معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
■دعيت إلى إحدى الندوات الفضائية حول دور المستقلين في الانتخابات المحلية التي جرت مؤخراً في الضفة الفلسطينية، وكان أمراً مهماً أن نناقش مثل هذه القضية، خاصة وأن النتائج (في ظاهرها) أسفرت عن نجاح حوالي 65% من «القوائم المستقلة» في الانتخابات المحلية، مقابل 35% للقوائم الحزبية. فهل هذا معناه أن ثقل ووزن الفصائل قد تراجع، لصالح تزايد نفوذ المستقلين في الحراك السياسي والمجتمعي الفلسطيني؟ وعلى الإجابة الصحيحة والدقيقة يجب أن تبنى الاستخلاصات وأن تخرج القوى السياسية بالدروس المطلوبة.
ما معنى مستقل؟!
لا يحتاج تعريف «المستقل» إلى الذهاب بعيداً في الشرح، فمن حيث المبدأ فإن الناشط السياسي المستقل هو الذي لا ينتمي إلى أي من الأحزاب والفصائل، ويمارس نشاطه في صفوف الحركة السياسية دون التزام نحو أي من الفصائل، أو الأحزاب، يبقى على الدوام في الصف الوطني، يستطيع أن يلعب دوراً مهماً في الحياة السياسية، إذ من شأن زيادة نفوذ المستقلين أن يخفف من حدّة الاستقطاب الحزبي في النشاط السياسي، وأن يفتح الباب لبناء تيارات سياسية وازنة «مستقلة»، تستطيع أن تلعب دوراً في التوازنات السياسية، وأن تسهم في تقديم رؤاها ومبادراتها، وكلما كانت في فعلها وأدائها، معبرة عن موقع مستقل، متحرر من الضغوطات أو «الإغراءات» أو «الحسابات الضيقة» كلما استطاعت هذه التيارات أن تلعب دوراً فاعلاً في الحياة السياسية، دون أن يعني ذلك أنها معنية بمراعاة مواقف كافة الفصائل، بل هي قد تلتقي مع هذا الفصيل ولا تلتقي مع غيره. مثال على ذلك، أن الشخصيات المستقلة في قطاع غزة، انتقدت حركة حماس حين عطلت الانتخابات المحلية في القطاع، وأبقت على صيغة التعيين الإداري البيروقراطي وسيلة لتشكيل المجالس المحلية بديلاً للانتخابات، بينما التزمت بعض الفصائل الصمت إرضاءً لحسابات ضيقة، لا يرى المستقلون أنها تعنيهم.
وفي خصوصية الحالة الفلسطينية تحت الاحتلال، قد يلجأ بعض الشخصيات السياسية الحزبية إلى تقديم نفسها مستقلة، كي تتفادى مطاردة سلطات الاحتلال، أو مضايقة الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية.
الشخصيات المستقلة في تجارب الفصائل
في زمن الازدهار الفصائلي، وحين كانت موازين القوى في الميدان، تفرض آليات تقوم على مبدأ التشاور في صياغة القرار وتشكيل الهيئات الوطنية، كالمجلسين الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية رهينة رئاسة المجلس الوطني ضاعت المعالم بين المستقل وبين الحزبي في بعض المحطات وغيرها، تحول صف من الشخصيات المستقلة إلى جزء من الكوتا الفصائلية في المؤسسات الوطنية، كأن يقال مثلاً «تتمثل فتح بعشرين عضواً وتسمي عشرة مستقلين»، وهكذا تحول المستقلون إلى شخصيات تقف على ضفاف الفصائل، وتساهم في إدارة «لعبة الكوتا»، وصار المستقل (بالضرورة) محسوباً على هذا الفصيل أو ذاك، حتى أن الأمور اختلت أكثر من ذلك في بعض الأحيان مثلاً حين تم انتخاب أحمد قريع عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عام 2019، باعتباره «شخصية مستقلة» في تسوية فتحاوية داخلية، بعد أن فَقَدَ قريع فرصه في الوصول إلى اللجنة المركزية لفتح، وفي المجلس المركزي الأخير، تم تسمية محمد مصطفى عضواً في اللجنة التنفيذية باعتباره مستقلاً، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أنه من أقرب المقربين لرئيس السلطة، حتى أنه رشح مرة لرئاسة الحكومة رداً على ترشيح بلينكن لسلام فياض.
ونتيجة لهذا كله بات الحديث عن الشخصيات المستقلة يرمز إلى فئة معينة من الناشطين السياسيين الذين ما زالوا يتحلقون حول «فصائلهم» حتى دون أن يكون لهم موقع رسمي فيها، ولم يبرأ من هذا التوصيف إلاّ قلة قليلة من الشخصيات الوطنية المستقلة، له تاريخه النضالي، دخل معترك الحياة السياسية بصفته مستقلاً منذ البداية.
المستقلون وتجربة الانتخابات المحلية
وفق إحصائية أجرتها بعض مراكز الأبحاث الفلسطينية، ثبت بالملموس أن القوائم المستقلة التي تستحق هذا الوصف كانت أقل بكثير مما أعلنت عنه اللجنة المركزية للانتخابات، وأن معظم القوائم الفائزة كانت لفصائل وقوى سياسية، رأت مصلحتها في أن تتقدم بقوائم «مستقلة». وكان تحالف حماس – الشعبية، هو النموذج البارز حين تقدم بقوائمه كاملة، باعتبارها مستقلة، بينما قدمت فتح والجبهة الديمقراطية (على سبيل المثال) قوائمها بصيغتها الحزبية، ولأن تحالف حماس – الشعبية، حقق نجاحاً في الانتخابات، فقد احتسبت قوائمه لصالح المستقلين، ومن هنا ارتفعت نسبة القوائم المستقلة الفائزة دون أن يترجم ذلك حالة مجتمعية جديدة، تُنبئ بولادة تيار مستقل في الحالة الوطنية، يتقدم الصفوف، جنباً إلى جنب مع الفصائل، في إغناء لتجربة العمل السياسي الفلسطيني، وإخراجه من دائرة الاستقطاب المحدود، خاصة في ظل الانقسام بين حركتي فتح وحماس.
التيارات المستقلة حالة مجتمعية
لا شك في أن التيارات المستقلة (بالمعنى الفعلي للكلمة) تشكل تعبيراً عن حالة مجتمعية، لفئات وشرائح طبقية لا ترى في الحالة الحزبية القائمة، على اختلاف اتجاهاتها، ما يلبي طموحاتها ومصالحها السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
ويبدو أن خصوصية الحالة الفلسطينية لم توفر الظروف الضرورية لنمو تيارات مستقلة، كتعبير عن تنوع اجتماعي وسياسي، ففي ظل الاحتلال والتشرد، تبقى القضية الوطنية هي العنوان البارز للنضال الوطني، وهو أمر قد لا يساعد على توليد فرص غنية لنمو تيارات مستقلة، خارج إطار الانتظام في الفصائل، أو في تراكيب قيادية فلسطينية، تقودها وتهيمن عليها الفصائل، ولا يكون فيها للتيارات المستقلة فعل مميّز، بل تتحول بفعل الأمر الواقع إلى جزء من الأمر الواقع.
لكن من جهة أخرى، وبعد قيام السلطة الفلسطينية، وما أحدثه ذلك من تطور في الرؤية السياسية، حيث بات الهم الاجتماعي (تحت ظل السلطة الحالية) يجاور الهم الوطني. وبالتالي فإن التطورات الاجتماعية في الضفة وفي القطاع، في ظل السلطة، وفي ظل موازين قوى جديدة أنتجها اتفاق أوسلو وتداعياته، كما أنتجها الانقسام بين فتح وحماس، بدأت فئات وشرائح اجتماعية تُطلّ برأسها، من رجال أعمال ومال ومثقفين، ترى مصلحتها في الخلاص من الاحتلال، لكنها في الوقت نفسه تصدمها مظاهر الفساد التي تجتاح السلطة، الأمر الذي يملي عليها هي الأخرى أن تقدم نفسها، على الأقل في الجانب الاجتماعي كتلة ناشطة في معارضة سلوكيات السلطة وأداءها، مع تأكيد موقعها المستقل، ظنّاً منها أن ذلك يدخلها دائرة النزاعات بين الفصائل، ويحملها تداعيات ويضعف دورها.
السؤال الذي ما زال بحاجة إلى إغناء النقاش حوله هو:
هل بتنا حقاً أمام حالة تُنبئ ببروز شخصيات وتيارات وطنية، تحاول أن تجد لها موقع قدم في الحالة السياسية، إن من بوابة الانتخابات المحلية، أو من بوابة النقابات المهنية كالمحامين والأطباء وغيرهم، أو من خلال غرف التجارة والصناعة وغيرها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق