الفضل شلق
علاقات الندرة بين الإنسان والأشياء والممتلكات تخلق علاقات جديدة بين البشر. حولت أحزاب السلطة الدولة الى دولة فاشلة، وهي تعمل على تحويل المجتمع الى مجتمع فاشل. كيف ذلك؟ يعني الإفقار المتعمّد خلق علاقة جديدة بين المرء والأشياء، أساسها الندرة. قبل 17 تشرين لم تكن العلاقة بين المرء والأشياء ذات أولوية. كان أغلب اللبنانيين يعتبرون أن تحصيل وسائل العيش بما يتوفر لهم من مدخول وإدخار أمر مؤكد وعادي. هذه العلاقة تبدلت. مع تزايد الفقر، تبدلت العلاقة مع الأشياء، بما فيها القليل من الإيداعات في المصاريف، وما ينفقه الناس على معيشتهم. فأصبحت علاقة قائمة على الندرة. الحصول على الأشياء للاستهلاك صار أولوية أولى بعد أن كان غير ذلك. علاقة الندرة مع الأشياء انعكست على العلاقة بين كل فرد وجاره. لم تعد العلاقة الاجتماعية كما كانت. صارت العلاقات تنافسية تدخل في باب النزاع وما يشبه الحرب الأهلية الباردة. كل فرد عدو كل فرد. تفككت، أو تكاد، أواصر المجتمع. تراجعت علاقات الصداقة والتعاون، وحتى العلاقات الأولية العائلية والعشائرية والطائفية. يسير المجتمع الى التفكك. الصورة التي ترسمها الشاشات هي عن البلد سابقا. الوضع الحالي هو غير ذلك. هو وضع نزاع، بمعنى صراع على الوجود. يتحوّل الى حرب أهلية بين الكل والكل، ولا يُستبعد استخدام العنف. ليس صراع الآراء. ليس اختلاف وجهات النظر وإمكانية الحوار بينها. كل واحد صار يفتش عن كسرات الخبز وحده. كل من في جواره أعداؤه. علاقات الندرة خلقت نزاعا مادياً بين الناس. صار الناس أعداء؛ كل واحد عدو لكل شخص آخر. مضطرون لتناتش الأشياء بندرتها. ما تبقى من تعاون أولي بين العائلات والعشائر يتلاشى أمام علاقات النزاع. صادرت السلطة بمصارفها إيداعات الناس الصغيرة (والكبيرة). تصاعد التضخّم أضعافاً. تفاقم الغلاء. حتى بات الجوع الخطر الأكبر على الناس. الجوع أبو الكفار. كاد الجوع أن يكون كفراً كما قال الإمام علي. الجوع يهدد أواصر المجتمع ويدمر العلاقات الأولية. يزعزع قواعد المجتمع.
لا يدرك أهل السلطة أن تدميرهم للدولة، وتحويلها الى دولة فاشلة، سيكون له أثار مدمرة على المجتمع؛ أو كانوا وما يزالون يدركون ذلك ويحافظون على سير إفشال الدولة تمهيداً لإفشال المجتمع. لعلهم يريدون انزواء بعض المجتمع في إطار ديني، وبقية المجتمع في غير إطار لا يأبهون له. حديث الطوائف الآن بلغ أبشع صوره. يعلم أكباش الطوائف أن هذه تتفكك، فيتظاهرون أنهم يعملون من أجل الانتخابات ويرفعون الأصوات والشعارات الطائفية لتحقيق ما يسمى “شد العصب” الطائفي. كل طوائفهم تجتمع حولهم، أخذاً بالاعتبار أن الانتخابات ستحصل بسبب الضغوط الدولية الخارجية. وإذا حدثت الانتخابات، فهي ستكون على أنقاض مجتمع مفككك. قانون الانتخابات المعمول به حالياً هو أفضل وسيلة للتعمية، كي لا يعرف المقترع من ينتخب، بدل من أن يكون القانون مبسطاً كي يعرف الناس أي فرد أو مجموعة أفراد يقترعون لهم. الناخب الآن يقترع أصواتاً تفضيلية ولوائح لا يعرف منها آلية الانتخاب ويستحيل أن يعرف ماذا ينتخب من حواصل. إمعان في التفكيك. أسلوب التعمية مع الإفقار هما السلاحان بأيدي الطبقة السياسية كي تاتي بالنتائج الانتخابية التي تريدها هي، لا ما يريده الناس. يقترع الناس فتذهب الصناديق الى العد لدى الطبقة السياسية. وهذه تختار النتائج.
هناك وهم كبير بأن الانتخابات تؤدي الى تغيير السلطة والمجتمع لذلك يكثر الحديث منذ اليوم عن الانتخابات التي يؤمل أن تجري قبل أواسط عام 2022. وهذه لن تجري قبل أن تتأكد السلطة (أحزاب السلطة) من الفوز بالأكثرية. ليس متوقعا أن تكون السلطة غير ذلك. لن تدفن نفسها بنفسها. وهي تعلم أن مزاج الجمهور في غير صالحها.
عملت السلطة خلال الأعوام الماضية على تفكيك المجتمع، وتريد أن لا يكون هذا الموضوع مطروحاً كأساس تُبنى عليه الآراء في الانتخابات المقبلة. يريدون انتخابات تؤدي الى نتائج تكون استمرارية لما انقضى، لا قطيعة مع الماضي. ليس همهم إنهاء عذابات المجتمع بقدر تأبيد (جعله أبدياً) وجودهم في السلطة. بلغ بهم الغرور أن اعتقدوا أن وجودهم في السلطة ضرورة، والضرورة أبدية. وضعوا أنفسهم مكان الآلهة. نسوا أن الآلهة، وهي كانت تتدخّل في شؤون البشرية، قد أزيلت وأن الذي حل مكانها إله واحد يتهمه البعض أنه لا يتدخّل في شؤون عباده. حتى أنه ترك لهم حرية أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا. ومن شاء منكم فليؤمن.
الدولة موجودة كسلطة، وهي رجاء في وعي المجتمع. لكن الطبقة السياسية فعلت كل ما بوسعها كي لا تبقى الدولة مرجعية المجتمع والإطار الناظم له. يتفكك المجتمع عندما لا تكون الدولة مرجعية له. “حارة كل مين ايدو إلو”. كان غوار الطوشة محقاً. وقد كان زياد الرحباني محقاً حين قال : “انتو مش بلد، انتو قرطة زعران”. تاريخيا كان الزعران في أدنى السلم الاجتماعي. هم في قمته الآن. كانت الطبقة السياسية الحاكمة دائماً، الآن وعبر التاريخ، قرطة زعران، لكنها الآن فقدت الحياء وتسعى لأن يفقد المجتمع ملكة التهذيب.
قصة الكهرباء في لبنان دليل على مؤامرة ما ضد الكهرباء وبالتالي ضد الشعب. التواطؤ حصل بين أطراف السلطة. في عامي 1997-1998 بنت السلطة معملي إنتاج في الزهراني ودير عمار، ثم في مختلف أنحاء لبنان محطات أصغر. الذين يعرفون لبنان وطبقته السياسية توقعوا في حينه أن الكهرباء لن تدوم. في الحقبة الأخيرة من أيام لحود حدثت الانقطاعات في الإنتاج، ومعارضة غير محقة في بعض المناطق لاستكمال الشبكة. ثم خصخصة شبكة النقل المنخفض الفولتاج والجباية. بدأت مع هذه الإجراءات خربطة الشبكة. فكأن الدولة وعلى رأسها الطبقة السياسية تقول فلتكن الخصخصة، وأمور الكهرباء ليست من شأننا. بدأت مولدات الأحياء تظهر في أحياء المدن والقرى، ولا ندري كيف تم التشريع لها، هذا إذا تم. كان حلاً سهلا للكهرباء وما زال. أحد فريقي السلطة في لبنان سيطر على القطاع وزيراً بعد وزير لمدة 18 سنة. الفريق الآخر كان يتفرّج ويوافق بسكوته. كان المفروض توسعة معامل الإنتاج بعد 15 أو 20 سنة من بنائها. والتوسعة لا تتطلّب أكثر من تركيب مولد إضافي مع مستلزماته في كل معمل، لأن معملي دير عمار والزهراني أخذ فيهما بالاعتبار عند البناء الأوّل تهيئة المجال للتوسعة. لم يحدث ذلك. ليس أوضح من تواطؤ السلطة بأحزابها ضد الكهرباء. يقال أن عدة وفود أوروبية عرضت التوسعة، فرفض أهل الحكم ذلك. في نفس الوقت بنيت سدود لا لزوم لها، ومُنعت سدود مُخطط لها منذ الستينات. يعتمد المجتمع الآن على مولدات الحياء، كما يعتمد على كميونات المياه. نظام لبنان طائفي، لكننا لا نعلم أن كانت الالكترونات الكهربائية أو قطرات المياه تأبه للطائفية، أو تسعى لكي تكون عندها هوية طائفية. قس على ذلك المرافق الأخرى.
عندما تتخلى الدولة عن إدارة المجتمع تتحوّل الى سلطة؛ مجرد سلطة تكون فيها مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية والسياسية مشتتة مدمرة. وهذا ما يحدث. إن المشكلة ليست عدم وجود الدولة. هي موجودة. المشكلة هي أن السلطة وأحزابها تدمر مؤسسات الدولة؛ وذلك عن سابق تصوّر وتصميم. ليس في الأمر مجرد إهمال، ولا يُستبعد ذلك، لكن الفعل العمد هو الأساس، وهو ما أدى الى الإهمال. الإهمال نتيجة لا سبب. وعلى كل حال الإهمال جريمة أكبر من العمد. لأن من واجبات الدولة أن لا تهمل، وأن تدير مؤسساتها وتحافظ عليها، لكن الإصرار على ضرب هيبة الدولة، وهي علة كل العلل، هو الذي كان مفتعلا، وكان يحصل يوميا عن سابق إصرار وتصميم. إن البغض الذي كانت تكنه أحزاب السلطة لرفيق الحريري كان بسبب الاعمار وليس بسبب تفوقه في طائفته أو أي خطر يشكله على الطوائف الأخرى والبلدان المجاورة. قدم نموذجاً لرئاسة الوزراء (كرئيس سياسي لا كموظف أعلى إداريا) لم يكن مألوفاً في أي بلد عربي آخر؛ نموذجاً في السياسة في لبنان وذي صدى في بقية البلدان العربية. حتى القرار 1559، أُخِذ في هذا السياق، مع الشك أنه شارك فيه.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق