نصري الصايغ
الصندوق الدولي حاضر. الأرضية اللبنانية جاهزة. ستمتثل حتماً. الانهيار حصل. هو ليل جحيمي. العتمة أبجدية النهارات. مؤلم جداً ان تعيش في خطر، وأن تشهد نهاياتك، وأن تكون لياليك كوابيس، وأن تنتظر الحطام.
هذا ليس وصفاً لوهم او توقع. الصندوق الدولي هو الجلاد، ولبنان هو الضحية. ما يُقال في التصريحات والتحليلات، يخفي حقيقة شروط صندوق النقد الدولي. انه ليس جمعية خيرية. ولا يعرف من القيم، سوى قيمة الأرباح. لا يقدَم نقداً بل قيداً. هو يملي، وعليك ان تجهد كي تتنازل. “فالصندوق”، استبداد لا بد منه. والذين يَعوَلون عليه، إما كذابون او شركاء، او الاثنان معاً.
“الصندوق” لا يلجأ الى القوة أبداً. يهدد من دون سلاح. يخيرك بين الركوع والافقار. فماذا يريد منا؟ دفتر الشروط والقيود، كبير جداً. ورهانه هو الامتثال للقاعدة الذهبية التالية: البلدان التي تمر بأزمة اقتصادية، لا يسعها سوى الرضوخ. لذا، الناس في لبنان، تطالب بالرضوخ، لأن لا خروج من القاع، إلا بصنارة، او بتسليم القرار لأصحاب المال.
معلوم جداً ان لصندوق النقد الدولي، سيرة مشينة. انه الأقوى على الضعفاء. بيده رأس المال. والمال ضروري للإنقاذ، والنمو باهظ الثمن، وقيوده آمرة ولا مفر منها. انه يقرضك ليرهنك الى آجال بعيدة. ليس مهماً ان ترد “وديعته الإنقاذية”، بل ان تدفع الفوائد الى آخر العمر. صندوق النقد يوظف الشعب لخدمة الديون. يقال، إن فوائد صندوق النقد الدولي، لا سقف لها ابداً. ويندر ان يخسر الصندوق. انه يعرف جيداً امراض كل بلد. الفساد يعرفه جيداً. الانفاق سرقة. المشاريع وهم. المهم ان يضع الصندوق يده. المصالح الخاصة المالية والتجارية تفوز في معركة مضمونة: الأغنياء ينتصرون دائماً على الفقراء. ولبنان المعاند راهنا، لأن طغمته تريد حصة. وإلا فلا لا. الثمن باهظ جداً. يجب ان نبقى على قيد الحياة. لبنان راهنا دجاجة موعودة بالذهب.
ماذا امام اللبنانيين؟ الاستدانة ملحاحة. الانتظار إفقار. شروط الصندوق املاء. لو أن الصندوق جمعية مالية لا تبغي الربح (وهذا تخريف) لكان بالإمكان رفع راية الأمل. عبث. الصندوق مملكة المصارف. ووظيفته، استثمار الاستعمار، بغاية الربح. استثمار الديون الفالتة، بديون صارمة. إركع ثم لا ترفع رأسك. الآمر والناهي، يرفض التنازل. وان كنت لا تصدق، وتدعي ان هذه مبالغة، فما عليك إلا ان تتعرف على الدول الراكعة على جباهها، بعد وضع يد صندوق النقد الدولي على الكيانات الإدارية والمالية في البلد الغارق بأذنيه، في الفساد. وغريب جداً، أن الصندوق لا يشترط الشفافية. إنه يشترط دفع الفائدة الى اجل غير مسمى.
وعليه، اطلبوا صندوق النقد الدولي. ستصيرون خدماً ولن تكونوا مخدومين. التخلف مستدام ومكرس. قطاعات الإنتاج يتم تصحيرها. تسهيل انتقال الثروات، من الفقراء والغلابة الى الاغنياء في العالم. هذا واضح وممارس ولا يحتاج الى بحث وتقميش. “صندوق النقد الدولي”، جزء لا يتجزأ من الاجتياحات الرأسمالية، والتي تهدد الشعوب بالانهيار، إذا لم يستجب لشروطها. ويقع هذا الكلام، في خانة الترسيمة العالمية للدول والشعوب. فهناك عالم أول متوحش. لا يشبع. اجتياحي. عنفي. تهديدي. يحمي نفسه بالتفوق، بأي ثمن او ضمن منطق الجريمة، التي تسمى سياسة احتلال الأسواق. العالم الأول المتنافس في ما بينه، يتولى سياسة زيادة الإنتاج، وفتح الأسواق، وتسهيل مرور البضائع من الأغنياء الى الفقراء، وسداد الثمن بسرعة. هذه البلاد “الممتازة”، يرتفع فيها الدخل القومي والفردي، ويؤدي الى ارتفاع مستوى المعيشة. وعليه، تتراكم الثروات، ويفيض الرأسمال بآلاف المليارات. أما أنتم أيها الفقراء، فعليكم ان تشهدوا موت الحِرَف. اعتادوا على البطالة. الدخل القومي والفردي الى ضمور. تراكم الديون مستدام.
سياسات لبنان الاقتصادية، ارتكزت على فرضية مجرمة: لبنان ليس للصناعة والزراعة. انه جسر عبور. ملتقى البضائع. من إلى. بوابة الشرق على الغرب، وبوابة الغرب الى الشرق. هو ممر انتاج الآخرين. وهو مساحة للتجارة والسياحة والتبادل. أدت تلك السياسات إلى تهجير الأرياف. افراغ القرى، قتل الزراعة، تسكير المعامل، كل ما ينتج عندنا غير مرغوب فيه. كنا نلبس ثياباً من عندنا. احذية من اسكافيينا. مؤونة. صناعات غذائية من عندنا. نحن ننتمي الى فئة المستهلكين. اختفت القدرة على المنافسة بين المحلي والاجنبي. التسليف للإنتاج مفقود. وتقليص التسليف المصرفي، شرط من شروط الإقراض.
يروي جوزف ستيغلتز تجربته في صندوق النقد الدولي. يقول، إن اخصام العولمة كذابون. نفرض على الدول الضعيفة والفقيرة هدم الحواجز الجمركية وتفكيكها، فيما هي تحافظ عليها. “اميركا هي المذنب الأول”. المصالح المالية والتجارية الخاصة، تنتصر دائماً. البلدان الصناعية تفرض على الدول الفقيرة فتح أبوابها لمنتوجاتها، ولا تفتح أسواقها لنتاج الدول الفقيرة. الأغرب، انها تدعم منتوجاتها الزراعية، وتطالب الدول الفقيرة بإلغاء الدعم على منتوجاتها الصناعية.
من أين يأتي الدعم لخدمة وتقوية الزراعة والصناعة والحرف؟
لا بد من أموال مصرفية. صندوق النقد يفضل تقليص التسليف المصرفي. وعليه، يصير النمو اما باهظ الثمن، او مستحيلاً.
ويخلص ستيغلتز الى ما يلي: ” في ايامنا هذه لا يتم اقتحام الأسواق الجديدة عن طريق القوة او التهديد باستخدام السلاح، بل، بواسطة القوة الاقتصادية والتهديد بالعقوبات او بحرمان البلدان العاصية، مساعدة ضرورية لمواجهة ازمة اقتصادية… ويشترط الصندوق تسريع تحرير التبادل التجاري كي يقدم دعمه. والبلدان التي تمر بأزمة اقتصادية لا يسعها في المقابل سوى الرضوخ لشروطه” (عن كتاب الخيانات الاقتصادية، لوليد صليبي).
الأخلاق القيم، التضامن، كلمات مهجورة من صندوق النقد الدولي. يعرف ان الربح هو الغاية: “خذ…ثم لا تتوقف عن سداد الديون، وإلا…”. وديون الصندوق لا سقف لمردودها.
سيسرق لبنان مراراً. من زمان والنهابون اللبنانيون يكسبون. والنهابون ينتمون الى جمعية الرفق بالجيوب. وهم معروفون. قادة سياسيون. ملوك مصارف. قوى نفوذ. مصادرو الحقوق. إتلاف القضاء. يُحاسِبون ولا يُحَاسَبون… أسطوانة الفساد شغالة. وهؤلاء، سيكونون رعاة لاستثمارات أموال الصندوق، أو شركاء. خراب لبنان، لم يكن بسبب كسل اللبنانيين. كان بسبب جبنهم واكتفائهم بفتات الفساد. والفساد، في لبنان، هو الدين السياسي لعصابات، الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
المصيبة، ان صندوق النقد، يعرف الفعل والفاعل والمفعول، ويقيم علاقة وطيدة مع الفاعل. والفاعل مدعوم بتأييد طائفي مرصوص. هؤلاء، سيكون عليهم اغراق لبنان. وقادة الانهيار المتداولون إعلاميا ستكون حصتهم، رعاية خطة النهوض، وتنفيذ طلبات الصندوق. ثم، “مطرحك يا واقف”.
من ينسى السياسة، في شروط الصندوق، أهبل. القروض وسيلة ضغط للحصول على اهداف سياسية. لبنان لم يستطع ان يحسم خياراته الإقليمية بعد. هو في حالة انتصاف. لبنان ساحة المنازلة بكل الأسلحة غير النارية، حتى الآن. لبنان ملزم بأن يلتئم مع الغرب. وتحديداً مع الولايات المتحدة، والطلاق مع الشرق، والأهم، ولوج عملية السلام.
الصندوق، لن يعالج الأسباب التي دفعت لبنان الى الإفلاس. بل لن يهتم بالإفلاس الحاصل. سيفرض تقليص الضمانات الاجتماعية. إغلاق مزاريب الهدر. تصغير القطاع العام. زيادة الضرائب، رفع الدعم… أي المزيد من الافقار. والغريب، أنه لا يطلب من المصارف الشفافية، ولا يهتم بالمساءلة، ولا يلتفت الى واجبات القضاء. والسبب، انه يملك المال. فهو إذا، القضاء والقدر.
تجارب الصندوق في العالم، ليست مستورة. في عهدته، تمت أوسع عملية نقل ثروات من شعوب البلدان النامية إلى اغنياء العالم. “نهب اقتصادي شرعي”. تماماً، كما هي حال النهب الذي ترتكبه طبقة التحالف الطائفي المالية. وعليه، سيزداد الأثرياء فجوراً، وستضاف أعباء ضريبية على الفقراء. (رفع الأسعار الراهن، سيتضاعف في زمن الاحتلال الدولي، عبر الصندوق).
هل سينجو لبنان من جحيمه الراهن؟ اشك في ذلك كثيراً. لأن اللصوصية الدولية تكرس التخلف. تَتَسيَد على القرارات.
يزداد الفقر. يتراكم التضخم. تدمر القطاعات الإنتاجية، وتهاجر الأموال من الفقراء الى الأثرياء. وتتضخم أرباح المصارف والسماسرة والقادة السياسيين.
أخيراً، لا بد من توقع الأسوأ. الصندوق، استبداد لا بد منه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق