والله إن أدر ما بيني وبينهم إذ يركبون جَنانا مسرفاً ورباً
(الجَنان هنا مع فتح الجيم، ومعناه ما خفي، والواو في وربا ليست حرف عطف، فالتعبير وربا يعني الفساد)
لكن ما بيننا وبينهم هو ثورة 2010-2011، التي بدأت في تونس ثم مصر، وانتشرت في كل أرجاء الوطن العربي، من المحيط الى المحيط، دليلاً على أن هذه الأمة العربية ذات قلب واحد ومشاعر موحدة ومطالب متشابهة، تتلخّص في شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. قال الشعب كلمته واحتل المجال العام، أي الشارع، بجماهير غير مسبوقة في أعدادها مما أدى الى إسقاط أنظمة. من لم يسقط من الأنظمة، إما وزّع الثروات على شعبه لإسكاته، إذا كان يملك ثروة نفطية، أو شن الهجومات المتتالية على شعبه تنكيلاً وقمعاً. وانقسمت المنظومة الحاكمة العربية، في إطار ثورة مضادة، الى من ينفّذ الثورة المضادة، ومن يمولها بالمال والسلاح لإنتاج حروب أهلية. هي حروب من نوع جديد في الوطن العربية، إذ نادراً في الماضي ما زجت الأنظمة العربية نفسها في حروب عن طريق ميليشيات تقاتل بعضها بعضاً، وتدخلت قوى الامبريالية العظمى والعظيمى لتؤجج إدارة الحروب الأهلية. وكان يلزم كل ذلك جحافل من مثقفي السلطة، والذين انبروا يبررون للأنظمة ما تفعله، وينكرون الثورة العربية، أو ما سماه البعض “الربيع العربي”؛ وهو كان أكثر من ذلك بكثير؛ هو خريف أنظمة الاستبداد العربي، الذي كان شاملا، والذي أنتجته مرحلة التحرر الوطني. أنظمة الاستقلال التي زعمت، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، تحرر المجتمع دون أن تسمح بالحريات داخل المجتمع. يصح القول أن التحرر الوطني لم يؤد الى الحريات في الداخل بل الى مرحلة من القمع وإنتاج مجتمعات مغلقة. أدى إغلاقها الى إنتاج الأصوليات الدينية التي تذرعت قوى الامبريالية بمحاربة إرهابها، وما يُسمى حقوق الإنسان، كي تتدخّل كما تشاء وبعشوائية أطلق عليها اسم القانون الدولي.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ
أذكر أن في المؤتمر القومي العربي الذي انعقد في تونس أواخر العام 2011، دعيت لإلقاء آخر خطبة في اليوم الثالث. وكنت آنذاك مزهواً بالثورة، وعبرت عن ذلك بفخر. وعندما نُشرت مداولات المؤتمر في مركز دراسات الوحدة بعد ذلك، أُدرجت الردود على ما قلت، ولم تُدرج الخطبة التي ألقيتها. لا يهمني النشر، بل يسيء إليَ ضيق النفس الذي يعبّر عن ضيق الأفق. وهو أمر تمتاز به نخبنا الثقافية. فهي إن شاءت أو أبت، يعبّر خطابها عن سلطة لا تعرف أو تعرف ما هي.
وعندما قررت الاعتزال منذ سنوات طويلة، كان ذلك بقرار مني بعفوية كاملة. كان الرئيس الشهيد يسألني، لماذا؟ كان الجواب دائماً هو أن المسألة تتعلق بالمزاج. ولم يكن هناك أي مشكلة مع الرئيس. بل على العكس بقينا صديقين لآخر يوم في حياته. وعندما أُعِدت الى مجلس الإنماء والإعمار بين آخر العام 2004 وأواسط العام 2006، كان ذلك بطلب من الرئيس بشار الأسد، ثم كان إخراجي على يد سعد الحريري بطلب من دولة الرئيس فؤاد السنيورة عندما كان رئيساً للوزراء، بحجة أنه لا يستطيع تحملني كما أبلغت، وكان ذلك أثناء حرب تموز بسبب مواقفي المتضامنة مع حزب الله.
لا صبر لأنظمة الاستبداد في بلادنا العربية على شعوبها. فهي تمارس ضدها العنف المادي عند أية مخالفة للرأي الذي تفرضه. ولا صبر للكثير من النخب الثقافية على حَمَلةِ الرأي المخالف. لذلك يمارسون ضدهم العنف اللفظي، بما في ذلك الاتهام الأخلاقي بدلاً من النقاش والحوار. يصير هؤلاء المثقفون من “وعاظ السلاطين” كما سماهم الوردي. هو فقدان ملكة التهذيب، والتعبير مشتق من الكيفية التي يعامل بها الضباط العسكريون جنودهم. حتى في الدواوين البيروقراطية المدنية تسود المعاملة ذاتها.
تعالوا الى “كلمة سواء”، وليكن حول أفكاركم وأفكار غيركم حوار ونقاش. لا خير في صاحب أفكار يشك ولا يتساءل حول ذاته أولاً. قال الإمام الشافعي: “رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب”.
لا خير في ديمقراطية لا تسودها أداب النقاش والحوار ومركزية السؤال والشك. حتى فقهاء أصول الفقه في تاريخنا كانوا يقولون “اليقين هو غلبة الظن”. مع الحداثة وقبلها كانوا يرددون قول ديكارت “أنا أفكر إذن أنا موجود”. مع التفكيك في عصر ما بعد الحداثة والنيوليبرالية، يقولون ما معناه “أنا أنكر إذن أنا موجود”. لقد اخترقتنا ما بعد الحداثة والنيوليبرالية قبل أن تتمكن من الحداثة.
الخصام الفكري أساس ملكة التهذيب والديمقراطية. تتحوّل هذه الى تعداد أصوات دون حق الاختلاف والحوار والشكل والسؤال. وكل ذلك أساسي فيما يتعلّق بالحرية. ولنتذكر أن الحرية، حرية الفرد، غير التحرر الوطني في مرحلة الاستقلال. وللأسف، كان الاستقلال، وما يزال، إطاراً للاستبداد. ليس الاستقلال سبب الاستبداد، بل هو ضيق النفس، وضيق الأفق، وضمور الثقافة، وفقدان ملكة التهذيب عند من حكموا في مرحلة الاستقلال، الذي هو شرط ضروري وغير كافِ للحرية. حتى النبي لم يدّع العصمة في أمور الدنيا. قال لهم كما ورد في الحديث الشريف: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”.
مزقتنا الامبريالية خاصة في زمن النيوليبرالية، حتى خلنا أنه لم يبق لدينا مشتركاً إلا اللغة العربية تجمع الأمة. جاءت ثورة 2011 انطلاقاً من تونس ومصر، لتعم الوطن العربي، ولتؤكد أن هذه الأمة ذات نبض واحد، وأن وحدة شعوبنا أمر مؤكد، وأن الوحدة العربية ستكون وحدة دول على أساس أن الوحدة الشعبية الراهنة. لكن علينا العمل على الحفاظ على وحدة الأقطار العربية، وهذا أمر مرهون بقيام دولة المواطنة في كل قطر عربي. شرط المواطنة هو الحرية. وهذه مفقودة. “أنعم” علينا الاستبداد بإفقادنا اياها. قيام الدولة العربية الواحدة طريقه قيام دولة المواطنة في كل قطر عربي. سيكون مفيداً للمؤتمر القومي العربي إضافة ملكة التفكير الى برنامجه العملي. الأمور النظرية ليست مفروغاً منها. ما زلنا في البداية أو قبلها.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق