جهاد سليمان \ عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
حول مفهوم الديبلوماسية الشعبية
إحتل مفهوم القوة الناعمة (SOFT POWER)، خلال النصف قرن المنصرم، حيزا مهما في السياسات الخارجية، للعديد من الدول الإمبريالية الكبرى، التي تتبنى استراتيجية إستعمارية، تسعى من خلالها الى توسيع رقعة نفوذها وسيطرتها العالمية، والهيمنة على الثروات الطبيعية للدول الأضعف، وإستباحة أراضيها، وتحويلها لقواعد عسكرية متقدمة، تخدم ذات الهدف الاستعماري التوسعي، ومن أبرز هذه الدول، الولايات المتحدة الامريكية، بإعتبارها الدولة الأقوى عالميا، من ناحية القدرات الاقتصادية والعسكرية، والتي تربعت على عرش النفوذ العالمي، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، والنتائج الكارثية التي لحقت بمعظم دول العالم، وعلى وجه الخصوص القارة العجوز (أوروبا)، التي وجدت نفسها غارقة، وسط ركام عواصمها، وأمام تحدي إعادة استنهاض وتجميع القوى والإمكانيات، للنهوض مرة أخرى، بعد الإنجاز التاريخي، الذي حققه الإتحاد السوفييتي وجيشه الأحمر، بسحق الفاشية العالمية، وخسارة ألمانيا النازية (الرايخ الثالث)، للحرب العالمية الثانية، وهذا ما أدى إلى تشكل مشهد سياسي عالمي جديد، ونشوء ما عرف بالقطبية الثنائية (BIPOLAR)، بين معسكرين متضادين، الأول بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، والثاني بقيادة الاتحاد السوفييتي، مما أدخل العالم في مرحلة (العصر الجديد) من الحروب، خاصة لما إتسمت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما عرف بتثبيت توازن الرعب العالمي، ودخول السلاح النووي (القنبلة الذرية)، إلى الترسانة العسكرية لكلا القطبين، التطور الذي أسدل الستار، على مفهوم القوة الصلبة (HARD POWER) في الحروب الدولية بالمفهوم الكلاسيكي المباشر، الذي إستخدم كوسيلة وحيدة، على امتداد عقود زمنية، في طموح تحطيم الخصم، وفتح الأسواق التجارية الجديدة، والاحتلال والاستعمار، وتثبيت الهيمنة الدولية.
برزت الى المشهد السياسي الدولي، حرب من نوع جديد، أدخلت العالم بأسره في إشتباك يومي صامت، تحكمه سياسية ما فوق الهدوء الطبيعي، وما تحت الحرب الشاملة، وهي ما عرفت بمرحلة الحرب الباردة (COLD WAR)، تخللها الحرب الفيتنامية، التي إمتدت ل(19) عاما، والتي شكلت حدثا مفصليا، لما تضمنته الحرب من جرائم، إرتكبتها القوات الامريكية وحلفائها بحق الشعب الفيتنامي ومقاومته، بقيادة مؤسس المقاومة الفيتنامية في منطقة الشمال (هو تشي منة)، مما أحدث حالة إستياء شعبي ودولي، من الهمجية والإفراط في إستخدام القوة، من قبل الجيش الأمريكي، وقد لعب الاعلام دورا مفصليا، في نقل صور الضحايا، والمجازر التي أودت بحياة الآلاف من المدنيين الفيتناميين والعسكريين، مما أضطر الولايات المتحدة الامريكية، التي إهتزت صورتها الخارجية، خاصة في الوسط الشعبي الأوروبي، الى انتهاج استراتيجية دفاعية من نوع جديد، للدفاع عن سياستها الخارجية (العدوانية)، والتصدي لحالة العداء والكره الشعبي الكبير، الذي ووجه به الديبلوماسيين الأمريكيين الرسميين، على مستوى البعثات الديبلوماسية والسفراء، في معظم دول العالم، وخاصة على صعيد أوروبا، في حين كان للأحزاب والمنظمات الشيوعية واليسارية، دورا بارزا في تعرية جرائم الجيش الأمريكي، وتصعيد التحركات والمظاهرات الشعبية، المطالبة بوقف الحرب على "فيتنام"، ومحاسبة المسؤولين الأمريكيين، وصولا الى شن بعض المنظمات اليسارية لعمليات عسكرية ضد مصالح وشركات أمريكية في بعض الدول الاوروبية كألمانيا الغربية، انتصارا للشعب الفيتنامي، الامر الذي دفع بالولايات المتحدة الامريكية، الى تفعيل سياسة القوة الناعمة، من خلال أحد أهم عناصرها، ألا وهي "الديبلوماسية الشعبية".
تشكل الديبلوماسية الشعبية، أحد أهم عناصر القوة الناعمة، بالإضافة الى العديد من العناصر الأخرى، التي تستخدمها الدول، لتحقيق ذات الهدف، الذي تسعى الى تحقيقه، عبر إستخدام "القوة الصلبة"، في سياق مشاريعها لبسط السيطرة والنفوذ والتوسع، والتأثير على الرأي العام العالمي، وإكتساب التأييد الدولي والشعبي الأكبر إلى جانب سياستها، - وبالعودة الى ما تم ذكره أعلاه -، حول تثبيت معادلة توازن الرعب، والنتائج الكارثية، التي انعكست على العالم بأسره نتيجة الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد أصبحت القوة الناعمة، وفي صلبها الديبلوماسية الشعبية، أحد أهم أشكال المعارك الصامتة و"الغير دموية"، التي تخوضها الدول على أرض الغير، وفي وسط جماهير ومؤسسات ومنظمات أهلية وغير حكومية وجالوية واسعة، لتحقيق هدف تشكيل رأي عام شعبي ومؤسساتي غير حكومي، يصطف لصالح الدولة وقضاياها، من خلال ممارسة عملية الضغط المباشر، على المؤسسات الرسمية، والحكومات في داخل بلدانها، مع الإشارة إلى أن إمتلاك الدولة لأدوات القوة الناعمة، لا يعني على الاطلاق، تخلي الدولة عن القوة الصلبة، بحيث تلعب القوة الناعمة وفي قلبها الديبلوماسية الشعبية، دورا مساندا للقوة الصلبة، تسنده وتستند عليه.
في الحديث حول الديبلوماسية الشعبية الفلسطينية، ومسار تطورها التاريخي، فيجب التأكيد أولا على الخصوصية، التي تتسم بها الديبلوماسية الشعبية الفلسطينية، بإعتبار أن الشعب الفلسطيني، يعيش مرحلة تحرر وطني، وهو (بنسب متفاوتة)، ينتمي الى حركة التحرر الوطني الفلسطينية، بما تمثل هذه الحركة من فصائل وأحزاب متعددة ذات (أيديولوجيات) متنوعة، وبرامج سياسية مختلفة، إن كان في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، أو أحزاب ما يعرف بالإسلام السياسي، نضيف على ذلك الخصوصية التي تتسم بها الجاليات الفلسطينية ومؤسساتها وإتحاداتها، وعليه فإن الديبلوماسية الشعبية بخصائصها الفلسطينية، تنطلق من واقع وأولويات، تختلف من حيث المضمون والمنهجية، عن تلك التي تمارسها شعوب الدول المستقلة، مع التقاطع من حيث المبدأ والأسلوب العلمي، في تفعيل هذا السلاح الشعبي، وإستثماره لصالح حصد نتائج إيجابية تصب في خدمة القضية الوطنية الفلسطينية.
على الرغم من عدم بلورة الفهم العلمي، للديبلوماسية الشعبية، (كحقل علمي)، وعلى الرغم من عدم تبني الحركة الوطنية الفلسطينية، لاستراتيجية واضحة في تفعيل هذا السلاح، على صعيد دول المهجر، خدمة للقضية الوطنية الفلسطينية، إلا ان ذلك لا يعني أن الشعب الفلسطيني، لم يمارس الديبلوماسية الشعبية، خاصة على صعيد القارة الأوروبية، والأمريكيتين، بل على العكس تماما، لعبت الجاليات الفلسطينية ومؤسساتها واتحاداتها، دورا مركزيا في دعم القضية الوطنية الفلسطينية، وفي مواجهة المشروع الصهيوني، المرتكز بشكل أساسي على تضليل الرأي العام العالمي، والترويج للسردية الصهيونية الكاذبة، إلا ان هذا الدور (الديبلوماسي الشعبي)، كان ومازال حتى الان، دورا فطريا، ينطلق من الدافع الوطني، ومن المخزون النضالي، للجاليات الفلسطينية، بإعتبارها جزء أصيل من الشعب الفلسطيني، ومساهم رئيسي، في معركة التحرر الوطني، إنطلاقا من موقع هذه الجاليات وإمكانياتها، وهذا ما جعل من القضية الوطنية الفلسطينية، على إمتداد (73) عاما من النكبة الفلسطينية الكبرى، حاضرة في وسط الجاليات الفلسطينية والمجتمعات التي تقيم بها، كما أن الانتشار الواسع للجاليات الفلسطينية، خاصة على صعيد أوروبا وأميركا الشمالية واللاتينية، وإمتلاكها للمؤسسات والمنظمات والجمعيات الاهلية، والاتحادات الجالوية، الغير مرتبطة بالمؤسسات الرسمية الفلسطينية، منح الديبلوماسية الشعبية التي تمارس بالفطرة، عناصر قوة إضافية، لتلك المشار إليها بالارتباط الوطني الكبير، للجاليات الفلسطينية بقضيتهم الوطنية.
تعاني الديبلوماسية الشعبية الفلسطينية، من ضعف في العديد من مفاصل العمل الرئيسية ومنها، عدم الادراك الفلسطيني الرسمي لأهمية الديبلوماسية الشعبية، التضارب بين الديبلوماسية الرسمية (الخارجية، السفارات)، مع الديبلوماسية الشعبية الفلسطينية، الانقسام الفلسطيني، ضعف الاعلام الفلسطيني، وتخلف أدواته مقارنة مع التطور الإعلامي، تشرذم المؤسسات والاتحادات والمنظمات الاهلية الفلسطينية في بلدان المهجر، ضعف الحضور السياسي الفلسطيني المؤثر في مراكز صنع القرار (البرلمانات، البلديات) بإستثناء حالات فردية، وعدم الاستثمار الحقيقي، لنمو حركة المقاطعة العالمية (BDS)، وإدراجها ببرنامج واضح في الديبلوماسية الشعبية الفلسطينية، بالإضافة الى مفاصل ضعف أخرى، مما يتطلب وضع استراتيجية عمل ممنهجة لآليات تفعيل وتطوير الديبلوماسية الشعبية، ضمن اطار استراتيجية نضالية متكاملة، تبدأ بتوجيه الديبلوماسية الشعبية، ببرنامج واضح، في مختلف دول المهجر، والحرص على الفهم العميق للمجتمعات المحلية، وذلك بالاندماج الإيجابي، والتعرف على العادات والتقاليد والمفاهيم، والمصطلحات المستخدمة في هذه المجتمعات، و امتلاك اللغات المحلية، وتعليم الأجيال الفلسطينية، للغتهم الأم، كي يتمكنوا من التواصل مع المجتمعات المحلية، وفق المفاهيم المستخدمة، إنشاء شبكة اتصالات واسعة بالاعلام المحلي، (المرئي والمكتوب)، وإنتهاج سياسة الاحتكاك اليومي مع الاعلام، من خلال المقالات الصغيرة المترجمة والمركزة، بالإضافة الى الاطلالات التلفزيونية، والتصريحات الصحفية (باللغات المحلة)، والدعوة الدائمة للأعلام المحلي لتغطية الفعاليات والتحركات، وتزويده بتحركات الجاليات، وترجمتها للغات المحلية، إنشاء علاقات قوية، بين الإتحادات الجالوية والمنظمات والمؤسسات، والمنظمات الدولية داخل الأمم المتحدة، والهيئات المنبثقة عنها، بالإضافة الى المؤسسات الحقوقية الأوروبية، و التواصل والتبادل الثقافي الدائم، مع المجتمعات المحلية، وإبراز التراث الوطني الفلسطيني، وتحويل الملف الثقافي الى صلة تواصل دائمة، بين المجتمعات المحلية والجاليات، وبينهم وبين الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل، وتنظيم حملات التبادل الثقافي والتراثي، وتحويل حركة المقاطعة العالمية، الى استراتيجية عمل في سياق الديبلوماسية الشعبية، وليست بالانفصال عنها، وهي ما تتيح مساحة تأثير واسعة، وقوة ضغط كبيرة، أثبتت نجاعتها في السنوات الأخيرة
تمر القضية الوطنية الفلسطينية اليوم، بظروف خطيرة ومصيرية، على الصعيد الداخلي (التشرذم والانقسام)، وعلى الصعيد الخارجي، (صفقة القرن ومشروع الضم)، وأمام هذا الواقع الحساس، تقع على عاتق الجاليات الفلسطينية في مختلف دول المهجر، مهمات وطنية كبيرة، في التصدي للمشروع الصهيوني، ومحاولاته المستمرة، للتهرب من الاستحقاقات الدولية، والتنصل من مسؤولياته، عن استمرار معاناة الشعب الفلسطيني، نتيجة استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وتصاعد مشروعه التصفوي للحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، ومن ناحية المسار الإقليمي لصفقة القرن، ومسار التطبيع العربي الرسمي، واستخدام كافة الوسائل، للترويج لفرضية إمكانية تحقيق "سلام"، بمعزل عن حل القضية الوطنية الفلسطينية.
جميع هذه التحديات، تجعل من الديبلوماسية الشعبية، حاجة وطنية وضرورة، في مسار حركة التحرر الوطني الفلسطيني، في ظل حالة الترهل الخطير التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني، ومؤسساته الفئوية، التي تخدم رؤية ومصالح الحزب الحاكم، في تعارض صريح، مع الطموحات الوطنية للشعب الفلسطيني، وتخلف الديبلوماسية الرسمية الفلسطينية، عن أداء واجبها الوطني، إتجاه القضية الوطنية والشعب الفلسطيني، بإعتبارها مؤسسات الكل الفلسطيني، وهذا ما يؤكد الحاجة الماسة، لمنهجية ديبلوماسية شعبية وازنة، تستند الى مؤسسات وإتحادات ومنظمات وطنية فاعلة، تمتلك وزنا جماهيريا، وفعلا ميدانيا، وتمتلك برامج عمل (سياسية- اجتماعية)، تحاكي خطي العمل للجاليات الفلسطينية، - داخل الوطن وخارجه-
فالمعركة الأساسية التي يخوضها الشعب الفلسطيني، هي في تشكيل الرأي العام العالمي (السياسي والجماهيري)، المساند للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والضاغط على المجتمع الدولي، ومراكز صنع القرار العالمية، لوضع حد للسياسة الاجرامية الصهيونية، والاستمرار في ضرب القرارات الدولية بعرض الحائط، وتعاطي إسرائيل مع نفسها كقوة فوق القانون الدولي، وهذا ما يحتاج الى زرع مدروس، في تربة المجتمعات المحلية، في أوروبا والامريكيتين، وكندا وأفريقيا وآسيا، وفي جميع أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، والرعاية المدروسة والعلمية، لهذه البذور، التي ستشكل مع تطور منهجية وآليات عمل الديبلوماسية الشعبية، حصادا مثمرا، يصب في خدمة القضية الوطنية الفلسطينية، فالأساس يكمن في البرنامج العلمي والواضح، والقدرة على الاقناع والتأثير، وهذا ما أجاب به البروفيسور الفلسطيني "إدوارد سعيد" عندما سئل عن قدرته على الإقناع بالقضية الفلسطينية، عندما قال (إن أردت أن تقنع فعليك أن تتحدث بلغة موثوقة)، بالإضافة الى القدرة على تجميع الإمكانيات والطاقات، وتوظيفها لصالح جذب، أكبر تأييد شعبي ومؤسساتي غير حكومي، الى جانب الشعب الفلسطيني، وبلورته في إطار برنامج سياسي، يوجه كأداة ضغط داخل هذه البلدان، لصالح حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، وهو ما تخشاه "إسرائيل"، وتعمل على إفشاله، في ظل تصاعد النقمة الشعبية العالمية، ضد سياسات "إسرائيل" الاجرامية، وفضح انتهاكاتها مع تطور الاعلام، وبروز وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا ما أثبتته نجاعة حركة المقاطعة العالمية (BDS)، التي نجحت في تشكيل رأي عام عالمي، ضاغط ومؤثر في كثير من البلدان الأجنبية، على مختلف الأصعدة (مقاطعة البضائع، المقاطعة الثقافية، الاكاديمية، الرياضية، الفنية، الخ...)، بل دفعت أيضا بالكثير من المتضامنين لبذل أرواحهم، لصالح القضية الفلسطينية، ولنا في "راشيل كوري"، و"فيتوريو أريجوني" مثالا، وغيرهم الكثير من المتضامين والمناصرين لحقوق شعبنا الوطنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق