مروان عبد العال
أن تُعد فنجان قهوتك قبل المساء ولا تحتسيه، هنا بيت على مفترق شارع صبرا، حيث لا ترى منه البحر ولا تسمع هدير أمواجه، تنصت فقط لأنين المخيم. في تلك الساعة سكتت موسيقى الفرح في حفل راقص بميلاد ابن الجيران، عند النافذة المقابلة عجوزّ يلعن الزلزال! ويلهث في إشارة إلى وجود خطر يتهدده من الغازات السامة، والدخان السديمي احتل فضاء أوسع من المدينة، والهروب من والى كل الاتجاهات، فالاحتماء هذه المرة خارج المباني كي لا تسقط، والكمامات على الوجوه للمرة الأولى.
هذا ليس حلمًا! أو مجرد حلم في ليلة صيف، أو فلسفة في زمن الرعب، وحب في زمن النترات، هذه ديستوبيا الحداثة! فهرنهايت 4 آب/أغسطس، فتسرج له خيالك الوحشي؛ نحو عوالم خرافية، عن رواية جديدة من رجال الإطفاء يلتهمهم الحريق، يوم سطرت بيروت فصلًا خياليًا من الديستوبيا التي تفوقت على خيال الكاتب الأميركي راي برادبوري في رواية "فهرنهايت 451".
هنا فهرنهايت، موجة انفجارية ليست مسبوقة في الحروب الخاطفة، تجوب شوارع المدينة على مهل! فتصبح البيوت بدون أبواب وكراسي المقاهي مشلوحة فوق الأرصفة، والأراكيل تركت وحدها على الشرفات. الكل يتلمس رأسه إن كان لا يزال فوق جسده، يختبر حواسه الحس والسمع والذوق والشم، حتى الذاكرة الفردية.
ابن الحرب قضى ربيع عمره في أشلاء المدن، عند مفترق صبرا، قرأ لائحة الشهداء وظل يدوس على قطع الزجاج فوق إسفلت الشوارع، ويجمع الشظايا القاتلة، هكذا بلفحة هواء نارية طار باب المطبخ المطل على البلكون الخارجي، وخطفت غلاية القهوة من يدي وصفعتني موجة حارّة أخرى وبعثرت ما حوالي وأخلّت بتوازني. الناس يتجادلون ويتراكضون، أذكر أنه كان أسرع هبوط بشري على درجات السلالم مصحوبًا بصراخ يبتعد ويخفت!
هنا فهرنهايت، فجأة دخلت الى الفانتازيا ذاتها، على وقع كلمات من قمح ودم وتراب، وفي الأعلى يتربص جيش من دخان، نظرت وإذ السماء تحوي ثلاث غيوم، واحدة سوداء وواحدة حمراء وواحدة صفراء. دهشت لتناسق اللون في طيات الغيوم وإذ بصوت يخاطبني قائلًا: "أنا "بيروت"، اختر من هذا السحاب أي لون تريد". نبهني صدى "حيفا"، وقالت: "اختر لك سحابة". قلت: "الحمراء". تلاشت الدمى المتحركة وسقطت أقنعتهم الرمادية، وبغمضة عين وجدت نفسي بين ضحايا المدينة.
عند مفترق شارع صبرا، صدح صوت المخيمات مفجوعًا، يرفع الرماد عن جبين المدينة، وسمعنا "حيفا" ترتل صلاتها، وذرفت دمعة ساخنة واضيقت عيناها الواسعتان.
ذات نكبة بكت بيروت شقيقتها حيفا، وظلت ترفع حزام صدرها كفرس أصيلة، لم تنزع بصرها من كفيها المضمومين في حضنها فهمست لي: "سأقاتل القراصنة أكثر، كلما خفت عليكم أكثر ولم أعلم ماذا حدث لكم. أنتظركم علكم تعودون". ولمّا رست سفينة الخراب في بحر بيروت، علقّت بعصبية: " انها إرم ذات العماد".. كانت تستبشر ميلادها من تحت الرماد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق