لم تتوقف المواقف الإسرائيلية تتوالى طُرَّاً تجاه عملية القدس المزدوجة، التي صدمت المنظومة الأمنية وأربكت القوى السياسية الحاكمة، وأخرجت تلك التي تنتظر الحكم عن طورها، فقد انهالت التصريحات السياسية والأمنية والعسكرية، وبرزت مواقف إعلامية وشعبية عبر عنها المستوطنون وقادتهم، بعضها يهدد ويتوعد، ويطالب الحكومة الجديدة باستخدام المزيد من القوة والضرب بيدٍ من حديدٍ، واعتماد وسائل جديدة في التصدي للفلسطينيين ومواجهتهم، وتغيير القواعد المتبعة في الإجراءات الأمنية وضوابط إطلاق النار على المشتبه فيهم.
وبعضها لم يستطيع أن يخفي خوفه وقلقه من احتمالية العودة إلى سنوات التسعينيات من القرن الماضي وبدايات الألفية الثالثة، عندما اجتاحت المقاومة الفلسطينية أرضها المحتلة، وهاجمت المستوطنين الإسرائيليين في كل مكانٍ، وفجرت الحافلات والسيارات، ومحطات الركاب وتجمعات الجنود، ولاحقت جموعهم في الشوارع والطرقات، وفي المقاهي والحانات، وجعلت حياتهم مستحيلة وهروبهم من فلسطين حلماً وأملاً في النجاة، وعجز الجيش والأجهزة الأمنية عن وضع حدٍ للعمليات الاستشهادية وحماية مستوطنيهم من القتل، الذي بات رعباً يرافقهم وفزعاً على مدى الأيام يسكنهم.
لكن الذين صعقتهم عمليةُ القدس وصدمتهم، هم قادة الأجهزة الأمنية ومعهم الجيش وقادة أركانه، الذين كانوا يترقبون ضربات المقاومة في شمال الضفة الغربية، حيث الأوضاع الساخنة في نابلس وسلفيت وكذلك في جنين، حيث تهيأ الجيش لمواجهتها، واستعدت الأجهزة الأمنية لإحباط عملياتها، وكثفوا جهودهم وركزوا عملياتهم فيها، ورفعوا درجة النفير والاستعداد إلى الدرجات القصوى، بعد عمليات عدي التميمي ومحمد صوف وما سبقها من عملياتٍ في تل أبيب والخضيرة وغيرها، التي كبدتهم خسائر مؤلمة، وقتل فيها منهم خلال أشهر هذه السنة فقط ثلاثون مستوطناً وأصيب عشراتٌ آخرون.
ولكن الأثر المعنوي كان أسوأ وأكثر قسوةً عليهم، إذ تراجعت روحهم المعنوية، وانتشر في قلوبهم الوهن والضعف، وسكنهم الخوف والفزع، وانتابهم قلقٌ من الغد وتوجسٌ من الغيب، وقد فقدوا أكثر من ذي قبل ثقتهم في جيشهم وأجهزتهم الأمنية، وأخذوا يتقاذفون المسؤولية عما حل بهم وأصابهم، ويحاول كل طرفٍ أن يلقي باللائمة في العجز والتقصير على الآخر.
كانت الأجهزة الأمنية تشكو من عمليات الذئب المنفرد، التي يقوم بها شبانٌ بأنفسهم، منفردين لا أحد يساعدهم، ممن لا تربطهم رابطة تنظيمية بالقوى والفصائل الفلسطينية، وإنما يخططون بأنفسهم، ويقررون وحدهم، وينفذون ما عزموا عليه دون مراجعة أحد أو التنسيق مع أي جهةٍ، مما صعب على الأجهزة الأمنية التنبؤ بعملياتهم أو استباق تنفيذها وإحباطها، أو ملاحقة خيوطها وتفكيك شبكاتها.
اليوم باتت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في مواجهة طفرة التسعينيات، وتفجيرات المقاومة الصاخبة، ومعامل تحضير العبوات وأماكن تصنيعها، وعليها أن تجيب حكومتها ومواطنيها عمن يقف وراء عملية القدس المزدوجة، التي قد تكون فاتحة عملياتٍ جديدة، يعمد إليها الفلسطينيون ويبرعون في تقليدها، تماماً كما باتوا يقلدون كل العمليات الفدائية، ويطورونها ويزيدون فيها، ويترك منفذوها فيها بصماتهم الخاصة وأساليبهم المميزة، مما سيعيدهم إلى سنوات الرعب الأولى وسني المواجهات الدامية.
أمام الأجهزة الأمنية الإسرائيلية العديد من التساؤلات والتحديات التي يجب أن تجد لها حلولاً وتفسيراتٍ عملية، أولها من يقف وراء العملية، ومن خطط لها وأمر بتنفيذها، وهل لغزة علاقة بها أم أنها من إنتاج وإخراج رجال الضفة الغربية فقط، وهي الذريعة السهلة التي يلجأون إليها لتبرير عجزهم وتفسير فشلهم، وكيف وصل المنفذون إلى مكان زرع العبوات الناسفة وهي أماكن عامة لا تخلو من المارة، وفيها تجمعاتٌ صهيونية دائمة، وكيف بالصدفة توقفت الكاميرات عن التصوير وتعطلت في المنطقة.
كما عليها أن تجد إجاباتٍ مقنعة عن كيفية تصنيع هذه العبوات وأين، وكيف جرى تصنيعها ومن هو الذي قام بتصنيعها وتجهيزها، وهل هم أمام يحيى عياش جديد وظاهرة التصنيع القديمة، ومن أين وكيف حصل المصنعون على المواد الأولية اللازمة لإعداد مثل هذه العبوات، وأين كانت عيونهم والأجهزة الأمنية المتعاونة معهم، وكيف لم ينتبهوا إلى مخططاتهم ويعرفوا نواياهم.
وليس أخيراً كيف وصلت العبوات إلى مدينة القدس، وتجاوزت الحواجز والإجراءات الأمنية المعقدة، أم أنها صنعت في مدينة القدس نفسها، وفي مكانٍ قريبٍ من أماكن زراعتها، مما سهل على المخططين نقلها بلا خوفٍ أو مغامرة.
م
لا تخفي المواقف والتصريحات الإسرائيلية حنقها وغضبها، وخوفها وفزعها من هذه العملية، التي تحكم فيها المنفذون عن بعد، واطمأنوا إليها قبل تفجيرها، ولم تكلفهم حياة أحدٍ منهم، إذ لم يقتل المنفذ كالعادة، ولم يعرف أو يلاحق، وما زال الكشف عن اسمه وهويته يكتنفه الغموض، وقد كان يرضي غرور المستوطنين ويخفف من حزنهم ويواسيهم في ألمهم، قتلُ المنفذين وهدم بيوتهم واجتياح بلداتهم وقراهم، ولكنهم بعملية القدس حصدوا الألم وجنوا الوجع، ولم ينالهم منها غير الرجيع والصدى، وبات لزاماً عليهم أن يتوقعوا الجديد المفاجئ والقادم الصادم، أين وكيف ومتى وما هو......
بيروت في 24/11/2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق