نشرت صحيفة "إندبندنت" البريطانية، مقالا للمديرة الإقليمية للإعلام "يونيسف" الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جولييت توما، قالت فيه؛ إنه "لم يكن هناك مرحبا ولا صباح الخير عند مدخل مخيم برج البراجنة في لبنان، حيث وقف مجموعة من الرجال يشربون الشاي ويدخنون وبدؤوا يشتكون إلينا: أريد الخروج، لا يوجد شيء على الإطلاق هنا، ليس لدينا وظائف، لا توجد كهرباء، الجو حار للغاية، لا يمكننا حتى النوم في الليل، والماء ينفد. فقط أخرجونا من هنا".
في الأزقة التي تشبه الثعابين في المخيم، تتساقط المياه في أسلاك الكهرباء المتشابكة بشكل فوضوي خارج النوافذ الصغيرة. يموت الأطفال كل عام عندما يلمسون الأسلاك المبللة أو يطؤون عليها. ولقي أكثر من 67 شخصاً، بينهم أطفال، حتفهم بسبب خطوط الكهرباء في السنوات السبع الماضية.
على بعد أربعة كيلومترات جنوب العاصمة بيروت، أنشئ المخيم عام 1949 لإيواء اللاجئين القادمين من منطقة الجليل. واليوم، أصبح يقطن فيه أكثر من 20 ألف شخص. في جميع أنحاء لبنان، يعيش 10 أضعاف هذا العدد من لاجئي فلسطين في 12 مخيما وحوالي 50 تجمعا آخر، ما يقرب من نصفهم من الأطفال ويعيش ثلثاهم في فقر ومخيمات مكتظة.
في غرفة مظلمة صغيرة في منظمة غير حكومية تدعمها "اليونيسف"، التقينا بمجموعة من النساء في جلسة حول العنف المنزلي. كانت النساء الثماني مزيجاً من فلسطينيات وسوريات ولبنانيات. وُلدت بعضهن هناك. فرت بعضهن من الحرب في سوريا، وتزوجت أخريات من لاجئين فلسطينيين. كما هو الحال في باقي أنحاء البلاد، كان المخيم بالكاد يحصل على الكهرباء من ساعتين إلى ثلاث ساعات يوميا. يعيش الناس في غرف صغيرة مزدحمة، بدون مراوح وغالبا ما تنعدم المياه. كانت درجة الحرارة 35 درجة مئوية.
تحدثت عبير، وهي امرأة هادئة الكلام، عن تأثير الظروف على ابنها المراهق: "كان يعاني من نوبات من الغضب وأصبح أكثر عنفاً، لكن كل ما يريده هو أن يكون قادرا على الاستحمام". كان يصرخ: "سأذهب للقتل، سأضرب أي شخص مسؤول، أريد فقط ماء لأستحم".
تنعكس محنة ابن عبير في جميع أنحاء لبنان. تمر البلاد بموجة حارة شديدة ونفد الماء والوقود. تقدر منظمة اليونيسف أنه في غضون أربعة أسابيع، سيتعرض 4 ملايين شخص لخطر انعدام المياه، حيث سيتوقف ضخ المياه تدريجيا في جميع أنحاء البلاد بسبب نقص الوقود بشكل رئيسي.
قالت سناء (امرأة أخرى في المجموعة)؛ إن هذا أسوأ ما مرت به على الإطلاق، "نريد فقط المغادرة .. نريد فقط أن نعيش ". على مر السنين، كان برج البراجنة مسرحاً لبعض من أكثر أعمال العنف تدميرا في لبنان، بما في ذلك خلال الحرب التي استمرت 15 عاما وانتهت في عام 1990. وعلى الرغم من ذلك، قالت سناء؛ إننا الآن في الحضيض: "لم تكن أبدا بهذا السوء من قبل.. أتمنى لو ركبت قاربا وغادرت"، وكان شقيق سناء نجح في ذلك قبل عامين حيث غادر على متن قارب.
قبل جائحة كوفيد-19، عملت نساء مثل عبير وسناء كخياطات أو مساعدات في المنزل، ومنذ ذلك الحين فقد معظمهن العمل. وكان أزواجهن يعملون بشكل رئيسي في البناء، وهم الآن عاطلون عن العمل. ومرض كثيرون وبعضهم بأمراض مزمنة. ولا تستطيع أي من العائلات تحمل تكاليف العلاج الطبي أو الدواء؛ حيث يكون إما باهظ الثمن للغاية أو ببساطة غير متوفر. وعادة ما تدعم الدولة استيراد الأدوية، ولكن هذا النظام مشلول تقريبا الآن. وأُجبرت معظم الصيدليات على الإغلاق أو رفع أسعارها بشكل خيالي. ومع انخفاض قيمة العملة المحلية إلى مستويات غير مسبوقة، أصبحت 75% من العائلات في لبنان الآن معرضة للخطر وبالكاد يمكنها تغطية نفقاتها، ولا حتى تكاليف الأدوية الأساسية مثل المسكنات التي لا تستلزم وصفة طبية.
وبينما كنا نسير في المخيم، كانت المدينة على وشك إحياء ذكرى مرور عام على انفجار بيروت، الذي مزق المناطق الشرقية من المدينة، آخذا معه حياة أكثر من 200 شخص ودمر المنازل والمدارس والمستشفيات في لمحة. مررنا بمستشفى حيفا، المركز الصحي الوحيد المتاح. ملأت الكتابة والرسوم الجدران. برز أحدها: فتاة صغيرة تتمنى لبيروت التعافي قريبا.
رغم كل الصعاب وعلى الرغم من التقشف والحرمان، يواصل الشباب الكفاح. في مركز للشباب، التقينا بحوالي 20 رجلا وامرأة، جميعهم من اللاجئين الفلسطينيين. كان معظمهم حاصلين على شهادات جامعية، وتمتع جميعهم بالذكاء والكياسة والتفاؤل بمستقبل أفضل. تحدث عدد منهم عن التحديات في المخيمات، بما في ذلك العنف المتزايد، ووفرة الأسلحة غير المشروعة وكميات هائلة من المخدرات. تحدثوا جميعهم تقريبا عن خطط لمغادرة المخيمات وفي نهاية المطاف لبنان بالكامل. كانوا مصممين وعمليين وشجعانا.
يعقوب، وهو في العشرينيات من عمره وخريج فيزياء، عاطل عن العمل. بدأ التطوع لتشجيع الناس في المخيمات على الحصول على لقاح كوفيد -19 في جميع أنحاء المخيم، تلقى عدد قليل جدا من الناس اللقاح، ويرجع ذلك في الغالب إلى التردد.
قالت ريم، طالبة الاقتصاد وإدارة الأعمال؛ إنها حريصة على إنهاء دراستها والخروج من لبنان. إنها تحب التدريس لكنها لا تستطيع الحصول على وظيفة تدريس في مدرسة عامة. في لبنان، حيث هناك 39 مهنة، لا يستطيع اللاجئون الفلسطينيون القيام بها، بما في ذلك الطب والقانون والهندسة والعديد من وظائف القطاع الخاص الأخرى. كما لا يمكن للفلسطينيين التملك.
وقرب نهاية الجلسة، أخذت الشابة لطيفة الكلمة بتردد. فر والد زوجها من الحرب عام 1967 إلى لبنان. لم يُسجل قط، لذا لم يكن لديه أوراق رسمية يمكنه نقلها إلى أطفاله. تزوجت سوسن منذ ذلك الحين ورزقت بمولودة أسمتها هيا. هيا، مثل والدها، غير مسجلة. الأسرة، مثل 4000 فلسطيني آخرين في لبنان، كلهم "بلا أوراق". وعلى الرغم من الجهود الهائلة التي تبذلها الأونروا، فإن هذه العائلات تواجه تحديات كبيرة في الحصول على الخدمات الصحية أو التعليمية. قالت لطيفة: "كل ما أطلبه هو أن أصبح لاجئة رسمية".
عندما كنا نغادر مجموعة النساء، سألت عبير من أين هي. أجابت دون تردد: "أنا من هنا". فسألتها: "وفي الأصل؟". فأجابت: "نعم.. جاء جدي إلى هنا من سعسع"، وهي قرية صغيرة بالقرب من صفد في منطقة الجليل.
كان هناك جرعات عالية من اليأس في الأجواء، ومع ذلك يقابلها أشخاص يخططون بتصميم للحصول على حياة أفضل. إنه قرار لا ينبغي اعتباره أمرا مفروغا منه، خاصة أنه يذوي بسرعة.
وتختم توما التقرير قائلة: "لقد تركتني الزيارة، التي كانت الأولى لي إلى مخيم للاجئين في لبنان، أتساءل كم من الزمن سيستغرق حتى يتمكن اللاجئون الفلسطينيون في لبنان من الحصول على الأساسيات فقط. كيف يمكن أن يستمر كل هذا لمدة 73 عاما؟ كم من الوقت يمكن للناس أن يتحملوا؟ لكن في الغالب، لماذا؟ لماذا يجب أن يستمروا في التحمل؟".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق