أيهم السهلي
(صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت)
المرأة الفلسطينية في لبنان، التي تمثل نحو 49.6 % من المجتمع الفلسطيني، مرّت بمراحل مختلفة، أولاها دعم الرجل في مختلف المهمات مع بداية اللجوء، وفي مرحلة ثانية، مع بروز الثورة الفلسطينية في لبنان، ساهمت المرأة الفلسطينية في العمل التنظيمي، فقادت العديد من العمليات النوعية، لتشكل هذه الحالة ثورة اجتماعية أيضاً داخل المجتمع الفلسطيني، ولاحقاً، بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، عادت المرأة الفلسطينية إلى المرحلة الأولى، فاقدة دورها في الاقتصاد والعمل، لكن اليوم، مع الانهيار الذي حدث في لبنان، بات ملاحَظاً دخول المرأة إلى ميادين العمل المتعددة في المخيم وخارجه.
ومع حلول اليوم العالمي للمرأة، تسلّط هذه المادة الضوء على تجارب ملهمة لنساء من عدة مخيمات، حملن على عاتقهن أدواراً فاعلة في حياتهن الشخصية وحياة مجتمعهن.
صورة من مخيم
ليس غريباً أن يرى المارة في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان امرأة تدير عملاً، كدكان لبيع الخضار، أو محل لتصليح الدراجات الهوائية، أو حتى أن تكون عضواً في اللجان الشعبية التي تدير شؤون المخيمات.
هذه العيّنة حالة يمكن الانتباه إليها عند مدخل مخيم مار الياس في بيروت على سبيل المثال، فأم علي بائعة الخضار باتت مع السنين نقطة علّام في المخيم، ومثلها نجلاء صاحبة الدكان الأكبر في المخيم، والتي تارة تتنقل على دراجتها النارية لقضاء أمورها الحياتية، وتارة أُخرى تستقل سيارتها لجلب البضائع الجديدة إلى دكانها.
نجلاء وأم علي سيدتان في مخيم صغير، مسؤولتان عن أسرتيهما وأسر أُخرى تعتاش من أرباح الدكان و"البَسطة"، ومثلهما نساء أُخريات في المخيم، تخرجن منذ الصباح إلى أعمالهن، ومع ذلك تفيد أغلبية الأرقام الرسمية المتعلقة باللاجئين الفلسطينيين في لبنان بأن نسبة النساء العاملات لا تتجاوز الـ 13%.
"سفرة" لم يكن حلماً فقط
صحيح أن المارة في مخيم برج البراجنة يلاحظون أن فرناً لخبز وبيع المعجنات تديره امرأة، إلاّ إن هذه الصورة ليست مؤشراً إلى واقع الحال بالنسبة إلى النساء في المخيم، فمعظمهن يعاني جرّاء عنف اجتماعي، بحسب قول مديرة جمعية البرامج النسائية مريم الشعار التي تضيف أن "العنف ما دايماً مرتبط بس بالضرب، في عنف اجتماعي ممارَس بيتعلق بحرية الاختيار أحياناً، مثلاً ممنوع المرأة تشتغل برا المخيم، وممنوع تسمّي ابنها، في لائحة ممنوعات على النساء".
مريم واحدة من النساء اللواتي عشن عنفاً اجتماعياً غير مباشر، فقد كان لقب والدها في المخيم "أبو البنات"، كونه أنجب ست فتيات ولم يُرزق بصبي، الأمر الذي وضع على عاتقها مسؤولية تغيير تلك الصورة الاجتماعية تجاه النساء أو العائلات التي لم تنجب سوى بنات.
بدأت مريم، البالغة من العمر 50 عاماً، حياتها العملية معلمة في سنة 1993، وبعد انتقالها إلى العمل النسوي في مطلع الألفية كمتطوعة، تولت مسؤولية البرامج النسائية في المخيم، وبدأت في سنة 2014 بمشروع مغامر عبارة عن مطبخ حمل اسم "سفرة"، وتطور لاحقاً إلى كافتيريا خاصة بالنساء، تقام فيها ندوات ومحاضرات، فضلاً عن كونها مساحة للجلوس والعمل وإمضاء الوقت وتناوُل الطعام بأسعار رمزية؛ وتعود قصة هذا المطبخ إلى دراسة لحاجات النساء أجرتها الأونروا مع جمعية البرامج النسائية داخل المخيمات، وكون الجمعية كانت الجهة المنفّذة، استمعت مريم إلى نساء كثيرات "نحو 50% من النساء قالوا إنهم بفضلوا يشتغلوا، وذكروا المطابخ كشي بيقدروا يشتغلوا فيه وعندهم إمكانيته، وما بدو شهادات علمية"؛ وتتذكر مريم أن فكرة "سفرة" لم تكن واردة في ذلك الوقت، لكن النتائج لفتت نظرها وتمنّت لو أن بالإمكان القيام بشيء من أجل النساء، ومن أجل ذلك بدأ التفكير في عمل ما "قعدت مع بعض الزميلات وناقشنا شو ممكن نعمل، وربطنا الدراسة مع المشروع وقلنا خلص منقدم مشروع حول إعداد دورات تدريبية للنساء".
خلال التحضير لمشروع التدريب، اقترح المدرب فكرة إقامة المطبخ، الأمر الذي خلق لدى مريم أسئلة عن إمكانية نجاحه أو فشله "سألت نفسي قديه ممكن ينجح، أنا حدا ما بعرف أطبخ، ولكن بحب أتابع كل صغيرة وكبيرة، فبس يخلص المشروع كيف بدو يستمر، ولكن قد ما النساء ألحت مشينا بالموضوع، فتحنا مكان لندرب النساء". مرّ أكثر من سبعة أعوام على انطلاقة المشروع، وبات علامة فارقة في مخيم برج البراجنة، بعد أن تمكن من إعالة نحو 30 عائلة، تقول مريم "مشينا بالموضوع، والحمدلله بعد سنين المشروع مش بس موّل حالو، كمان قدر يموّل بالـ 2019 روضة الأطفال لأن ما كان إلها ممول. وحالياً المشروع تطور لصار في كافتيريا وإلها ممول هو "مطابخ بلا حدود"، وفي السابق ساعدتنا مؤسسة الفنار".
حلّت مريم عقدتها مع المجتمع الذي لقّب والدها بـ "أبو البنات"، وبات اسمها في المخيم قصة تروى للتدليل على النجاحات، ومع ذلك، ترى مريم أن الوضع الاجتماعي صعب جداً، والنساء يعشن نتائج الوضع الاقتصادي "عنا بالمخيم ارتفاع كبير بنسبة الطلاق بعمر صغير بسبب سوء اختيار الشريك أو الوضع الاقتصادي"، وعند هذا الحد تتمنى مريم أن تثق النساء "بقدرات بعض لحتى العالم يثق بقدراتنا".
أحلم بأن أكون رئيسة لدولة فلسطين
تسكن زهرا محمد (مواليد 1966) في مدينة صور، وتذكر أنها تهجرت من بيتها 15 مرة، وتهدم بيت عائلتها 5 مرات في عدة مناطق جرّاء المعارك والاجتياحات التي تعرّض لها لبنان، لتستقر العائلة اليوم في مخيم البص في صور- جنوب لبنان.
لم يكن لفكرة الذكورية مكان قبول لديها، وظل سؤال الحقوق يراودها طويلاً، إذ لم تكن قادرة على تقبُّل فكرة حق الذكور في اللعب بألعاب معينة ومنعها عن الفتيات "نحنا في مجتمعات ذكورية، ولكن كنت أضرب الصبيان دائماً، وكل صبي في الحارة آكل قتلة مني بسبب الألعاب اللي كانت محرّمة علينا، وكان في رأسي سؤال: ليش بعض الألعاب محرّمة علينا نحنا البنات". الأسرة دعمت زهرا، فوالدها شجعها على خوض تجربتها في الحياة "أبوي الحمدلله كان منفتح"، ومثل والدها كان شقيقها الشهيد يدعمها مادياً لإتمام تعليمها، لكن بعد استشهاده اضطرت إلى العمل لمساعدة والدها "كنا نطرز كنفة ونساعد أبوي بشغل البستان"، ومع ذلك جمعت زهرا من عملها مبلغ 500$ لشراء سيارة، أيضاً بعد أن سألت نفسها طويلاً عن حقها كفتاة في قيادة السيارة أسوةً بالرجال، إذ كانت فكرة القيادة سائدة للرجال فقط، فقادت السيارة على الرغم من أنها لم تكن تمتلك رخصة قيادة، لتعود وتستصدرها بعد حين.
أتمت زهرا تعليمها الجامعي على الرغم من الظروف الصعبة التي عاشتها مع عائلتها في لبنان "أنهيت علوم تربوية، وبدي أعمل ماجستير ودكتوراه، ومن هالشي لقيت حالي بدعم وبدفع النساء للتعلم، ولا سيما النساء الأميات". لاحقاً، عملت زهرا معلمة في رياض أطفال في مدينة صيدا - جنوب لبنان، وطورت قدراتها لتتمكن بعد ذلك من العمل في تمكين النساء ضمن مؤسسات عدة، كالاتحاد العام للمرأة الفلسطينية "درست سنتين باتحاد المرأة خلال حرب المخيمات، واشتغلت بالمنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان "حقوق"، بحب الشغل بين ناسي في المخيم، والمثال الأعلى إلي همه الناس اللي دعموني ودفعوني لأكفي دراستي".
تسكن زهرا وحدها بعد وفاة زوجها الفنان الفلسطيني محمود سعيد، وتستمر اليوم في إتمام تحصيلها العلمي، وأملها، كما قالت، بأن تتمكن في يوم من الأيام من افتتاح مأوى يساعد العجزة في المخيمات، كما تطمح إلى أن تكون رئيسة لدولة فلسطين في المستقبل.
لم أكمل تعليمي لكنني طورت نفسي
تخرج جميلة الصالح (58 عاماً) إلى عملها عند الساعة الخامسة فجراً، مسابقةً الوقت لإنجاز مهماتها كمسؤولة قسم في أحد أهم المطاعم في بيروت، لتشرف على الطلبيات المقرر إرسالها إلى بقية فروع المطعم في أنحاء لبنان.
تطلقت جميلة في سنة 2014، واتخذت قراراً بتحمّل مسؤولية نفسها بالكامل، من دون أن تتكل على أهلها، أو على أولادها الأربعة، من أجل تأمين قوت يومها، لكن جميلة، التي حملت السلاح ضمن أحد تنظيمات اليسار الفلسطيني، لم تتعلم في جامعة ولم تتلقّ تدريبات سوى ما تعلمته عن استخدام السلاح، لذا، وجدت نفسها بعد طلاقها أمام أزمة تأمين عمل يؤمن لها دخلاً يساعدها على تطوير نفسها، فقررت أن تتعلم "أول سنة دخلت الشغل، تاني سنة فضّلت أتعلم شيف وأطور حالي، فدخلت معهد وتعلمت إدارة مطبخ، وبعدها درست إدارة تغذية، وهلأ إلي 8 سنين بالشغل بمرتبة مسؤولة قسم".
نشأت جميلة في حي "النبعة" قرب مخيم تل الزعتر، وهناك تلقت أولى تدريباتها العسكرية مع "الزهرات"، وبعد سقوط مخيم تل الزعتر انتقلت مع أسرتها إلى مخيم المية ومية في صيدا- جنوب لبنان، وهناك خاضت عدة تدريبات أُخرى، وانخرطت في معارك عديدة "قاتلت بالـ 85 لما انسحبت إسرائيل، وما كان في تنظيمات، كان القتال شعبي للدفاع عن المخيمات من بعض القوى اللبنانية، وقاتلت بالمية ومية بحرب شرق صيدا، وكنت مع الناس اللي ساعدت في توزيع المؤن وإسعاف الجرحى وكل شي بيخص المخيم قدرت أساعد فيه ساعدت فيه"، وتذكر جميلة مساهمتها مع عشرات النساء في ترميم وإعمار مخيم عين الحلوة، بعد أن دُمِّرت أجزاء كبيرة منه خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وقيام جيش الاحتلال باعتقال معظم شباب المخيم ورجاله.
تقيم جميلة اليوم ببيت في مخيم مار الياس في بيروت مع عدة نساء، ماري التي عملت لسنوات كمضيفة طيران أرضية، وسيدة عجوز تقوم جميلة وماري برعايتها لعدم وجود مَن يعيلها ويلبّي حاجاتها. وهنا تؤكد جميلة أنه "ما في حقوق للمرأة في مجتمعنا، يمكن في مخيمات بيروت المرأة شوي بتطلع، ولكن في بعض المخيمات ما بتطلع المرأة ولا بتفوت"، وتعتبر جميلة أن المرأة عموماً، والفلسطينية خصوصاً "لازم تكون قوية الإرادة ومتعلمة، حتى لو كانت غير متعلمة لازم تكون مطورة نفسها بمجالات مختلفة، ومش معناها إذا موجودة بالمخيم ما تعرف شو في برا"؛ وتقول أيضاً "أنا ما تعلمت لأن كان ممنوع أقدر أكمل علمي، بس هاد ما عنى أبداً إني ما أطور نفسي".
أول فتاة في المخيم تقود دراجة نارية
ريان سكر (27 عاماً)، من مخيم شاتيلا، تعمل صحافية في منصة "كامبجي" المتخصصة باللاجئين ضمن مركز الجنى، ولها فيديوهات تحصد آلاف المشاهدات، وبعضها ملايين المشاهدات، وتؤكد أن والدها يُعتبر سبباً أساسياً لما هي عليه الآن "كسرت كتير قيود معاه، أنا أول بنت بالمخيم ساقت موتسيك بس هو يلي علمني، كرمال هيك من خلال مهنتي بالصحافة حاولت أنقل هاد الدعم للشاشة ليكون بابا مؤثر بكتير آباء".
ريان واحدة من 6 أخوات وأخ صغير، درست الصحافة في الجامعة العربية، وبدأت بإنتاج الفيديوهات ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي قبل خمسة أعوام، تأثرت بعدة بشخصيات قابلتها لإنتاج الفيديوهات، كالسيدة لطيفة في سوق صبرا "لطيفة امرأة جبارة بتجر عرباية خضرة ومعتمدة على حالها ورافضة تستسلم وفارضة وجودها كامرأة ومكون قوي بالمجتمع"، هذه السيدة كانت قصة من عدة قصص عن نساء في أوساط المجتمعات المهمشة في لبنان، اللواتي عملت ريان على إبراز حياتهن "فجأة لقيت حالي غرقانة بقضايا المرأة، اشتغلت لكامبجي 24 تقرير تحت شعار "قدوة" ضمن برنامج لليونسيف وحسيت أنها مسؤولية كبيرة"، تلك التقارير أظهرت عيّنات من نساء يعشن في ظروف ليست استثنائية في المخيمات ومحيطها.
تجد ريان نفسها فخورة، لكونها فتاة خاضت تحديات نشأت معها منذ احتكاكها بالمجتمع "أنا صراحة بشوف وضع المرأة اليوم متدهور عكل الأصعدة، بحس عم نرجع لورا، قليلات اللي بيعملوا شي عن قناعة"، وتضيف رؤيتها للحل "لازم يكون في وعي أكبر تجاه العلاقة بين الرجل والمرأة، أشياء بتشبهنا لأن في بعض التحركات كتير إكستريم وعم تعمل صدمة سلبية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق