الفضل شلق
أن يزول العرب وتبقى لغتهم حية، سؤال مبرر بسبب ما يتعرّض له العرب من تمزقات وشرذمات وحروب جديدة بتمويل مال النفط والتدخلات الامبريالية العظمى والعظيمى. في بعض الدول العربية، عاد الاحتلال بشكل الاستعمار القديم، ويشتد في بعضها الآخر النفوذ الأجنبي بشكل الاستعمار الجديد، وبعضها الآخر تمزقه الحروب الأهلية.
لغة القرآن محددة حتى بقواعدها التي لا تتفق مع الفصحى أحيانا. الفصحى هي اللغة المشتركة بين جميع الأقطار العربية. فهم القرآن من الفصحى أمر سهل. المهم أن اللغة العربية بانتشارها العربي ليست لينغوا فرانكا، بمعنى أنها تتعلمها نخب دينية أو سياسية بيروقراطية، بمعزل عن الناس. هي لغة الناس. أما اللهجات أو اللغات المحلية المحكية، فهي وإن كان هناك صعوبة للتواصل بين الناطقين بها من مختلف البلدان العربية، إلا أن التفاهم بهذه اللهجات المختلفة ممكن، إذ جرى الحديث ببطء نسبي. على كل حال تقترب الفصحى والعاميات من بعضها بفضل وسائل الإعلام والتواصل بين البلدان العربية. الفصحى هي لغة التواصل بين العرب، مهما كثرت الحواجز، وهذه كثيرة.
صحيح أنه في بعض الأقطار العربية تنافس لغات الأقليات الإثنية العربية الفصحى، وأصحابها يطالبون بان تصير لغاتهم ذات صفة رسمية. هذا ممكن التحقيق. وما يتطلبه الأمر هو أن تعترف كل دولة عربية أنها متعددة. وتعترف بالتعددية حتى القومية في إطار الدولة الواحدة. المهم أن يتقدم بناء الدولة على أي مطلب آخر. ولا لزوم لتكرار أن الدولة غير النظام. الدولة هي إرادة العيش معاً، والنظام هو هيكلية السلطة، ببيروقراطيتها وأجهزتها وجيوشها. تغيير النظام مطلب أساسي في كل حين. وهذا ما طالبت به الثورة العربية لعام 2011. أما تغيير الدولة فليس مطلباً ولا يجب أن يكون. بناء الدولة القطرية هو مجال العروبة الحقيقي لا القومية العربية التي هي فكرة يتصاعد شأنها أو يهبط حسب الظروف. العروبة هي بمعنى ما الوجود العربي الذي يعبّر عن نفسه باللغة الفصحى. الوجود العربي باق ومستمر وهو الذي يستغرق الشعوب العربية على الاختلافات والتمايزات داخل كل قطر عربي؛ فالتعددية تصيب كل مجتمع عربي أو غير عربي. وهي تصيب أيضاً كل فرد. كل فرد متعدد الهويات. اللغة العربية هي الهوية الجامعة. هي فوق كل الهويات والانتماءات الأخرى. والتفريط بها أمر شبه مستحيل. وهو أمر لا يدعو الى الفخر أن لا يبقى لنا سوى اللغة توحدنا. لكن الظروف العربية التي تسدعي أقصى التشاؤم لم تترك لنا إلا هذه القاعدة للبناء عليها.
على كل حال، انتشار اللغة العربية الفصحى هو ما صنع العروبة. منذ الفتوحات الإسلامية انتشرت اللغة العربية تدريجياً، ولم تصبح لغة محكية لأكثرية السكان المحليين إلا في القرن ال11 أو ال12 ميلادي، أي بعد الفتوحات بخمسة أو ستة قرون. صارت هي لغة التواصل والتفاهم في المحيط الإسلامي الممتد من الأندلس الى الصين. ساهمت نخب من أهل الحديث والفقه والفلسفة والعلوم المادية في إرساء هذه وجعلها لغة عامة للناس لا مجرد لغة النخبة. ما بدأ جهداً لدى النخب الثقافية لتطوير الحديث وفهم الكتاب المقدس، صار بفضل هذه النخب لغة التداول والتعامل والتفاهم بين الناس.
يتحدث كثيرون من المؤرخين المستشرقين والعرب والمسلمين عن تكوّن حوض ثقافي واحد في هذا المجال الإسلامي، قائم على التجارة والتبادل الاقتصادي. لكن التبادل الثقافي اللغوي، أو الذي أساسه لغوي، هو الذي لعب دوراً أساسياً في هذا التطوّر. إن انتشار اللغة العربية الفصحى كان عمل النخب الدينية والأدبية. لكن انتشار المحكيات كان بسبب تطوّر الوجود العربي الثقافي. كانت المدن بمثابة مراكز تبادل تجاري. وهذا يقود الى تفسير مادي. لكنها كانت أيضاً بجوامعها ومدارسها مراكز تبادل ثقافي مرتكز على اللغة العربية الفصحى. وهذا تفسير ثقافوي. التفسيران المادي والثقافوي يكملان بعضهما ولا يتعارضان. كانت النخب الثقافية شديدة الحركة والانتقال من مدينة عربية إسلامية الى أخرى، للأخذ من أساتذة مرموقين وأصحاب شهرة. والتلامذة بدورهم يصيرون أساتذة في غير المدن أو المناطق التي جاؤوا منها. نادراً ما استقر واحد من النخبة في البلد الذي ولد فيه.
في القرون الأولى كانت الثقافة العليا لغتها العربية، وكانت مقتصرة على نخب تتحلّق حول بلاطات الخلفاء والحكام المحليين والأمراء. وكانت هذه النخب لا تمارس إلا العمل الثقافي من فقه، وعلم، وشعر، وكتابة في الدواوين. وكان متوسط العمر للذين في عدادها لا يقل عن ستين عاماً. والأكثرية من الفلاحين، كان متوسط العمر لديهم بين الثلاثين والأربعين سنة. الاستغلال الطبقي كان على أشده. كان على الشعوب المغلوبة أن تعمل وحسب، وكانوا يُسمون العلوج. أما النخب الثقافية فكانت تعيش على الفوائض الاقتصادية من الأراضي المخصصة لهم. بالطبع انتشرت اللغات العربية المحكية في المناطق التي صارت بلداناً عربية. بقيت مناطق واسعة من الحوض الإسلامي الواسع تتكلّم لغاتها المحكية، وأحياناً تكتب بلغتها القومية، كالفارسية المعروفة ببهائها الذي لا يقل عن العربية. وصارت هذه اللغة المكتوبة بخط عربي في دواوين البلدان التي لن تصير عربية. لكن المراكز العربية الثقافية العليا بقيت في البلدان غير العربية بسبب الدين وغيره. بقيت لغتها عربية. لم يكن منتشراً في الحوض الإسلامي إلا الكتب بالعربية. من كان يبدأ بكتاب بغير العربية كان يعود إليها في كتبه اللاحقة.
ما تجدر الإشارة إليه هو اللغات أو اللهجات المحلية العربية هي ذات مفردات من الفصحى. لذلك يسهل التقارب فيما بينها، وبينها وبين الفصحى. يسهّل ذلك أن التخاطب بين المجتمعات العربية هو بلغة واحدة. لا خوف على اللغة العربية. هي تتوسّع بتوسعها وتضمر بضمورها. الفصحى والعاميات تعبير عن الوجود العربي، عن العروبة؛ وكل منهما يشكل وجهاً للوجود العربي.
الحروب العربية الراهنة، وهي حروب من نوع جديد، تخاض بين أطراف تنتمي الى الوجود العربي، لا بين أصحاب هذا الوجود وأقليات ذات انتماءات وهواجس غير عربية، حتى التي تدعو الى الاستقلال عن الدول العربية أو الانفصال عنها. لغة القرآن هي اللغة الدينية لكل المسلمين الناطقين وغير الناطقين بالعربية، سواء فصحى أو عامية. الوفود السياسية الإيرانية، مثلاً، عندما تمثّل بلدها في بلد عربي، تتكلّم بالفارسية، رغم أن أعضاءها يتحدثون الفصحى بطلاقة. فهذه يتعلمونها في مدارسهم كلغة ثانية، كما نتعلّم في لبنان الفرنسية والانجليزية كلغة ثانية.
عندما يتحدّث أصحاب القومية العربية عن التكامل العربي، وهم محقون، فإنهم يعنون الشأن الاقتصادي. ليس مفهوماً إغفالهم وحدوية اللغة. هي مادية مبتذلة لأنها تهمل الشأن الثقافي اللغوي. هم كمن يتحدثون عن الاقتصاد لا عن الاقتصاد السياسي. وكأن الاقتصاد مجرّد عن السياسة. وهو ما يسميه الماركسيون، أسوة بكارل ماركس، علم الاقتصاد المبتذل. الحديث عن التكامل الثقافي العربي مع تجاوز وحدة اللغة يشبه ذلك. المجتمعات العربية، ككل المجتمعات حول العالم، ليست وحدتها بالعادات والتقاليد، بل باللغة. العادات والتقاليد الاجتماعية مختلفة بين بلد عربي وآخر، وداخل كل بلد. التعددية هي الأمر الواقع، والوحدة الاجتماعية وهم، أو هي ما تحاول السلطة السياسية تكريسه وفرضه بالقسر والإكراه. والدين الواحد زاخر بعبادات فقهية متنوعة تتناسب مع متطلبات التعددية. الوحدة الثقافية هي وحدة اللغة وحسب. وهذا أمر أساسي في وجودنا العربي وفي انتمائنا العربي.
في مطلع الستينات أو نهاية الخمسينات، قام بعض أدباء وشعراء لبنان بالدعوة الى فصل اللغة “اللبنانية” عن العربية، وكتابتها بالحرف اللاتيني. جرت مناقشات عامة كثيرة حول الموضوع، وكان من خصوم الفكرة أدباء وأقتصاديون من ذات التيار السياسي. شعروا، بل عرفوا، أن هذا الفصل يؤدي الى الإضرار بالمصالح الاقتصادية اللبنانية. اللغة مسألة مادية، لا ثقافية وحسب.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق