بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بكته العيونُ، وحزنت لرحيله القلوبُ، وجزع لموته المحبون، وغصت لوفاته المفاجئةِ النفوسُ، واضطرب لسماع الخبر المعوزون وذووا الحاجات المتعففون، وخرج الفلسطينيون في مخيمات لبنان يتساءلون، وفي مدنه وبلداته على فراقه يتحسرون، واستيقظ المغتربون يتصلون ويتأكدون، وعقدت الصدمةُ ألسنَ إخوانه المحبين وأصدقائه المقربين، وكلهم قد أصابهم النبأ بالصدمة، ونزل بهم الخبر كما الصاعقة، وقد شاهده بعضهم صباحاً على قدميه يمشي، وبهمةٍ يهرول، وبأملٍ يسعى، فلا شيء يقلقه، ولا مرض يقعده، ولا شكوى تيأسه، وقد أعد برنامجه اليومي كما اعتاد، وأرجأ بعض مهامه حتى يعود، فقد كان عفيَّاً قادراً، ذا همةٍ عاليةٍ مقداماً، سليماً معافىً لا يشكو، وصاحب عزمٍ لا يلينُ، ويقينٍ لا يضعفُ.
إنه محمد اليوسف، المكنى كبقية أشقائه السبعة وهو ثامنهم، بأبي السعيد، تيمناً بشقيقهم الأكبر "المغيب" القائد سعيد اليوسف، الذي حافظت عائلته على ذكره، وأصرت على اسمه، وما زالت تذكره قائداً، وتعظمه أخاً، وتفتخر به مسؤولاً، وتتشرف به مناضلاً، وهو الذي سبقهم إلى ميادين المقاومة وسوح النضال، وغرس فيهم حب الوطن والتضحية في سبيله، وعلمهم العطاء بلا حدودٍ والفداء من أجل الوطن، فكان محمد كبقية أشقائه أبا سعيدٍ آخر، وفياً له، ومخلصاً مثله، وصادق الوعد يشبهه، سائراً على الدرب، وماضياً على النهج، وحافظاً العهد، وواثقاً بالنصر وإن تأخر، وبالعودة وإن تعذرت.
وافته المنيةُ فجأةً وهو يحمل ملفات المرضى، ويمسك بين يديه أوراقهم، ويحمل هموم فقرائهم وطلبات محتاجيهم، ويحفظ في ذاكرته مطالبهم الملحة وحالاتهم الإنسانية، وهمومهم اليومية، وهو الذي عاش بينهم في مخيم عين الحلوة، وأصر أن يكون منهم ولا يختلف عنهم، يجاورهم ولا يسكن بعيداً عنهم، يخف إليهم كل صباح، ويطرق أبوابهم في الليل والنهار، وقد عَمَّرَ بيت العائلة الكبير وفتحه، وجعله عنواناً لأهله، وبيتاً لشعبه، وسرداقاً لأفراحه، ومنزلاً يخفف أحزانهم ويسري عنهم، ويهون عليهم همومهم وآلامهم.
فقد كان محمد اليوسف، الباسم الثغر، العذب الكلمة، الباش الوجه، الحيوي النشط، السريع السباق، الخدوم المعطاء، البسيط المتواضع، الطيب الخلوق، المعروف بكوفيته، والمشهور ببسمته، يسعى لشعبه ويعمل من أجلهم، ويسخر أوقاته خدمةً لهم، ويوظف علاقاته للتخفيف عنهم وتقديم العون لهم، يحجز لبعضهم مواعيدَ، ويحدد لغيرهم لقاءاتٍ، ويحصل لآخرين حسوماً وتخفيضاتٍ مالية تخفف عنهم الأعباء، وترفع عن كواهلهم الهموم، وترسم على شفاههم البسمة، وتزرع في قلوبهم الأمل، وقد رحل عن الدنيا وملفات شعبه بين يديه، لم يتخلَ عنهم ولم يبخل عليهم، حتى آخر يومٍ من حياته، لم تشغله همومه عنهم، ولم ينسه مرضه ومعاناته حاجات أهله وشجون شعبه.
استحق بجدارةٍ لقب "حبيب الشعب"، وكان جديراً به، فقد منحه الشعب هذا اللقب مختاراً، وقلده أرفع الأوسمة الشعبية، ووضعه في أعلى المناصب والرتب الوطنية، وعلق على صدره أعظم النياشين الإنسانية، وليس أصدق من الشعب وصفاً، ولا أخلص منه تقديراً، فقد رأوا فيه الصدق والوفاء، والحب والحرص، والعمل والعطاء، والإخلاص والتجرد، والتفاني والإيثار، وهو الذي فتح بيوتاً مغلقة، وأفرح قلوباً حزينة، وكفكف دموعاً ساخنةً، ومسح على رؤوس الأطفال الأيتام وربت على ظهورهم، وأقسم لهم أن يبرهم ويحفظهم، وأن يرعاهم ويكلأهم، وأن يعوضهم ما استطاع عمن فقدوا، فلا يشكون عجزاً، ولا يشكون نقصاً، ولا يعانون عوزاً وحاجةً.
يقول الفلسطينيون في صيدا ومخيماتها، وفي جنوب لبنان ومخيماته، وفي عاصمته وشماله، أنهم ما شهدوا منذ سنواتٍ جنازةً تشبه جنازة المرحوم محمد اليوسف، فقد كانت جنازةً مهيبةً، ومسيرةً عظيمةً، ووداعاً شعبياً مشهوداً، وحضوراً لافتاً، استرعى الأنظار كثافتُه، ولفت المراقبين حشودُه، وقد خرجوا من بيوتهم، رجالاً ونساءً، وشيباً وشباباً، على أقدامهم سائرين، مختارين طائعين، صامتين بخشوع وباكين بألمٍ، وكأن الفقيد فقيدهم، والمرحوم ابنهم، والفاجعة فجيعتهم، يودعون رجلاً منهم، لا يختلف عنهم، ولا يتكبر عليهم، يشعر بأوجاعهم، ويتألم لمعاناتهم، ويحلم مثلهم.
في وجوه المعزين الكثيرة رأيته، وفي عيونهم شاهدت ملامحه وعرفت الكثير من صفاته، فقد أَمَّ بيت العزاء في دار أخيه العامرة اللواء ناظم اليوسف، آلاف الفلسطينيين الذين عرفهم وعرفوه، وألفهم وألفوه، وكان لهم سنداً وعوناً، فرأيت الفزع في عيونهم، والجزع في نفوسهم، فقد انكسر ظهرهم، وغاب معيلهم، ورحل الرجل الذي يعنى بهم، ولسان حالهم يقول من لنا من بعده، ومن سيهتم بشؤوننا بعد رحيله، وهو الذي كان لا يرد أحداً، ولا يطردُ سائلاً، ولا يمتنع عن مساعدةِ محتاجاً، فكان ينفق من لا يخشى الفقر، ويعطي من يملك سخاء البحر، وإن لم يكن في جيبه شيئاً أو في حوزته مالاً، فقد كان يعطي وعينه في عيني الله عز وجل الذي لا يخيب أمثاله، ولا يفقده رجاءه.
أما بالنسبة لي شخصياً فقد أفجعني موته، وأحزنني رحيله، وإن كنت أؤمن بالقضاء والقدر وأسلم بالأجل، وأرضى بحكم الله عز وجل وقضائه، ولكن غيابه السريع وموته المفاجئ آلمني، وهو الذي عرفته أخاً معيناً وصديقاً قريباً، ألفته منذ اليوم الأول الذي أُبعدت فيه إلى لبنان، وأحببته منذ أن عرفته، وشاركني أعباء العمل وهموم الحياة، وسعدت به وهو يفاخر الجميع بأنه أول العاملين في حركة حماس وإن لم يكن ينتسب لها، لكنه سبق الجميع عملاً وعطاءً، وجهداً وسعياً، فكان من أوائل من خدم في صفوفها نيابةً عن أبنائها، وأداءً لواجبٍ رأى أنه يستطيع أن يقوم به وأن يحسن فيه، فسبق بالفضل أخاه علياً وبَزَّه، وتباهى عليه وتفاخر.
رحم الله أبا السعيد محمد اليوسف، وتغمده بواسع رحمته، وجعل الجنة مثواه والفردوس الأعلى منزله، وجمعه في جنان الخلد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الأخيار والشهداء الأبرار، وعوض الله أهله خيراً، وجعل أولاده من بعده خير خلفٍ لخير سلفٍ، يبرونه ميتاً، ولا يقطعون عمله الصالح وقد رحل، ويحفظون بيته عامراً وذكره طيباً، ويواصلون بالبر عطاءه وبالخير فعاله، فقد والله سبق بصدقه، ونال الدرجات العلى بإخلاصه، ولا نزكيه على الله عز وجل، ولكننا ندعوه سبحانه وتعالى أن يجعله في الآخرة كما كان في الدنيا في أعلى عليين، فرحمة الله عليك أبا السعيد، وسلام الله عليك في الخالدين.
بيروت في 30/11/2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق