أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»،
سيف القدس، ما صنعه الحداد، ليقول القول الفصل في مشهدين متناقضين متصارعين، في محاولة لقراءة سطور كتاب «بين مشهدين» هو الإصدار الثاني والأربعون من «سلسلة الطريق إلى الاستقلال» التي يصدرها المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات "ملف" ، يسلط الكتاب الضوء في المشهد الأول على فترة قصيرة زمنياً عميقة سياسياً ونضالياً ، حسابها من عمر الشهور ما يقل عن 17 شهراً تمتد من معركة سيف القدس إلى الآن ، ومازال سيف القدس حاضراً بقوة في المشهدين معاً ( المشهد الفلسطيني في الفصل الأول ، والمشهد الإسرائيلي في القصل الثاني ) ، متجاوزاً جدار الفصل العنصري ومتجاوزاً الأسوار .
في المشهد الثاني المشهد الإسرائيلي، حارس الأسوار يخشى معركة الميدان فيحجم عن النزال في البر، ويطلب وقف إطلاق النار، بعد هذا بشهر وبضعة أيام، وبتنصيب الحكومة الإسرائيلية السادسة والثلاثين برئاسة يائير لبيد في 13/6/2021، تنتهي المرحلة التي يغطيها الكتاب من المشهد الإسرائيلي، محدداً بداية لمشهدهم في 1948 عام النكبة.
وفي مشهدين متناقضين متصارعين حتى كسر العظم لا بد من أبطال يظهرون على المسرح النضالي الوطني، فكان الفصل الثالث «في حضرة الشهادة» عن ثلاثة قادة عظام تركوا بصماتهم على المسار الوطني (ياسر عرفات القائد الذي آمن أن انتصار الحق الفلسطيني لا يكون إلا باستنفار عناصر القوة الذاتية، قاسم سليماني رمز من رموز حركة التحرر الوطني دافع عن الحقوق المشروعة للشعوب المظلومة، أمل الريماوي الرائدة في صفوف الحركة النسائية الفلسطينية).
ستبقى معركة سيف القدس حتى وقت تفرض نفسها على مسرح الأحداث ، بمشهديه الفلسطيني والإسرائيلي ، كفصل نوعي حاسم في معركة شاملة التحم فيها الكل لفلسطيني على محاور الاشتباك، تكاملت أشكال النضال الوطني حيث تضافرت الجهود بين ميادين النضال لتؤكد معركة سيف القدس وحدة الشعب الفلسطيني في كل مناطق تواجده، ووحدة حقوقه، ووحدة برنامجه، ووحدة قضيته، ووحدة مشروعه الوطني مهما تمايزت أهدافه الوطنية في هذه المنطقة أو تلك من أماكن تواجده، المساواة في المواطنة في ال48، وطرد الاحتلال من أراضي عام 1967، وحق العودة في الشتات .
إن تمايز الأهداف هذه لا يلغي تكاملها، فكلها تلتقي في حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، إن أي تقدم على محور من محاور الأهداف الجزئية لكن الهامة، ينعكس إيجاباً على المحورين الآخرين.
لقد اشترك الشعب الفلسطيني بكل فئاته وفي مختلف مناطق تواجده في العملية النضالية، وأثبت شعبنا في الأراضي المحتلة عام 1948 مرة أخرى قدرته على الفعل السياسي والانخراط في العملية الوطنية الكفاحية، ومازالت تداعيات ثورة الغضب متواصلة حتى يومنا هذا، تعمل سلطات الاحتلال للحد من تداعياتها على ملاحقة نشطاء الداخل الفلسطيني.
وأثبت الشتات الفلسطيني أنه جسم فاعل ومؤثر في معادلة الصراع، عمل على استنهاض قوى سياسية وتيارات شعبية ومنظمات حقوقية وفعاليات مجتمعية واستقطاب قوى محايدة لتأييد عدالة القضية الفلسطينية.
كان التناغم النضالي بارزاً بين الضفة والقطاع، المقاومة الشعبية شكلت حاضناً وغطاء سياسياً ووطنياً للمقاومة المسلحة، والمقاومة المسلحة شكلت درعاً للمقاومة الشعبية، لقد أعاد الشعب الفلسطيني تأكيد نفسه شعباً واحداً موحداً.
ونجحت معركة سيف القدس في إسقاط نظرية الردع الإسرائيلية، وإسقاط سياسة الأرض المحروقة في محاولة لكسر إرادة وعزيمة الشعب الفلسطيني، بل لقد أصبح الردع الفلسطيني جزءاً مؤثراً من المشهد، فتجنب جيش الاحتلال المعركة البرية داخل القطاع، واستطاعت المقاومة نقل المعركة إلى قلب مدن العدو.
ومع كل ما أنجزته معركة سيف القدس من إيجابيات ، فقد برز مدى تأثير الانقسام على منجزاتها، واستيعاب دروسها الغنية ومدى تأثير ارتباك السلطة الفلسطينية وتخبطها السياسي وترددها في اتخاذ موقف حاسم، على ما يمكن أن تحققه من نتائج، ومازالت الحالة هذه على وضعها بعد معركة سيف القدس، حيث واصلت الحركة الشعبية معركتها ضد الاحتلال بعد وقف إطلاق النار في غزة ، لا تقيدها مشاريع ولا معادلات إقليمية أو دولية، ومازال قائماً غياب القيادة الوطنية الموحدة التي تقود نضال الشعب الفلسطيني، نضال يفتقد أيضاً برنامجاً ثورياً واقعياً مشتركاً، ومازال هناك جدل على البرنامج المرحلي.
استغلت إسرائيل سلبيات ما بعد معركة سيف القدس، فأعادت طرح مشاريع السلام الاقتصادي بديلاً عن التقدم نحو الحل السياسي ، وتغولت في مشاريع التهويد في القدس وباقي أنحاء الضفة المحتلة، مؤكدة على الاستيطان وتكثيفه، واستمرت اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، وتصاعد إجرام قوات الاحتلال والعصابات الصهيونية، وتصاعدت حملات الاجتياح للمدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، ونشطت حملات الاعتقالات والاغتيالات في الضفة، وفي غزة تواصل سلطات الاحتلال حصارها للقطاع، وتعطل ورشة إعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية.
في تحليل المشهد الفلسطيني ما بعد معركة سيف القدس، أن المعركة لم تكن نقطة انطلاق للتقارب بين فتح وحماس لاستعادة الوحدة الوطنية بل كانت نقطة انطلاق نحو تعميق الانقسام، إذ حل الانقسام بديلاً من التقارب والتفاهم الضروريان لقطف ثمار الانتصار في معركة سيف القدس، وباتت الأجواء السياسية مشحونة بالتوترات والاحتراب الإعلامي، مما أعطى صورة عن الخلاف المستحكم بين فتح وحماس أنه يبدد الانتصارات، لكن ما حققته معركة سيف القدس أكثر رسوخاً من أن يبدد، فوحدة الشعب أقوى من الانقسام الفئوي.
فلسطينياً أبرز ما يجب فعله الآن هو إنهاء الانقسام، عبر حوار فعال لبناء أطر وإقرار آليات عمل وتوجهات تصون الوحدة الشعبية التي تحققت، وتصون ما تحقق من تطور في الحركة الشعبية، حوار وطني شامل يضم جميع القوى والفصائل، وكفاءات وطنية مستقلة ووازنة يتفق عليها، ويشرك عموم جماهير الشعب في الحوار الوطني، نقطة الانطلاق في الحوار الوطني ضرورة إجراء انتخابات عامة، ونجد أن الكل الفلسطيني مجمع على ضرورة ترتيب البيت الفلسطيني، الذي يقوم على الصلة الوثيقة بين انهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني بشكل شامل، يشمل إعادة بناء المؤسسات الوطنية الحاملة للنظام السياسي الفلسطيني في المنظمة والسلطة معاً، لكن تأجيل الانتخابات أطاح بالجهود المبذولة لإعادة بناء النظام السياسي على قاعدة ديمقراطية تعددية وحدوية جامعة .
اقترحت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين فترة انتقالية لإرساء أسس إعادة البناء الشاملة عبر الانتخابات بالتوافق على خطة وطنية متكاملة بخطوات مجدولة زمنياً، وبسقف لا يتجاوز نهاية العام 2022، وذلك من خلال مسارين:
أ- مسار التمثيل الشامل والشراكة الوطنية في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وفق خطوات باتت معروفة.
ب- مسار إنهاء الانقسام في مؤسسات السلطة الفلسطينية، بتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كفاءات من مختلف القوى السياسية الفاعلة الراغبة في ذلك إلى جانب شخصيات مستقلة.
بينما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تدعو إلى تفعيل صيغة الأمناء العامين 3/9/2020 باعتبارها إطاراً قيادياً مؤقتاً ومرجعية سياسية لشعبنا تنهي حالة التفرد وتتجسد فيها الشراكة الوطنية في التقرير بالشأن العام وفي إدارة الصراع مع الاحتلال، وتشكيل مجلس وطني انتقالي بالتوافق لمدة عام لحين انتخاب مجلس وطني جديد تشارك فيه جميع القوى وفق مبدأ التمثيل النسبي الكامل.
وتتفق مع هذا الطرح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، بضرورة العودة إلى عقد اجتماع الأمناء العامين للتأكيد على تنفيذ قراراته خصوصاً ما يتعلق بتشكيل القيادة الموحدة للمقاومة، وترى أن تكريس م.ت.ف. مرجعية فلسطينية تتطلب تحرير إرادتها من تغول السلطة ، ونقل دوائرها ولجانها إلى خارج الوطن المحتل حتى لا تبقى رهينة للاحتلال.
كذلك ترى حركة حماس ضرورة دعوة قادة الفصائل الوطنية للاجتماع في القاهرة بصفتهم الإطار القيادي المؤقت لحين استكمال بناء مؤسسات الشعب الفلسطيني الوطنية، على أن يبدأ الحوار مما انتهى إليه في الجولة الأخيرة لإكمال المشوار في الانتخابات المتفق عليها في مراحلها الثلاث التشريعي والوطني والرئاسي وفي القدس أولاً.
في استعراض المشهد الفلسطيني نجد (فصائل مقاومة، انقسام، منظمة تحرير، سلطة حكم ذاتي، حكومتين، لاجئين وحق العودة، مجلس تشريعي معطل، مجلس وطني منحل، لا انتخابات، انتخابات مؤجلة، شعب موحد نضالياً يعيش في مناطق متباعدة جغرافياً).
وفي استعراض المشهد الإسرائيلي نجد (جيش وأجهزة بوليسية مدججة بالسلاح والعنصرية، مستوطنين مستوطنات استيطان استوطنهم التطرف، حزبين رئيسيين وصراعات مصلحية وأحزاب وسط كفقاقيع الصابون ، خلافات في السياسة واتفاق على العدوان، حكومة مؤقتة، حكومة ائتلافية، حكومة «وحدة وطنية»، كنيست، انتخابات، انتخابات مبكرة، شعب مصطنع يعيش على أرض مغتصبة).
في المشهد الإسرائيلي ضجيج حراك حزبي يعكس عمق التناقضات في المجتمع الإسرائيلي، حيث تصنف أدبياتهم خريطة الأحزاب الصهيونية ضمن مجموعات أساسية (يسار، يمين، وسط، متدين)، هذا التصنيف يكتسب تعقيداً بتحرك الخريطة الحزبية بأسرها بالانزياح، بحيث بات اليسار في الوسط، وأحزاب الوسط في اليمين، وقوى اليمين وأحزابه باتجاه العنصرية والتطهير العرقي، والأحزاب الدينية باتجاه التطرف، والتطرف باتجاه الأكثر تطرفاً، ثم هذا الأخير إلى أين ؟.
حراك حزبي آخر بالانشقاق والانتقال الشخصي المصلحي بين الأحزاب، وتشكيل أحزاب جديدة تظهر وتتلاشى، يرتبط ظهورها بالانتخابات، وبالانتخابات المبكرة التي تعقب أزمة داخلية أو عقب مواجهة فاشلة الأهداف مع الفلسطينيين، وعند جدية الحلول السياسية المطروحة للتهرب من استحقاقاتها، فرص تنتهزها شخصيات وازنة سياسياً ووازنة عسكرياً من ضباط متقاعدين لهم تاريخ إجرامي بحق الفلسطينيين، في خريطة تحالفات تحتاج كل حين لإعادة رسم صورتها، وأكثر الأحزاب إشكالية أحزاب الوسط، التي بدأت بالظهور في انتخابات الكنيست عام 1975، ومن أهم عوامل نشوئها:
- نمو الطبقة الوسطى واتساعها وفعالية دورها الاقتصادي والاجتماعي، وتعمق الفوارق الاجتماعية ما بين شرائح وفئات المجتمع الإسرائيلي.
- التوجس من سياسة حزب الليكود الاقتصادية الاجتماعية التي تقفز عن مصالح الطبقة الوسطى وتردي الحالة المعيشية وسقوط مقولة دولة الرفاه.
- عدد من الأحزاب قدم نفسه في خانة الوسط من موقع إعلانه التموضع في المكان الوسط بين سياستين خاطئتين لليكود والعمل، فولدت هذه الأحزاب من صفوفهما ثم تلاشى كثير منها بالعودة إلى الحزبين الكبيرين.
- انسداد الأفق السياسي بشأن تسوية الصراع في المنطقة، وانتهاز الفرص الناجمة عن الحالة السياسية لتحقيق مكاسب سلطوية أو انتخابية.
كمثال على ما تقدم، إنشاء 3 أحزاب تدعي الوسطية يتصدر شعار إسقاط نتنياهو يافطتها، حزب غيشر ( الجسر) أسسته أورلي ليفي بعد أن استقالت من حزب إسرائيل بيتنا لعدم حصولها على منصب وزاري، حزب مناعة إسرائيل الذي أسسه الجنرال احتياط بيني غانتس رئيس الأركان السابق الذي حمّله نتنياهو المسؤولية في فشل العدوان على غزة عام 2014، ويجد الآن الفرصة مواتية للانتقام.
حزب تيلم الذي أسسه موشيه يعالون، وزير الدفاع الأسبق، اتهمه أيضاً نتنياهو بالتقصير خلال العدوان على غزة 2014 استقال من الليكود، وأعلن عن تأسيس حزبه تحت شعار (استعادة المسارات الإسرائيلية إلى الطريق الصحيح).
دارت مفاوضات بين غانتس ويعالون لخوض الانتخابات في قائمة واحدة، ثم اتسعت المفاوضات لتشمل حزب (يوجد مستقبل)، توّجت باتفاق الأحزاب الثلاثة على تشكيل حزب واحد تم تسميته (أزرق – أبيض) «كاحول – لافان» بالاتفاق على مبدأ التبادل في رئاسة الحكومة، وحمّلوا بدورهم نتنياهو مسؤولية الفشل في العدوان على غزة 2014، ورفعوا راية إسقاطه.
في برنامج هذا الحزب بما يخص التسوية السياسية، أنه لن يكون هناك انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب مرة أخرى من مناطق فلسطينية محتلة، ولم يرد في البرنامج ذكر لحل الدولتين ولا تعبير دولة فلسطينية، ووفقاً للبرنامج سيعمل الحزب على تعزيز الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، والحفاظ على القدس الموحدة كعاصمة لإسرائيل.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد انهيار «أزرق أبيض» الائتلافي : هل ستنتهي أحزاب الوسط الحالية ؟. وتبدأ مسيرة الاضمحلال والتلاشي كما حصل مع جميع الأحزاب الوسط التي سبقتها، أم أن بقاء نتنياهو في موقعه محركاً وباعثاً لنشاط خصومه من أجل إسقاطه؟.
نزعة إقصاء المنافسين والخصوم حكمت المشهد الإسرائيلي منذ تشكيل أول حكومة إسرائيلية في 10/3/ 1949بعد النكبة الفلسطينية وإعلان قيام «الدولة»، تعمد بن غوريون أن يبعد الليكود عن الحكم، مستفيداً من الانتصارات التي تحققت في حربي 1948 و1967، ترأس حزب العمل جميع الحكومات الإسرائيلية حتى انتخابات الكنيست 1977.
تشكلت حكومة تكتل وطني ضمت الليكود، لمواجهة حرب الاستنزاف التي شنتها مصر 1969-1970، حرب أوجعت إسرائيل، وأوجدت نوعاً من التعايش بين الخصوم، ولإنقاذ إسرائيل من الاستنزاف طرح روجرز وزير الخارجية الأمريكي مبادرة عرفت بمشروع روجرز، قبلتها مصر، ورفضتها إسرائيل ثم عادت لتوافق عليها، اعتبر مناحيم بيغن المشروع كارثة وانسحب من الائتلاف الحكومي، وفرط عقد أول حكومة «وحدة وطنية».
مرة أخرى تشكلت حكومة «وحدة وطنية» عرفت بحكومة الرأسين في 13/9/ 1984 تحت وقع أزمة اقتصادية حادة بسبب تكاليف الاستيطان وتكاليف غزو لبنان، وجاء في برنامجها استعداد إسرائيل للانسحاب من لبنان مقابل ترتيبات أمنية، في حين أكد برنامجها على استمرار الاستيطان وتطويره.
منذ تشكيلها رجح المحللون سقوط حكومة الرأسين في أول استحقاق سياسي، فرغم اتفاق الحزبين الكبيرين على موضوع السلام وفق ما جاء في اتفاق كامب ديفيد مع مصر الذي نص على حكم ذاتي للفلسطينيين، إنما أي تحرك دولي لتسوية سياسية سيضع الطرفين على المحك ، خالف استمرارها توقعات المحللين، وكان عامل إنقاذها يتمثل في أن التحركات السياسية الدولية تغلب الخيار الأردني مقابل تهميش م. ت. ف. بعد خروجها من بيروت، يضاف إلى ذلك مبادرة الرئيس الأمريكي ريغان، والتي تنص على حكم ذاتي فلسطيني في الضفة دون القدس والقطاع بالارتباط مع الأردن، وترفض المبادرة فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة في إطار الحل النهائي.
لم تخلق المبادرة خلافات عميقة بين الحزبين الكبيرين، إنما أدت من بين عوامل أخرى إلى انتفاضة شعبية عارمة ازدادت زخماً بإعلان الاستقلال في الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني، وتوالى اعتراف دول العالم بدولة فلسطين، واتفق الحزبان على حملات القمع المسعورة التي قادها اسحق رابين من العمل واسحاق شامير من الليكود.
وأعيد في 14/5/1989 تشكيل «حكومة وحدة» بين العمل والليكود لمواجهة تداعيات الانتفاضة الفلسطينية في ظل تفاعل عالمي، من بينها قرار واشنطن فتح حوار مع م. ت. ف. ، وأمام هذا، هدف برنامج الحكومة الإسرائيلية إلى احتواء الانتفاضة وصولاً لإخمادها بالدمج بين القبضة الحديدية والمبادرات السياسية، صادقت الحكومة الإسرائيلية على خطة السلام التي عرفت بـ مبادرة شامير – رابين، و تنص في الناحية الفلسطينية على حل مشكلة سكان مخيمات اللاجئين العرب في «يهودا والسامرة» وقطاع غزة بتحسين أوضاعهم المعيشية وإعادة تأهيلهم، إجراء انتخابات في الضفة والقطاع لانتخاب هيئة تمثيلية فلسطينية تتمكن إسرائيل من التفاوض معها. هدفت الخطة إلى إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة، وفرض الحكم الذاتي على الفلسطينيين، وإعادة التأكيد على اللاءات الإسرائيلية المعروفة: لا لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، لا لقيام دولة فلسطينية، لا للتفاوض مع م.ت.ف.
في 18 /3 / 1990 سقطت حكومة «الوحدة الوطنية» بعدما اتسع الخلاف بين الليكود والعمل حول اقتراح وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر بشأن آليات الحوار بين إسرائيل وممثلين فلسطينيين من الضفة وغزة، وفي يوم 4/11/1995اغتيل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بسبب مسار المفاوضات واتفاقيات اوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، بالرغم أنه هو من أصدر أوامر تكسير عظام الفلسطينيين في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، تلاه حكومة برئاسة شمعون بيرس، ثم بنيامين نتنياهو كرئيس للحكومة الـ 27 في 18/6/1996 ، وجاءت الحكومة الـ 28 برئاسة إيهود براك في العام 1999 الذي فشل مع الرئيس بيل كلينتون في الوصول مع ياسر عرفات إلى اتفاق في كامب ديفيد الثانية ، فاندلعت الانتفاضة الثانية في 28 سبتمبر/ أيلول 2000، بعد شهرين من فشل قمة «كلينتون باراك عرفات»، وانسداد أفق الحل السياسي، واستمرار الاستيطان والإجراءات التعسفية ضد السكان الفلسطينيين، وكان سببها المباشر، اقتحام شارون باحات المسجد الأقصى.
فشل يهودا باراك في إخماد الانتفاضة، مما أدى إلى فشله في الانتخابات 2001على منصب رئيس الحكومة ، وحقق شارون انتصاراً كبيراً على باراك تحت شعار « دعوا الجيش ينتصر»، وأصبح شارون رئيساً للوزراء في ظل كنيست منتخب منذ العام 1999، لحزب العمال فيه 26 مقعداً، بينما لحزب الليكود الذي يتزعمه شارون 19 مقعداً ، ففضل أن يشكل حكومة وحدة مع العمل تتوزع فيها المسؤوليات عن أي إخفاقات تنتظر الحكومة في سياق المواجهات الدامية على الأرض، كمرحلة تحضيرية يستكمل شارون خلالها استعداده للانتخابات القادمة عام 2003.
طرحت حكومة شارون برنامجها السياسي تحت عنوان «الأمن والسلام والاستيطان»، وأطلقت يد الجيش والمستوطنين في قمع الانتفاضة، ورغم وحشية الحملة العسكرية الإسرائيلية تصاعدت الانتفاضة، وفشل شارون في إخمادها، مما أدى إلى زيادة الانتقادات ضد شارون، وتفاقمت الخلافات بين العمل والليكود وأدت إلى سقوط حكومة شارون في 12/11/ 2002.
شهدت فترة ولاية الكنيست 2003-2006 نشوء حزب كاديما ، على يد رئيس الليكود أريئيل شارون ، لمعارضة نتنياهو وأنصاره خطة « فك الارتباط » التي تتجاوز الحل الثنائي الوارد في خارطة الطريق باتجاه تنفيذ خطوات إسرائيلية أحادية الجانب تتمثل في إخلاء عدد من المستوطنات في الضفة وانسحاب قوات الاحتلال من داخل قطاع غزة وإخلاء جميع المستوطنات في القطاع. تواصل نشاط نتنياهو وأنصاره ضد « فك الارتباط » باعتبار مبدأ الانسحاب يتناقض مع جوهر برنامج الليكود، فقدر شارون أنه سيكون في معركة انتخابية صعبة داخل حزبه على رئاسة الحزب ، فقرر إنشاء حزب جديد لخوض انتخابات عام 2006 ، قدم حزب كاديما نفسه كحزب وسط ، ونص برنامجه على : دولة فلسطينية يشترط أن يكون قيامها الحل النهائي لكل الفلسطينيين بحيث لا يسمح بدخول اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل، العيش بسلام و أمن وحسن جوار والتجرد من الإرهاب بشكل كامل ولا تستخدم الدولة الفلسطينية المستقبلية كقاعدة لهجوم ضد إسرائيل ، ترسيم الحدود من خلال محادثات، على أن تضم إسرائيل المناطق الضرورية لأمنها، والكتل الاستيطانية والأماكن المقدسة اليهودية ذات الأهمية الوطنية وعلى رأسها القدس الموحدة كعاصمة أبدية لإسرائيل.
حزب كاديما لم يستمر طويلاً بعد جلطة شارون الدماغية، خلفه يهود أولمرت الذي شهدت حكومته فشلاً في عدوانها على لبنان، وفشلت مباحثات السلام مع الفلسطينيين في أنابوليس، ثم فضيحة فساد أولمرت، أدت إلى استقالته، وجاءت على رئاسة الحزب تسيبي ليفني التي فشلت بتشكيل الحكومة، فتم حل الكنيست وتم تحديد موعد لانتخابات مبكرة، كلف بعدها نتنياهو بتشكيل الحكومة، وبينما كانت ليفني تعارض مشاركة حزبها في الحكم اختلفت مع شاؤول موفاز في ذلك، وتمكن موفاز من الفوز برئاسة كاديما، و ليفني استقالت من الكنيست ومن كاديما وشكلت حزباً جديداً ، شارك موفاز الحكم مع نتنياهو ، ثم عاد وانسحب من الحكومة ، وأدت أخطاؤه وتردده إلى فرط عقد حزب كاديما.
لقد باتت أحزاب الوسط تلعب دوراً بارزاً في صناعة الحكومات ، والتقريب بين أطراف من الحركة الصهيونية كان يصعب الجمع بينها في حكومة ائتلافية أو حكومة «وحدة وطنية»، بل لقد استطاع يئير لبيد ولأول مرة أن يضم إلى الائتلاف الحكومي برئاسته حزباً عربياً " القائمة العربية الموحدة "، وهي سابقة في العمل السياسي العربي أثارت جدلاً واستنكاراً في الأوساط السياسية والشعبية العربية في إسرائيل، و"القائمة العربية الموحدة" هي "الجناح الشمالي للحركة الإسلامية" خاضت الانتخابات بمفردها وحصلت على 4 مقاعد في الكنيست ،بينما اشتركت بقية الأحزاب العربية في قائمة موحدة.
لقد أوغلت «الحركة الاسلامية / الشق الجنوبي» في التفاعل مع المؤسسة الصهيونية بذريعة تحصيل المزيد من المطالب العربية المحقة، ووصل معها الأمر إلى الدخول في حكومة مدججة بأحزاب اليمين الصهيوني، وإبداء التفهم لاعتباراتهم في تكريس يهودية الدولة، وهذا تجاوز عن المسألة القومية بذريعة الحالة المعيشية.
تجربة حزبية من الجانب الآخر معاكسة تماماً لـِ" القائمة العربية الموحدة "، تقفز فوق القضايا والهموم اليومية للمجتمع العربي في إسرائيل، وتعتبر الانشغال في مهمة تلبيتها تساوق مع المحتل ويضر بالنضال الوطني، في الوقت الذي يرى فيه فلسطينيو 48 أن تأمين متطلباتهم يعزز صمودهم ودورهم في الحفاظ على الهوية الوطنية، معادلة الثنائية ( القومي – المعيشي ) يجب مراعاتها، وشروط حياة الناس واحتياجاتهم يجب أن تلبى وتستمر تحت أي ظرف ولو كانت ظروفاً يفرضها احتلال غاشم، القانون الدولي الإنساني وفر الحماية للواقعين تحت الاحتلال، ولا يجوز للأشخاص المحميين أنفسهم التنازل عن حقوقهم في أي ظرف من الظروف، وحددت (لائحة لاهاي، واتفاقية جنيف الرابعة) واجبات سلطة الاحتلال نحو سكان الأرض المحتلة .
لقد أثبت فلسطينيو العام 48 أنهم جزء أساسي وأصيل من الشعب الفلسطيني، والأحزاب العربية في إسرائيل عملت على الدفاع عن الحقوق العربية في مواجهة التمييز و التهميش والإقصاء، والتصدي للسياسات الرسمية الإسرائيلية تجاه العرب ووقف مصادرة أراضيهم وأملاكهم ، وفشلت كل محاولات فصلهم عن شعبهم الفلسطيني، كما فشلت كل محاولات أسرلتهم وعزلهم عن تطلعاتهم القومية، وقطع روابطهم بإطارهم العربي، وقد ظن بعض العرب أن حمل بطاقة الهوية الإسرائيلية هي الأسرلة بحد ذاتها ، لكن لا بطاقة الهوية ولا جواز السفر ألغيا تمسك فلسطينيي ال48 بهويتهم القومية وبانتمائهم لفلسطين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق