بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
للوصول إلى النصر المنشود وتحقيق الأمل المعقود والحلم الموعود، ينبغي ألا ينتاب الحركات الثورية يأسٌ أو إحباطٌ، ولا يعتريها شكٌ أو تردد، أو يستبد بها ضعفٌ وخورُ، أو يسكنها الجبنُ والعجزُ، مهما كانت الصعاب أو التحديات، وأياً تكن الفروقات والاختلافات، فلا تشعر بالخيبة بسبب اختلال موازين القوى وتفوق العدو واستعلائه، وقوته وجبروته، فهذا هو بداية طريق النصر وأساس الظفر، وإلا فلا غلبة لمتردد ولا نصر لضعيفٍ عاجزٍ، ولا كسب أو فوز لمرتعشٍ خائفٍ، وهذا ما يحدثنا به التاريخ القديم وملاحم حركات التحرر في القرن المنصرم، الذين انتزعوا النصر من الأقوياء، وأرغموا المحتلين على الانكفاء والجلاء، ولملمة الجراح وجمع الموتى وتهيئة الأكفان.
وليس أقوى ولا أعتى بين دول العالم كله في العصر الحديث من الولايات المتحدة الأمريكية، فهي رأس الإمبريالية العالمية، وسيدة الرأسمالية المتوحشة، ورائدة الاستعمار الجديد، الخشن بقوة السلاح وبطش التدمير، والناعم بخبث الحصار وشدة التجويع، والتي لم تتأخر يوماً على مدى عشرين عاماً متواصلة، في استخدام أقصى ما لديها من قوةٍ مدمرةٍ في قصف الأفغان، مدناً وجبالاً، بيوتاً ومدارس، شوارع وأسواق، مدنيين وعسكريين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، ومقاتلين في الميدان ومتطوعين في المراكز والمخيمات، ولعلها قتلت من المدنيين أضعاف المقاتلين، وأضرت بالشعب الأفغاني أكثر مما أضرت ببنية المقاتلين وقدراتهم.
ظن كثيرٌ من المراقبين والمتابعين، بعد أن شكلت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001 أكبر تحالفٍ دوليٍ لحرب طالبان وإسقاط نظامها وتفكيك إمارتها، وضمت إليها دولاً لا تقل عنها شراسةً ووحشيةٍ، بالنظر إلى تاريخها الاستعماري وماضيها العسكري كفرنسا وبريطانيا وأستراليا وغيرها، أن الزمن لن يعود إلى الوراء أبداً، وأن حركة طالبان لن تنهض من كبوتها، ولن تستفيق من الضربة التي وجهت إليها، وأن زمانها الذي حكمت فيه وسيطرت قد ولى إلى الأبد، فقد ضربها التحالف الدولي بعنفٍ مطلقٍ وقوةٍ مفرطةٍ، ثأراً وانتقاماً وكياً لوعيهم، لئلا يفكروا بالعودة إلى ما كانوا عليه، وأظهرت في عدوانها عليهم غطرسةً وغروراً، واستكباراً وعلواً، وظنت أنها لن تشبه السابقين أمثالها، وأن ما أصاب الإنجليز والاتحاد السوفيتي لن يصيبها.
منيت حركة طالبان والمؤيدون لها على مدى العشرين عاماً الماضية، بآلاف القتلى ومثلهم من الجرحى والمعتقلين، وتشتت في أطراف الأرض وتمزقت، ولجأت إلى الجبال والكهوف والوديان، وحرمت من كل وسائل التواصل والتنسيق، وفتحت لها السلطة الأفغانية الجديدة عشرات السجون والمعتقلات، زجت فيها قادتهم ومقاتليهم، وأنشأت لها الإدارة الأمريكية معتقلاً خاصاً في غوانتانامو، ليكون منفىً لقادتها وعزلاً لعناصرها، وعقاباً وجزاءً لهم على قتالها.
وزادت خسائر الحركة أكثر بانفضاض الشعب من حولهم، وتخلي الناس عنهم، فقد أساؤوا سياستهم، وأخطأوا في التعامل معهم، إذ ضيقوا عليهم وتشددوا في تطبيق الشريعة "التي يرونها" عليهم، فضاق بهم الشعب ذرعاً، ونأى بنفسه عنهم، وتعامل بعضه مع الأمريكيين ودول التحالف ضدهم، كرهاً فيهم وخوفاً من عودتهم.
لكن حركة طالبان، التي راجعت سيرتها، وعدلت منهجها، واستفادت من أخطائها، وتخلت عن تشددها، وبنت علاقات حسن جوارٍ مع جيرانها، وأرسلت رسائل إيجابية إلى كل من تظن أنه مؤمنٌ بها وضنينٌ عليها، استطاعت بعد أن أدركت أخطاءها وصححتها، وعرفت اعوجاجها وقومته، أن تعيد بناء صفوفها بثقةٍ ويقينٍ، وعزمٍ ومضاءٍ أقلق الأمريكيين وأرعبهم، ودفعهم خلال أكثر من إدارةٍ إلى التفكير الجاد في الخروج من أفغانستان، والتخلي عن أحلامهم فيها، وتسليمها إلى أهلها بعد أن رعت انتخاباتهم وشكلت سلطتهم، ودربت جيشهم وأهلت مؤسساتهم، على أمل أن تواصل السلطة "العميلة" ما بدأت، وأن تكون أمينةً على الأهداف التي سعت إليها وضحت من أجلها.
واصلت حركة طالبان قتالها، رغم فداحة الخسائر وفارق القدرات، وأصرت على مقاومتها، وبدأت تجني حصاد تغيير سياستها وتبدل أفكارها، فقد عقدت ندوات ومؤتمرات، واستضافت شخصياتٍ وخبراء، واستمعت إلى أصدقاء وحلفاء، ونسجت علاقاتٍ مع الصين وإيران، ومع العرب والهند وباكستان، ما حقق لها التغيير المنشود، والشكل الجديد الذي يُرجَى أن يكون مختلفاً، فالتحق بها وانضوى تحت صفوفها الكثير من الأفغان الذين يناوئونهم ويخاصمونهم، ويخافون منهم ولا يطمئنون إليهم، واستطاعت رغم ضراوة الحرب وشدة العدوان، وعنف وغطرسة الأمريكان، أن تحقق انتصاراتٍ عديدة في أكثر من ولايةٍ ومدينةٍ، وسارت فيها بثباتٍ ويقينٍ سير السكين في الزبد الطري، فسقطت في أيديها ووالتها، ورحبت بها وأيدتها.
لست فيما أكتب مدَّاحاً لحركة طالبان ولا مؤيداً لها أو داعٍ إليها، ولكنني كما كنت شغوفاً بدراسة تجارب الفيتناميين الذين حرقت بيوتهم ودمرت بلداتهم، والجزائريين الذين انساح دمهم في الشوارع وجرى سيولاً لكثرة الشهداء، فإنني أرى أن حركة طالبان قد مضت على نهجهم ونجحت، وسارت على دربهم ووصلت، فما بالنا نحن الفلسطينيين لا نكون مثلهم، ولا نتشبه بهم، ونرفض أن نستفيد من تجربتهم، فلا نخضع لعدونا ونخنع له بحجة اختلال موازين القوى وتغير معادلات الصراع، فصاحب الحق هو الأقوى، والمقاتل في الميدان هو الأصدق، والثابت على المبادئ هو الأقدر، والمضحي في سبيل حقوقه هو الأجدر بالنصر والأحق بالفوز.
يتبع...
بيروت في 21/8/2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق