشاغل المركزية لحركة فتح، كان مقره بحي الإسكندرون في مدينة صيدا وليس ببعيد عنا، كان جمال سمع عنه وأحب التعرف عليه عن قرب، سألته عند مغادرتنا سوية عن انطباعه فصدمني بتقييمه.... قال لي: "هذا الشاب مش إبن عيشه"، فمن يكون بهذا القدر من الإندفاع والإيثار والفدائية لا يعمر طويلاً.
تذكرت حديثه وتقييمه وأنا أجمع أشلاء صديقي ورفيقي الحبيب أبو كفاح فهد عن أغصان أشجار الكينا بمنطقة التعمير بأول مخيم عين الحلوة، كان ذلك يوم 13 شباط 1982م، كان في زيارة لمقر قيادة قوات الجبهة الديمقراطية بإقليم التفاح عندما سمع على الجهاز نداء لمن لديه خبرة بالمتفجرات لتفكيك سيارة ملغومة، فأصر على إبطال العبوات وتفكيكها، ونجح بفك صاعقين وبقي صاعق صدئ استعصى فكه، فطلب "زرادية" يستعين بها على معالجته، وحسب شهود العيان أنه كان مرهقاً جداً ولم ينتبه أن أحد الشباب أخذها وضغط بها على الصاعق فانفجرت العبوة الناسفة قتلت أبو كفاح ومعه كادرين من حركة فتح ومن الجبهة الشعبية، وكأنهم بدمائهم يؤكدون لنا كم هي ثمينة وحدتنا الوطنية.
الرفيق نادر فزع إستشهد وعمره 23 ربيعاً فقط، لم يمهله القدر طويلاً، ولكن حياته بكل تفاصيلها كانت زاخرة بالعطاء والنضال والتضحية، الفدائي الزاهد، الذي استشهد مُعْدَمَاً لم يثري ولم يكن لديه أية مقتنيات شخصية، جسده كان في لبنان وروحه وقلبه في جنين، معشوقته التي تاه كمتصوف في حبها، حاراتها ناسها شوارعها دبِّة العطاري مقهى النباتات المراح الألمانية السيباط، كان يختزنها داخله، تتخلله عميقاً.
جنازته كانت تليق به، من كل القطاعات العسكرية حضر أخوة ورفاق، من الجبهة ومن كل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، أكثر من 130 سيارة عسكرية حضرت من شمال لبنان حتى جنوبه تحمل فدائيين جائوا يودعون ذلك المقاتل، واللافت كان مشاركة مواطنين ومواطنات من أعمار مختلفة جائوا من المخيمات يودعون من أحبوه وأحبهم.
من حمل إسمه (نادر) كانوا عشرات من أبناء رفاقه الذين أحبوه وخلدوا إسمه، وهم الآن رجال يحملون الأمانة ويبنون مستقبل فلسطين الواعدة الجميلة، وإبني الأوسط نادر منهم، كلهم يحفظون حكايات عن ذلك الفدائي الخلوق الخجول، الذي كتب له القدر أن يغادرنا سريعاً فأوجع قلوبنا...
وهمسة لبلدية جنين أن تُكَرمه بإطلاق إسمه على ميدان أو شارع بمدينته التي عشق ......
فنادر فزع (أبو كفاح فهد) كان فدائياً وبطلاً بحق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق