أحمد الحاج علي
بدأت هجرة الشباب بالمئات إلى الدنمارك والسويد خصوصًا. استدعانا الرفيق وحدّد لكل واحد منا موضوعاً يكتب فيه. وطلب مني أن أتناول الهجرة. لأول مرة تجتاحني البهجة منذ أشهر. اعتبرت طلبه اعترافاً بنضوجي المبكر. رحت أياماً أتأنى في انتقاء الكلمات. عثرت على عدد من مجلة "فلسطين الثورة"، سرقت عبارات كاملة. كل غايتي أن يُعجب مقالي الأول الرفيق يعقوب، وأستمع إلى إشادة منه. وبين الفقرة والفقرة أعود لأطلب رأيه، أو طامعاً في مديحه، لكنه كان شارداً معظم الوقت. وعند إلحاحي يهز رأسه مرتين. موضوع استغرق أسبوعين. سلّمته إياه، قرأه على عجل. هزّ رأسه. أصررت عليه لإبداء رأيه فقال بعد تردد "جميل". ثم ألصقه ببرود على لوحة الحائط.
دقائق قليلة، ضوء كأنه نار تأكل المكان، وطنين ما زال في أذني. قذيفة. أسير خطوتين، ثلاث، فأقع. أحاول أن أقف ثانية. لا قدرة على الوقوف، أو حتى تحريك القدمين. أستسلم للأرض، وقدرة الأخ يعقوب على المجيء بأي لحظة مادّاً يديه لإنقاذي. لهذا كانت صرختين، الأولى "يمّا"، الكلمة التي يضعف الإنسان أمام صاحبتها من دون أن ينكسر. والصرخة الثانية "يعقوب". أمي بعيدة لا تسمع، وربما أحسّت. ويعقوب كان يسمع اسمه ونداءات الاستغاثة. البارود والغبار يملآن صدري، ولا يطردهما السعال. أسمع أنيناً من مكان قريب، فلا أكترث بداية. لا أريد سماع سوى صوتي ليملأ الفراغ، ويكسر الصمت المرعب، ويسلّي وحدتي. يعقوب لا يستجيب.
(يتبع)
اختفاء بطل مخيم البرج: يعقوب المزيّف يأكل الدجاج
كان يعقوب يعتلي المراتب، ويتلقى التنويهات، وجسدي يتكور أكثر في الليل، في بحث عن حالة جنينية تبعث على الاطمئنان. صنع مجده من تلك الجروح، وبعض الخطابات الضحلة، وقدرته على الامتثال لأوامر رؤسائه من دون أي اعتراض. مأساة أنه أثناء سقوطه فجأة من مرتبة البطولة إلى الوضاعة لم يسقط وحده، بل سقطت أحلام كثيرين معه، ومن بينهم ذلك الطفل الذي لم يستجب لنداءاته. والمأساة الأكبر أن سقوطه الأخلاقي كان يسير في خط معاكس لصعوده السياسي.
حوالى ستة أعوام ظهر أكثر من يعقوب بأكثر من وجه وأسلوب خداع، حوّلت كل معاني غيرية مراهق إلى الذاتية، وربما الارتياب أحياناً. كان على المراهق أن يردد مقولة عفلق "ليس هذا البعث بعثي" بتلاوين مختلفة. ويتساءل عن الفرق بين يعقوب سلب بيت أبيه وجده في بلدته "شعب" ومدينته عكا، ويعقوب يحاول سلب حلمه. صعب أن تبدو أبلهاً، كلما تراءى إليك حلمٌ ركضت خلفه، لتحصد السراب. لكن ما هو أصعب أن تغدو بلا حلم. كلما خاب حلم كان علينا أن نصنع حلماً آخر لنطارد اليأس في المخيم.
البلاهة قاسية، لكن الحياة بلا حلم يباس، ولا تستحق اسمها ومعناها. فكم بتّ، منذ يعقوب الثالث، ألعن السياسة، وفي الليل يراودني حلم، لم يفارقني منذ طفولتي حتى اليوم، أنني أقفز من سور عكا إلى بحرها في بهجة وفرح حتى أكاد ألامس الروح، أو فعلت. الحلم يصل كل زاوية في النفس، العقل لا يستطيع. ماذا فعلتَ بي يا يعقوب لأفاضل بين البلاهة والحلم؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق