بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يرفض بعض الفلسطينيين الاعتراف بأنهم يعانون من تقديس الرموز، وتأليه القيادات، وتنزيه المسؤولين، ورفع قدرهم وإعلاء كلمتهم، والهتاف بحياتهم والتضحية في سبيلهم، وتبرير أفعالهم وتبرئة ساحاتهم، وحسن الظن بهم ورفض التشكيك بنواياهم، أو سوء الظن بأفعالهم، واتهامهم بالخيانة والتفريط، وبالكذب والنفاق، وبعدم الصدق والإخلاص، وبأنهم يسعون لمصالحهم، ويخافون على منافعهم، ويتطلعون لحماية أنفسهم وتأمين مكتسباتهم، وضمان مستقبل أبنائهم وتوظيفهم، وتعليمهم وابتعاثهم، وزيادة ثرواتهم ومضاعفة مشاريعهم، وتحصين أنفسهم من المساءلة والمحاسبة، والجزاء والعقاب، والنجاة من الخلع والإفلات من الثورة والانقلاب.
كما يصر آخرون منهم على الحفاظ على هياكلهم القديمة، ومؤسساتهم البالية، ومنظماتهم المهترئة، وآلياتهم الثلمة، وأسلحتهم الصدئة، ومعابدهم المتهالكة، ويظنون أنها الناجية والمنجية، والمنقذة والمخلصة، وأنها الوسيلة والأداة، والمركب والمعبر، والإطار والهيكل، ورغم أنها أصبحت قديمة وتجاوزها الزمن، ومهترئة لا تصمد أمام المحن، وغدت عجوزاً لا يصلح معها الرتق والوصل، ولا الدواء والعلاج، ولا يعيدها إلى الحياة صيانةٌ أو إصلاحٌ، أو تعديلٌ وتغييرٌ، أو حقنٌ ورقعٌ، وغدا مشغلوها وساكنوها أقرب إلى القبر منهم إلى الحياة، وأدعى لو كانوا يعقلون، إلى طلب الآخرة أكثر من السعي إلى الدنيا.
نحن الفلسطينيين في الوطن والشتات، نعيش مراحل خطرة، ونمر في أزماتٍ صعبةٍ، ونواجه تحدياتٍ غير مسبوقةٍ، وما تتعرض له قضيتنا على مستوى العدو ودول الاستعمار الكبرى، ودول الجوار القريبة والبعيدة، لم تتعرض له على مدى تاريخها الممتد لقرابة المائة عامٍ، منذ الانتداب الانجليزي مروراً بالاستيطان الإسرائيلي حتى اليوم، فما كانت فلسطين كما اليوم عرضةً للشطب والضياع، والفقد والسلخ، كما هي اليوم، فالمشروع الصهيوني كبر وتمكن، وعظم واستحكم، وبات يجاهر بنواياه، ويتحدى بأحلامه، فهو لا يريد أن يعيد للفلسطينيين شبراً من أرضهم، ولا حقاً من حقوقهم، ويريد أن يستأثر بالأرض كلها وحده، فلا يشاركه فيها أحد ولا يعيش معه فيها سواه.
أمام هذا التحدي غير المسبوق لقضيتنا وشعبنا، ومستقبلنا ووجودنا، وهويتنا ومقدساتنا، ينبغي على الشعب الفلسطيني أن ينظر في آلياته ووسائله، وأن يعيد النظر في قياداته ومسؤوليه، فلا يقبل بآلية ضعيفةٍ، ولا وسيلةٍ عاجزةٍ، ولا عربةٍ ميتةٍ لا محرك فيها، ولا وقود يحييها، ولا بوصلة وطنية توجهها، ولا ضوابط أصيلة تحميها أو ثوابت قديمة تصونها.
ولا يصر على هياكل لم تعد تنفع، وغدت لا تصلح إلا للتوقيع المطلوب والقرار المرهون، الذي يعارضه الشعب ولا تقبل به الأمة، فلو أنها كانت حرةً مستقلةً ما بقي اسمها بين الأحياء، ولا حافظ المُسّيرون لقضيتنا على وجودها الشكلي ورسمها الخطي، فهي مؤسسة رسميةٌ، تحميها المؤسسات الرسمية العربية، وتبقي عليها حيةً لتأتمر بأمرها، وتنساق لرأيها، وتقبل بما تمليه عليها، وإلا فإنها تجوع وتعرى، وتفقر وتعدم، وتعود تمد يدها بالسؤال طالبةً العون المشروط والمساعدة المرهونة.
كما ينبغي على الشعب الفلسطيني أن يقف وقفةً شجاعةً جريئةً أمام من يدعون تمثيله، ومن يفترضون أنفسهم نواباً عنه وقادة له، فيجردهم من قداسة المناصب، ونزاهة المواقع، وينزلهم من صياصيهم العالية وأبراجهم المرتفعة، ويخضعهم للسؤال والمحاسبة، والعقاب والحساب، فلا يسكت عن أخطائهم، ولا يقبل بانحرافهم، ولا يستر جرائمهم، ولا يرضى عن أفعالهم الخبيثة وسلوكياتهم الدنيئة، سواء تلك التي تتواطأ مع العدو وتتعاون معه، أو تنسق معه وتجتمع وإياه، وتقبل بسياسته وتساعده في إجراءاته.
أو تلك التي تسخف بنضال شعبها، وتتآمر على مقاومته، وتساعد العدو في النيل من رجاله والوصول إلى مطارديه، وتسخر من عطاء أبنائها، وتهمل أبطالها الأسرى، وتغمط حقوق الشهداء والجرحى، وتقايض على دمائهم وحرياتهم، مقابل أثمانٍ بخسةٍ لا يقبل بها شعبها، ولم يضحِ أساساً من أجلها، رغم علمها أن هذه الأثمان ليست إلا سراباً يخدعنا به العدو، أو وهماً كاذباً يوحي لنا به نصراً وكسباً.
المحاسبة والسؤال شاملة، والعقاب والجزاء ينبغي أن يكون عاماً وألا يستثني أحداً، فكل مسؤولٍ تثبت إدانته ويظهر تقصيره، أو يعرف عنه انحرافه وتكثر أخطاؤه، أو يبدو عليه غنىً مفرط وثراءً لافتاً، أو يطغى وأولاده، وأنصاره وأنسباؤه، ويحتكر السلطة وأبناؤه، أو يميز عن الشعب ويختلف عن العامة في سلوكه وهندامه، وطعامه وشرابه، ومسكنه ومركبه، أو يتسبب في معاناة الشعب ويلحق ضرراً بهم، أو يتأخر عن مساعدتهم ويقصر في عونهم، أو يحجب حقهم ويحبس عطاءهم، أو يحرمهم ويقدم غيرهم، أو يجردهم ويغدق على سواهم، أو يتسبب في فقرهم وبؤسهم، أو يكون سبباً في مرضهم وانتحارهم، أو فرارهم وغرقهم، وهجرتهم ومغامرتهم، فهؤلاء وأولئك في المحاسبة الوطنية سواءٌ، وفي المسؤولية والأمانة شركاءٌ، وكلاهما يجب أن يحاسب ويعاقب، ولا يُحابى ولا يُقرب، ولا يدافع عنه أحد أو يسقط الاتهاماتِ عنه آخر.
القضية الفلسطينية قضيةٌ مقدسةٌ مباركة، باركها الله عز وجل بأن جعل فيها المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشرفين، وجعلها أرض الإسراء ومنطلق المعراج، وأوردها في كتابه العزيز آياتٍ تتلى إلى يوم القيامة، وجعل أهلها منتقين مختارين، مرابطين مجاهدين على مدى الزمان، وشرف كل من انتسب إليها وعمل لأجلها، ورفع قدر كل من انتمى إليها وسعى لطهرها، ولعن كل من خانها وفرط بها، أو تآمر عليها وانقلب ضدها، ووعد بفضح الكاذبين المفسدين، وتعرية المنحرفين الضالين.
ولهذا ينبغي أن تكون أدوات قضيتنا ووسائل تحرير بلادنا ورموز قيادتنا، طاهرة غير نجسةٍ، ونظيفةً غير خبيثةً، وصادقةً غير كاذبةٍ، فلا تتحقق الأهداف النبيلة بمراكب وضيعة، ولا يتقدم الشعب المقاوم والثلة المؤمنة، والطائفة المرابطة، إلا الأطهار الصادقون، المجاهدون المخلصون، الزاهدون الورعون، المتعففون المتقون، الذين يصلون الليل والنهار بعملهم، وينسون ذاتهم لصالح شعبهم، ويتجردون من رغباتهم من أجل وطنهم، ويزهدون بما في أيدي الناس حباً فيهم وسعياً لهم وحرصاً عليهم.
بيروت في 10/11/2021
moustafa.leddawi@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق