طلال سلمان
تلاحق الانتخابات النيابية في لبنان لعنة أولى الدورات الانتخابية التي نُظمت بعد إعلان استقلال الدولة، وذلك في 25 أيار 1947، والتي كان التزوير فيها مشهوداً، بل فاضحاً، خصوصاً عندما أدت الغرض منها وهو: التجديد لأول رئيس للجمهورية في لبنان المستقل: الشيخ بشارة الخوري.
بعد ذلك لم تكن التجارب أفضل حالاً.. فلقد أعد الرئيس كميل شمعون لكل من الدورتين الانتخابيتين اللتين أجراهما في عهده قانوناً خاصاً مكّنه من إسقاط خصومه والتمكين لحلفائه عبر تقسيم «مدروس» للدوائر جعله يأتي بأكثرية مطلقة من أنصاره… حتى وإن مهّد بذلك لحرب أهلية أمكن ضبطها لأسباب تتجاوز لبنان إلى منطقته جميعاً.
ولقد جرى «التقليد» أن يكون لكل انتخابات قانونها الخاص، وكأن «الشعب» قد صار غيره في الوقت الفاصل بين دورتين، أو كأن النظام السياسي قد سقط بثورة شعبية مؤهلة لأن تحقق الديموقراطية بمواصفات سويسرية أو بريطانية!
لم ينقطع هذا التقليد العريق إلا بتأثير الحرب الأهلية، فصار المجلس النيابي المنتخب 1972 يمدّد لنفسه ـ برغم تناقص أعضائه، بالوفاة غالباً، أو بالهجرة أحياناً ـ طيلة عشرين سنة كان العالم جميعاً قد تغيّر خلالها، وكانت «الدول» قد عالجت أمراض النظام باتفاق الطائف، فاستأنفت «اللعبة الديموقراطية» بعد زيادة أعضاء المجلس إلى 128 ومجلس الوزراء إلى ثلاثين طلباً لتوازن ما، يؤمّن استقرار الوطن الصغير في زمن التحولات.. وكأن العيب كان في نقص «الممثلين» للشرعية ليس إلا!
.. وها أن اللبنانيين على أهبة المشاركة الآن في مهرجان أو كرنفال انتخابي جديد، لا يعرفون حتى اللحظة قانونه الذي تُشارك في إعداده «دول» كثيرة، تختفي خلف ضرورة تحقيق «الاستقلال السياسي» للناخبين المسيحيين، فلا يتحكّم «الصوت المسلم» بأكثرية نوابهم (بمعزل عن عدد السكان، واستطراداً أعداد الناخبين، ومن أجل الحفاظ على التوازن في القرار الوطني…).
وكالعادة، يبدأ المهرجان بجدل بيزنطي واسع حول القانون والدوائر، وتتصادم الإرادات والأغراض عبر المفاضلة ـ نظرياً ـ بين الدوائر، فردية أم واسعة، صافية اللون الطائفي ـ بل المذهبي ـ أم مختلطة، وكيف وكم تكون نسبة الاختلاط في المحافظة أو في القضاء حتى لا يختل ميزان الوحدة الوطنية.. وبالتالي الإرادة الشعبية!
صار الحديث عن الحصص الطائفية صريحاً بلا قناع.
ومن أجل أن يمثل كل نائب طائفته لم يعد مهماً عدد أصوات المقترعين، مع الاعتذار من مبادئ الديموقرطية وادّعاءات العصرية، والحرص على وحدة الشعب ووحدة الوطن.
القاعدة اللبنانية المبتدعة للديموقراطية الحديثة: أن تنتخب كل طائفة نوابها، وهكذا يضمن الأشرس طائفية أن يكون الممثل الشرعي لقطيع الناخبين في «دائرته» التي يتم اقتطاعها في معظم الحالات «صافية» اللون الطائفي بمعزل عن أعداد الناخبين!
المفارقة أن هذا الاندفاع المهووس إلى أن تكون الطائفية، بل المذهبية، القاعدة الثابتة للديموقراطية اللبنانية، يتم في لحظة فاصلة في تاريخ المنطقة، حيث أجبرت الانتفاضات الشعبية في ميادين العواصم العربية الأنظمة المستولدة حديثاً على اعتماد الديموقراطية قاعدة لحكمها، وسط رعاية أميركية استثنائية كان لا بد أن تثير ريبة الأنظمة المذهبة التي تعتبر المُلك فضلاً من الله وامتيازاً لأسر بالذات ولمن والاها بقوة السيف الأصدق إنباءً من الكتب..
هل يسير هؤلاء باللبنانيين عكس التاريخ؟ وهل يعي اللبنانيون إلى أين من هنا؟! وهل يمكن للطائفية والمذهبية أن تنجب ديموقراطية؟ ومن قبل ومن بعد: هل للبنانيين رأي في قانون الانتخاب، أم أن موقف «فئاتهم» المختلفة محكوم بالذكريات السوداء لدهر الحرب الأهلية؟! وهل ينجب التهجير وانفصال «المجتمعات» الطوائفية اللبنانية بعضها عن البعض الآخر واستثمار هذا الأمر الواقع القابل للتوظيف عربياً ودولياً، ديموقراطية من أي نوع؟ وهل تحفظ الديموقراطية الطوائفية وحدة الشعب والأرض، أم هي ستكون انفصالاً واقعياً تتحول معه «الدولة» إلى منظم لشؤون الحياة في كانتونات «مستقلة» لا يربط بينها إلا استحالة تحولها إلى دول مستقلة؟! وأين «المواطن» في دولة رعايا الطوائف هذه؟!
ثم… هل يتم هذا الاستشراس في إجبار المخلوقات اللبنانية على الدخول إلى أقفاص طوائفها ومذاهبها، ليكون لبنان ـ الكانتونات الطائفية التي يظللها علم واحد ـ «النموذج» الذي تريده «الدول» لأقطار المشرق العربي خاصة، سوريا والعراق والأردن وصولاً إلى اليمن، مجموعة من «المحميات» لكل طائفة فيها من يرعى «استقلالها ضمن الوحدة»… وربما فكّر «الاستراتيجيون» بمثل هذا المستقبل لدول شمالي أفريقيا العربية، باستغلال الأعراق والعناصر حيث لا تكفي الطوائف والمذاهب سنداً للانفصال؟!
قديماً قيل في توصيف الحرب الأهلية في لبنان إنها حرب أهلية عربية «برعاية دولية» شاملة، وأنها أُديمت ـ بقرار شبه معلن ـ لتغطي إخراج مصر من حومة الصراع العربي ـ الإسرائيلي عبر إقدام الرئيس المصري أنور السادات على زيارة القدس المحتلة ثم الاندفاع تحت الراية الأميركية، إلى الصلح المنفرد مع العدو، مقدماً ـ بشجاعته الشخصية ـ نموذجاً لما سوف يكون، ولما نرى في خلفيات العواصف الدموية التي تكاد تكون حروباً أهلية في المشرق العربي، خطوات متسارعة على هذا الطريق؟!
واليوم يمكن القول إن التجارب قد علّمتنا أن لا شيء يحدث في لبنان، مما يمكن اعتباره «تحولاً»، إلا وهو نتاج لصراع التضاد والتوافق بين «الدول» التي تسمح لها التحولات والتطورات الجارية الآن في سياق التخلص من الدكتاتوريات وحكم الطغيان «الوطني»، أن تستعيد دورها وموقع التأثير في العديد من أقطار هذه المنطقة التي تحاول العثور على الطريق إلى غدها الأفضل وسط الضباب، وتأكيد وحدة شعوبها وارتباطها بأرضها بسيل من دماء أبنائها فوق مدنها وقراها المهدّمة بقرار دولي شبه معلن، مهّد له ويغطيه طغيان حكامها ـ الآلهة!
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 1 تشرين الأول(اكتوبر) 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق