بقلم: تمارا حداد
استطاع الاحتلال خلال السنوات الماضية أن يقضي على القضية الفلسطينية من خلال السيطرة على الأرض وجعل المدن الفلسطينية ضمن كنتونات مُجزأة يصعب من خلالها تشكيل دولة أو دويلة أو حتى كيان فلسطيني مستقل وبات مفهوم "حل الدولتين" غير قائم كإحدى أهداف المشروع الصيهوني.
واستطاعت أميركا أن تجد حلاً بشكل غير مباشر لحل القضية الفلسطينية تُكسب به رضا اسرائيل وتُحقق أمنها من خلال إرساء التحالف الاسرائيلي العربي على حساب الحل السياسي للقضية الفلسطينية، الذي سمح للاحتلال التمادي نحو التمدد الاستيطاني في الضفة الغربية والسماح للمتطرفين بالتعدي على الأماكن المقدسة والاستمرار في الانتهاكات التي تجري على قدم وساق في سبيل تهويد الأرض وفرض سياسة الأمر الواقع.
إلى أن وصلت الحالة الفلسطينية بأن يتم استبدال الحقوق السياسية بحوافز مالية واقتصادية معظمها يأتي ضمن خانة الوعود والأوهام، ونجح الاحتلال باستبدال العداء العربيالاسرائيلي بعداء عربي مخفي نحو الفلسطينيين، وأغلق الملف الفلسطيني وأصبح كملف أمني داخل وحدة الجيش الاسرائيلي إلى أن يأتي اليوم وتنتهي القضية كمحطة أساسية في المخطط الأمريكيالاسرائيلي لإعادة ترسيم حدود دولة الاحتلال بما يؤمن له التوسع الدوري على حساب الفلسطينيين والاستمرار في رسم منطقة الشرق الاوسطية بما يتلاءم مع مصالح الاحتلال.
نجح الاحتلال في إنشاء مناخ سياسي إقليمي ملائم لعلاقات عربية_اسرائيلية استوعب فيه الجانب الفلسطيني يجبره على القبول بالمزايا الاقتصادية إن وجدت مع تجاهل أركان القضية وتناسي جوهر الصراع وهو الاحتلال، ونجح الاحتلال بإلهاء الجانب الفلسطيني عن الحديث بقضايا الوضع النهائي "القدس، المستوطنات، واللاجئين والمياه".
وتخلى القادة الاسرائيليون عن فكرة السلام السياسي بين الاحتلال والجانب الفلسطيني ولم يعد يتبنى ذلك بعد نجاحه في تقسيم الضفة الغربية وفصلها عن قطاع غزة فأصبح الصراع "الاسرائيلي_الفلسطيني" مُبسط من خلال إفراغ النضالات وتفكيك أي حالة تنظيمية تساهم في إيجاد سبيلاً نحو التحرر وتقرير المصير وحق العودة، فاستطاع اختزال النضال في مشاريع انتظار الراتب وبُنى تحتية لكيانات ناقصة مُجزأة عديمة السيادة مستباحة ليل نهار.
أمام هذا الواقع المرير وغياب الحالة الوطنية المُنظمة وغياب الأفق السياسي تجاه القضية الفلسطينية وغياب مشاهد اقتصادية تساهم في العيش الكريم للشباب من توافر فرص العمل مقارنة بعدد الخريجين من كل عام بدأت الحالات الفردية ومُعظمها من جيل الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية (20-25) عاماً بالانتفاضة الفردية غير المنظمة لتقاوم المحتل بدءاً من جنين ونابلس إلى وصولها باقي المدن في الضفة الغربية.
هؤلاء الشباب أرادوا التخلص من الوهم القائم على إمكانية خلق حقائق مزيفة من خلال مناورات سياسية على فترات من السنين الطويلة ساقت لأوهام تحقيق الدولة، وأمام موقف يحتفظ به الاحتلال عملياً بأغلبية مساحة الضفة الغربية وأمام إعلان القدس الموحدة عاصمة للاحتلال بعد نزع صفة الاحتلال عن شطرها الشرقي، ولم يتبقى للفلسطينيين سوى التجمعات السكانية وأما قطاع غزة فتحولت قضيته إلى قضية خدمات لمنع انهيار الوضع الانساني تحت رقابة اسرائيلية.
ومع دخول الاحتلال الأرض بشكل يومي بات يُشرعن تواجده مع إذابة الحقوق الفلسطينية المشروعة والمنصوص عليها في القرارات الدولية مقابل منافع فردية لتدجين الحالة الفلسطينية، لاستكمال بناء الدولة العبرية اليهودية أو ما تسمى "الصهيونية العالمية" أرض اسرائيل التوراتية "ايرتز اسرائيل" التي تمتد من البحر المتوسط إلى نهر الأردن بضم يهودا والسامرا "الضفة الغربية"، إضافة إلى الاستمرار قُدماً بتسريع التهجير الطوعي للقضاء تدريجياً على الكيان الفلسطيني والقدس الشرقية عبر التوسع الاستيطاني في الضفة وعمليات تهويد القدس، وهدفه المستقبلي دمج ما تبقى من الكيان الفلسطيني في المجتمع الاسرائيلي كحال أوضاع عرب 48 مع إعطائهم حقوق الإدارة المحلية.
ومع تحقيق هدف الاحتلال ورفض أي سيادة على المنطقة الممتدة بين البحر المتوسط ونهر الاردن أين الوجود الفلسطيني لمنع تمرير المشاريع التي تمس بالحقوق الفلسطينية الثابتة والتصدي لما هو قادم، ومن يوهم ذاته أن الدولة في غزة فهذا غير منطقي فقطاع غزة بمساحته الحالية غير قادر على بناء اقتصاد مستقر فلا يتواجد حتى الحد الأدنى من الأراضي لبناء دولة، ولا شك أن سكان القطاع بمساحته الحالية لن يتمكنوا قريباً العيش بوضع طبيعي على قطعة أرض محدودة ويستحيل بناء ميناء بحري بحجم معقول بسبب محدودية المساحة وقُرب الميناء لاسرائيل، ومن يُقارن بين غزة وسنغافورة سيُخطئ التقدير كون اقتصاد سنغافورة قائم على التجارة الدولية والتعاملات المصرفية المتقدمة وصناعات "الهاي تكنولوجي" ودول العالم الغربي مع تطوير الاستثمار في سنغافورة، أما قطاع غزة فهو محاصر يتبع اقتصاد الاحتلال ويقوم على الزراعة والتكنولوجيا البسيطة فدون توسع لمساحة غزة يصعب الحياة فيها مستقبلاً.
فحديث الرئيس الامريكي بايدن ولابيد وغيرهم عن حل الدولتين هم لا يقصدون حدود الرابع من حزيران 1967 بل دولة في موقع جغرافي آخر لا يتعدى مساحته 17% وثلث مدينة القدس وبالتحديد ضواحي القدس كأبو ديس والعيزرية وغيرها مع احتمالية تبادل الأراضي لتوسعة قطاع غزة قبل الانفجار السكاني لتكون هي المركز الإداري المستقبلي إذا تمت التوسعة.
وعملية التوسع حسب المشروع الاسرائيلي والمقترح منحها 74 كم اضافية نحو المتوسط واضافة 770 كم أخرى لبناء المدن الأكثر تُوسعاً هذا سيكون له مقابل وأهمها سحب سلاح المقاومة من قطاع غزة فهي المؤرق الأول للاحتلال في الجنوب.
ما يحدث للقضية الفلسطينية خطير جداً نتيجة الانقسامات الفلسطينية فالتنظيمات تعلم تماماً بواقعها الحالي الضعيف لن تستطيع إنقاذ الموقف، لذا عليهم استثمار دور الجزائر في بداية اكتوبر الحالي لدرء حالة الانقسام والموافقة على المصالحة وأن يتنازل الطرفين لمصلحة القضية الفلسطينية وإيجاد حلاً واقعياً لإعادة اللُحمة الفلسطينية وإنقاذ الوضع الراهن واعادة الحالة الديمقراطية التي تُعيد ثقة الشارع الفلسطيني بالسلطة عبر انتخابات شاملة تشمل القدس وهناك حلول عديدة لإدخال القدس دون التذرُع بها لعدم إرساء الانتخابات.
لا بد من عدم الاستهانة بقدرات الشعب الفلسطيني فيوماً سينتفض جماهيرياً وليس فردياً حيث بلغ الاستهتار والتردي الفصائلي مداً مزعجاً تقزمت به الحالة الوطنية وغابت الرؤية لتقليص "الانقسام الفلسطيني_ الفلسطيني"، الذي زرع مفاهيم فكرية شوهت الحالة الوطنية.
بات ملف المصالحة الفلسطينية موضوعاً يؤرق كافة الاطراف الفلسطينية والدول المنوطة بحل هذا الملف وبالتحديد مصر كونها المسؤولة عن هذا الملف وهاهي الجزائر تسعى لتحريكه مرة أخرى، وملف المصالحة جعل الشعب الفلسطيني يعيش حالة من الاحباط وبالتحديد في قطاع غزة لما يعانيه من فقر وبطالة وانتشار حالة من الرعب في القطاع مما هو قادم، واسرائيل تريد ابقاء الوضع كما هو من اجل اضاعة الوقت لاعادة ترسيم حدودها وضم الضفة الغربية ومع استمرار تعاملها مع القطاع كإدارة ملف وليس حلاً لتسوية الحالة السياسية للقطاع.
ان بناء المصالحة ضمن مفهوم الشراكة السياسية الحقيقية ورؤية وطنية فعلية ضمن برنامج وطني موحد يشمل الكل الفلسطيني لانقاذ الموقف الفلسطيني وبناء منظمة التحرير يشمل الكل الفلسطيني التي أصبحت هيكلاً لا مضمون لها ولا تحمل أي برنامج لحل ما يحدث في الضفة الغربية، والمصالحة هي مقدمة لتشكيل "تحالف سياسي تشاركي" لاستعادة الحوار الوطني الشامل والانتخابات أولى تلك الخطوات لتأسيس حُسن النوايا نحو الوحدة الوطنية قبل "ترسيم الأرض" وليس ضمها لصالح الاحتلال، وإعادة تقييم علاقة السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي كعلاقة محتل لأرض مغتصبة وليس علاقة تعاون ضمن إطار التنسيق الأمني، ومن هنا فالضغط الشعبي في الضفة والقطاع نحو الانقاذ ضرورة ملحة في هذه المرحلة وإلا أصبحت الحقوق الوطنية في مهب الريح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق