بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
رغم أن الحرب الدائرة منذ أكثر من أربعين يوماً، هي بين روسيا وأوكرانيا، إلا أن العالم كله يدرك أنها بين أمريكا وحلفائها التقليديين في أوروبا وبين روسيا، التي تحمل عقل وحلم وإرث وطموحات الإتحاد السوفيتي السابق، وأن القتال الضاري والعمليات الحربية المتصاعدة بين الطرفين، هي محاولة لتغيير الأوضاع الراهنة، وتغيير قواعد النظام الدولي التي تشكلت إثر الحرب العالمية الثانية، واهتزت بقوة في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، عندما تفكك الاتحاد السوفيتي وانهارت امبراطوريته، وانكمشت في حدود الدولة الروسية الحالية، وغدت الولايات المتحدة الأمريكية تتربع وحدها على عرش القوة الدولية، كأقوى دولة في العالم.
كلُ دول العالم وشعوبها طرفٌ في هذه الحرب، قد لا تكون لغالبيتهم مشاركة مادية وتدخل مباشر فيها، لكن الكل عنده أمنيته ورغبته الخاصة، التي يتمنى أن تتحقق منها، وأن تكون نتيجتها لصالحه، بعضهم يعمل بصمتٍ ويتدخل بصورة غير مباشرة، وبعضهم تورط فيها عملياً، وشارك بالمواقف السياسية وإمدادات الأسلحة والتعبئة والتحريض الإعلامي، وآخرون آثروا الحياد التام، وعدم التدخل الفعلي، لكنهم يراقبون سير المعارك ومسار الأحداث، وقد تتغير مواقفهم وتتبدل تبعاً لتغير الظروف وتبدل الأوضاع، علماً أن العالم كله قد تأثر اقتصاده وتدهور بسبب هذه الحرب، التي هزت الأسواق العالمية وأحدثت اضطراباتٍ كبيرةٍ فيها.
روسيا تريد العودة إلى اتفاقيات العقد الأخير من القرن العشرين، وتتطلع إلى الالتزام ببنود الاتفاقيات التي نصت على عدم انضمام دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى حلف الناتو، وتصر على نزع سلاحها واحتفاظها بالحياد التام، وهي في سبيل ذلك على استعداد لمواصلة الحرب، وتمزيق الدول التي تهدد أمنها في أوكرانيا وغيرها، ودعم الحركات الانفصالية وخلق دويلاتٍ عرقيةٍ موالية لها.
أما أمريكا فهي تريد هزيمة روسيا، وتوريطها في حربٍ مكلفةٍ طويلة الأمد، تستنزف قدراتها وتدمر اقتصادها، وتفرض حصاراً دولياً عليها، وتشيطن دورها وتشوه سمعتها، وتمنعها من محاولة تغيير النظام العالمي السائد، وفرض نظامٍ جديدٍ يقوم على الثنائية أو التعددية القطبية.
لا يوجد دولة في العالم ليس لها مصلحة في الحرب الروسية الأمريكية، فدول أمريكا اللاتينية التي عانت الويلات من السياسة الأمريكية الظالمة لها والمجحفة بحقها، وكذلك المكسيك التي تشكو من العجرفة والكبرياء الأمريكي، وسياسات الاستعلاء التي تفرضها إدارتها عليهم، تتمنى أن تنجح روسيا في كسر أنف أمريكا، وإضعاف قوتها وتراجع نفوذها والتقليل من تأثيرها على أمنها وسيادة بلادها.
أما الهند والصين، وكذلك إيران وكوريا الشمالية، ومعهم باكستان أخيراً، فهم يتطلعون إلى كسر الشوكة الأمريكية، وقص مخالبها ونزع أنيابها، وحصر نفوذها في غرب آسيا، ومنع تدخلها في شؤون دولها، ويتمنون فرض نظام اقتصادي جديدٍ، لا يكون فيه للدولار الأمريكي دور ولا سيادة، ويتطلعون إلى العودة إلى نظام النقد القديم الذي كان قائماً على الذهب، أو فرض نظم نقدية جديدة تحترم العملات الوطنية وتقدرها، وتحافظ على اقتصادياتها المحلية وتحول دون محاربتها وتخريبها.
في حين أن دول أوروبا الغربية منقسمة على نفسها، فبعضها لا تريد أن تتورط في حربٍ مع روسيا، وتتطلع إلى علاقاتٍ إيجابية معها، كونها الجار الأقرب والشريك الاقتصادي الأكبر، وتخشى من أن تزايد التوتر معها قد يؤثر على أمن بلادها ومصالح شعوبها، وتتصدر فرنسا وألمانيا هذه الدول، إلا أنها تبدو ضعيفة أمام أمريكا التي تسوقهم وتفرض عليهم الالتزام ببنود ومبادئ حلف الناتو.
بينما تقف بريطانيا وبولندا وبعض الدول الأوروبية الأخرى كرومانيا، التي كانت قديماً جزءً من حلف وارسو، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، تؤيدها في سياستها، وتساعدها في برنامجها، وتفتح بلادها وتسخر قدراتها لتنفيذ مشاريعها، فهي تخشى إن انتصرت روسيا في حربها، ونجحت في إخضاع أوكرانيا لإرادتها، أن تتمدد وتتوسع، وتفرض شروطها وتستعيد نفوذها، وتخضع الدول التي كانت قديماً تؤيدها وتدور في فلكها، لسياستها ونفوذها، سواء رغبةً منها وبالاتفاق معها، حرصاً على مصالحها وحفاظاً على أمنها، أو بالقوة والإكراه كما أكرهتها القيادة السوفيتية في خمسينيات القرن الماضي.
أما بلادنا العربية فهي تائهة ضائعة، حائرة مترددة، ضعيفةٌ هزيلةٌ، لا تعرف أين مصلحتها، ولا تملك سيادتها، ولا تتمتع باستقلالها، ولا تدري مع من تقف ومن تعارض، ولعل ماضي أنظمتها القديمة، وجذورها الأولى في النصف الأول من القرن التاسع، إبان الحربين العالمية الأولى والثانية، تحركها وتوجهها، عندما أضاعت البوصلة وأخطات التحالف، وقبلت أن تكون أداةً بيد غيرها، طمعاً في عطائه وأملاً في وفائه، فما كان من المنتصرين إلا أن مزقوا بلادها، وقسموا حدودها، واحتلوا أرضها، وانتزعوا منها درتهم العزيزة، فلسطين المباركة، وزرعوا فيها الكيان الصهيوني، ليبقوا بيننا ويرهنوا أرضنا وينهبوا خيراتنا، ولعله اليوم هو أكثر المستفيدين من هذه الحرب، إن انتصرت روسيا وتوسعت فهو المستفيد، وإن هزمت وكسرت فهو من غريمتها مستفيدٌ.
كم نتمنى نحن، العرب والفلسطينيين، أن نخرج من هذه الحرب مستفيدين، فلا نستباح من جديد، ولا نستناخُ مرةً أخرى، وأن تكون لنا كلمتنا وإرادتنا، وصوتنا وموقفنا، وسيادتنا واستقلالنا، ونفضنا وغازنا، نوظفه لخدمة أهدافنا ومصالح شعوبنا، ومستقبل أجيالنا.
بيروت في 4/4/2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق