بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
ليس هناك أدنى شكٍ في أن الإدارة الأمريكية هي التي فجرت الأزمة الروسية الأوكرانية، وأنها هي التي أشعلت فتيل الحرب بينهما وسَعَّرت أواراها، وأنها تتحمل كامل المسؤولية عن تدهور الأوضاع العامة في شرقي أوروبا، وأنها التي مارست التعبئة والتحريض، والفتنة والتخريب، وأنها التي نفخت في الكير وأغرت الحكومة الأوكرانية وخدعتها، ومَنَّتهَا وكذبت عليها، ووعدتها وأخلفت معها، فقد كانت معنية بالحرب وحريصةً عليها، ومهدت لها ويسرت السبل لاندلاعها.
مارست الإدارة الأمريكية الأكاذيب والأباطيل، ونشرت أقمارها الصناعية وبثت صورها الكاذبة وأخبارها الملفقة وتصريحاتها التحريضية، ونقلت صوراً مضللةً وحشوداتٍ مختلفةً، لتوحي بأن الحرب قادمة، وأن الاجتياح الروسي لأوكرانيا بات مؤكداً، وأن الحرب أصبحت مسألة وقتٍ ليس إلا، وضربت لاندلاع الحرب أكثر من موعدٍ وحددت أكثر من تاريخ، وهي أكثر ما تكون رغبةً في اندلاعها، وأحرص ما تكون على تجنبها وعدم وقوعها، فهي المستفيدة منها والرابحة من تداعياتها.
خُدِعَ الأكرانيون وصدقوا الدعاية الأمريكية، وشعروا بأنها معهم تؤيدهم وتنصرهم، وأنها ستقف إلى جانبهم وتساعدهم، وأنها لن تتركهم وبلادهم نهباً للروس وطعماً لآلتها العسكرية الجبارة، وأن حلف الناتو القوي المترامي الأطراف حتى حدودها، والذي تترأسه أمريكا، سيقف معها وستدافع عنها، وأنها بهما، أمريكا والناتو، ستكون قويةً وقادرةً على صد الغزو الروسي إن وقع، والصمود في وجه آلته العسكرية إن هاجمت واعتدت، وقررت الغزو والحرب والاجتياح.
لكن الإدارة الأمريكية، شأن كل الإدارات التي سبقتها، تمارس السياسة بخبث، وتتقن الدبلوماسية بدهاء، وتمتهن بحنكةٍ ودرايةٍ فن خلق الفتن وإشعال الحروب، ولا يعنيها خسائر الآخرين وضحاياهم، بقدر ما تعنيها وتدفعها مصالحها ومنافعها، وأهدافها وغاياتها، وهي في الغالب أهدافٌ معاديةٌ، وغاياتٌ تضر بأهل المنطقة وسكان الأرض وأصحاب الحقوق، والتجارب على ذلك كثيرةٌ وعديدةٌ، ولكن الشعوب تنسى أو الأنظمة والحكومات تسكت وتتغافل.
اندلعت الحرب واجتاحت القوات العسكرية الروسية الأراضي الأوكرانية، فبلع الأمريكيون ألسنتهم، وتخلوا عن مسؤوليتهم، وتراجعوا كالشيطان عن وعودهم، وأنكروا أنهم تعهدوا بحماية الأوكرانيين والدفاع عن بلادهم، وبدأوا بشنِ حربٍ دعائية تحريضية ضد روسيا، وأوفدوا للمهمة حلفاءهم من كندا وصولاً إلى بولندا، مروراً بألمانيا والعديد من المسؤولين في حكومات دول أوروبا الغربية، ولكنهم بدوا ضعفاء في مهمتهم، ومترددين في جهودهم، وغير واثقين من نجاحهم، بعد أن رأوا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ماضي بحزمٍ، ومصر على مواصلة الحرب حتى تحقيق الأهداف التي أعلنها وحرك جيوشه من أجلها.
لن تتوقف الجهود الأمريكية الخبيثة التي قرعت طبول الحرب وأشعلتها، عند دوي المدافع وهدير الطائرات، وأصوات الانفجارات وعديد الضحايا وحجم الخراب، بل ستواصل مهمتها بخبثٍ ودهاءٍ، وهي تظن أنها ستنتصر فيها كعادتها، وستتفوق فيها وتنتصر، وتحقق أهدافها، وتعود كما كانت وتريد، سيدة العالم الأولى، وصاحبة القوة الأعظم والقرار الأوحد، وقطب العالم الوحيد الذي يتحكم في القرارات ويقرر مصير الشعوب ومآلات الدول والحكومات، ولكن الواقع هذه المرة قد يختلف، والنتيجة قد تكون مغايرة، فالدروس قد حفرت مكانها في الأذهان، وتركت آثارها على الأدمغة والأجساد، فلن تنساها الشعوب ببساطة، ولن تمر على خصومها التقليديين بسهولة.
إنها ليست أوكرانيا فقط، بل هي السياسة الأمريكية ذاتها في كل مكانٍ، فهم الذين يؤججون الفتن، ويفتعلون الأزمات، ويخلقون التناقضات، ويفجرون الحروب، ويفرضون السياسات الظالمة والحلول العنيفة، وهم الذين يختلقون الخصوم ويناصبون الشعوب العداء، ويمارسون ضدهم مختلف أنواع الظلم والعسف والعدوان، يحاصرون البلاد ويفرضون العقوبات، ويفسدون العلاقات، ويخربون الاقتصاد، ويتطلعون إلى نصرة الظالمين ومساندة المعتدين، كشأنهم المعهود مع الكيان الصهيوني، الذي ينصرونه بظلمٍ على الشعب الفلسطيني المظلوم، ولعلنا في قراءتنا لصفحات الحرب الروسية الأوكرانية، نتلمس كعربٍ وفلسطينيين ينفعنا، ونلتفت إلى ما يفيدنا ويحقق أهدافنا، شرط أن ندرس الأوضاع برويةٍ، وأن نقرر تجاهها بحكمةٍ ومسؤوليةٍ.
بيروت في 11/3/2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق