بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا شيء أعظم مقاومةً في فلسطين المحتلة، وأدعى إلى النصر والتحرير، وأقرب إلى العودة والتمكين، وأكثر ألماً للعدو ووجعاً له، وأشد خوفاً على مصيره وقلقاً على وجوده، من ثبات الفلسطينيين في أرضهم، وتمسكهم بحقوقهم، وصمودهم أمام ممارسات العدو وسياساته، وإصرارهم على مواجهته، وتحديهم لجبروته، وإذلالهم لجيشه، وصبرهم على معاناتهم، ويقينهم بانتصارهم، وثقتهم بمقاومتهم، واطمئنانهم إلى حتمية انتصارهم وزوال الاحتلال ورحيله، وطي صفحته وتفكيكه.
الفلسطينيون الباقون في وطنهم بقاء جبالها وسهولها، وبحرها وسمائها، والمتجذرون في عمقها تجذر أشجار زيتونها، والمنتشرون فيها انتشار زعترها وعوسجها، والمتضوعون عطراً في أرجائها عبق ياسمينها وأريج زنبقها، سيبقون أبداً شوكةً في حلق الاحتلال حتى يرحل، وصخرةً في وجهه حتى يتفكك، وسداً منيعاً يفشل مشاريعهم، ويبدد أحلامهم، ويحبط آمالهم، وينهي وجودهم مهما كانت قوتهم وعظمت قدراتهم تفوقت أسلحتهم، وأياً كان حلفاؤهم ورعاتهم ومؤيدوهم ومناصروهم.
الفلسطينيون باقون في حيفا ويافا، وفي عكا والناصرة، وفي الخضيرة والعفولة، وفي اللد والرملة، وفي القدس والنقب، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي المثلث ووادي عارة، وفي كل مكانٍ في فلسطين سيبقون، وفي كل بقعةٍ من أرضها سيكونون، وفي جنباتها سينتشرون، ولن يوقف امتدادهم عدو، ولن يحول دون بقائهم في أرضهم عسفٌ أو ظلمٌ، ولن يقوى متطرفٌ صهيوني أو يمينيٌ إسرائيلي من طردهم وترحيلهم، وسيتبدد حلمهم في قطار الترحيل، وسيموت مشروع "الترانسفير"، وسيولد مكانه حق الفلسطينيين في أرضهم وحدهم، وحينها سيخلق مشروع الترحيل المضاد و"الترانسفير" المعاكس، الذي سيكون يهودي الوجه صهيوني الهوية.
تراقب الإدارة المدنية الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة أعداد المواليد الفلسطينيين، وترفع تقاريرها اليومية إلى حكومتها وسلطاتها الحاكمة، وتكشف لهم عن عمق قلقها وشديد استغرابها من المتوالية الهندسية في أعداد المواليد الفلسطينيين، ويزيد في قلقها عدد المواليد الذكور الذين يفوقون بصورةٍ لافتة أعداد المواليد الإناث، وتذكر تقاريرهم أن هذه الظاهرة تشير إلى ظاهرةٍ عامةٍ وليست خاصة، وأنها حالة دائمة ومتجددة وليست طارئة أو عابرة، وأن أعداد الفلسطينيين في "مناطق الصراع" ستتجاوز في السنوات القليلة القادمة أعداد "اليهود" عموماً في فلسطين المحتلة.
أما عين وزارة داخلية الاحتلال فهي مفتوحة كلياً على الفلسطينيين القابضين على الجمر في الأرض المحتلة عام 1948، فهؤلاء لا يقلون خطراً عن فلسطينيي العام 1967، بل إنهم أشد خطراً على كيانهم، وأعدادهم المتزايدة كماً ونوعاً تقلقهم أكثر، فهم يمثلون اليوم نسبةً تتجاوز ألــــــ 10% من سكان الكيان، ولهم ممثلون وطنيون عنهم في "الكنيست الإسرائيلي"، وقد يصل عدد نوابهم إلى أكثر من 13 نائباً، وهم كبقية شعبهم في فلسطين التاريخية، يتزوجون مبكراً، وينجبون أكثر، ويعتزون بعدد أولادهم وزيادة نسلهم، ويفتخرون بكثرة أنسبائهم وسواد عشائرهم.
الهوية الوطنية الفلسطينية اليوم في فلسطين كلها تتشكل بقوةٍ كما لم تكن في أي وقتٍ مضى، وتتعمق في الأرض كما لم تكن في تاريخها، وعياً وفهماً وعقيدةً وانتماءً، فهم يصبغون أرضهم ويلونون بلادهم، وينغرسون فيها عميقاً، وينتشرون فيها بعيداً، وسحناتهم تتقدم، وأزياؤهم الوطنية تسود، ولغتهم العربية تعلو، ودينهم الإسلامي والمسيحي يسمو، ولا يفت في عضدهم جرائم القتل اليومية التي يمارسها العدو ضدهم، ولا عمليات التصفية والإعدام، أو قرارات التوقيف والاعتقال، والطرد والإبعاد، ولسان حالهم يقول أن الشهيد يعوض بألف طفلٍ وطفلٍ، والأسير من خلف الجدران ومن زنازين العزل يهرب نطفه ويرسل بعضه، فينجب من سجنه أطفالاً يحملون رسالته، ويرثون هويته، ويثبتون حقه، ويقارعون العدو بقوةٍ وبسالةٍ أكثر منه.
ظن العدو أن ثقافة اللجوء عند الفلسطينيين باقية، وأن سياسة النزوح عندهم موجودة، وأنهم عند كل حربٍ أو معركة، أو خلال أي عدوانٍ أو اجتياح، يهربون من بلادهم، ويتخلون عن دورهم، وأنهم سيكررون من جديد تجربتي اللجوء والنزوح كما في حربي النكبة والنكسة، وما علموا أن الفلسطينيين قد شطبوا من حساباتهم وأخرجوا من دائرة تفكيرهم مثل هذه الأفكار.
فهم لن يكرروا أبداً تاريخهم، ولن يعيدوا أخطاءهم، وسيبقون في أرضهم ولو زلزلها العدو تحت أقدامهم بسلاحه، أو أحرقها ودمر بنيانها بصواريخه، ولعل العدو قد أيقن تماماً أنه لن يتمكن من طرد الفلسطينيين مجدداً من أرضهم، ولن ينعم بتحقيق حلمه القديم "أرضٌ أكثر وسكانٌ أقل"، فهذا الشعب سيبقى، وأرضهم ستعود، وشعبهم إليها سيعود، ودولتهم فيها ستعلن، وعلمهم في سمائها سيرفع، وأذانهم في أقصاها سيصدح، كما أجراس كنائسها فيها ستقرع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق