معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
■في المقالة السابقة (رقم 1) تناولنا حالة الإنكار لدى القيادة السياسية إزاء ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما يتطلبه الأمر من سياسات ميدانية وفاعلة، في مواجهة سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وخطواته العملية والميدانية، خاصة بعد النقلة التاريخية التي شهدتها دولة الاحتلال في الوصول إلى الحكم، حكومة يمينية متشددة ومتطرفة وفاشية.
وهي حكومة تعيش هي الأخرى حالة إنكار حين تتجاوز في برنامجها كل المعايير والقيم والأعراف الدولية والقانونية، التي توافقت عليها الشرعية الدولية، وقوانينها والعلاقات بين الأنظمة والدول في العالم.
تجاوزت حكومة نتنياهو وشركائه الفاشيين، هذا كله لصالح الخرافات والأساطير التلمودية، باعتبارها هي وحدها المنطلقات الفكرية والسياسية والدينية لقيادة دولة إسرائيل وإدارة علاقاتها مع الفلسطينيين والعرب والعالم أجمع.
لعل أهم ملامح حالة الإنكار التي تصيب حكومة نتنياهو، أنها أعادت رسم الخريطة الفلسطينية، فأزالت عنها اسم فلسطين، ووضعت بدلاً منه اسم دولة إسرائيل، الممتدة حدودها ما بين نهر الأردن شرقاً، والبحر المتوسط غرباً، ولبنان شمالاً، وشبه جزيرة سيناء (مصر) جنوباً، وألغت الأسماء العربية للأراضي المحتلة، فالضفة الفلسطينية صارت يهودا والسامرة، والقدس باتت يروشاليم، والمسجد الأقصى أصبح جبل الهيكل، وغير ذلك من المسميات التي تريد إسرائيل (الجديدة، القديمة) إعادة رسم المشهد الجغرافي – الديموغرافي التاريخي، كما هي تتصوره في أحلامها وطموحاتها الاستعمارية، بخصوصيتها الصهيونية الدينية، التي تجمع بين المشروع الاستعماري، بادعاءاته القومية الزائفة، وبين ادعاءاته الدينية، باستنادها إلى خرافات وأساطير وقيم فاشية وعنصرية، لا ترى في «الآخر» سوى وسيلة لتوفير رفاهية وأحلام «آلاف» اليهودية الصهيونية، وفي هذا الإنكار تنسف حكومة دولة الاحتلال، في ادعاءاتها ما خطه التاريخ، بلغاته المختلفة عن حاضر المنطقة وتاريخها القريب والبعيد، وحتى البعيد جداً، لصالح روايات مزيفة، لا تجد لها سنداً سوى في أساطير وخرافات، نبشت أرض فلسطين، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، بلا جدوى، دون العثور ولو على بقايا عظام تؤكد صحة هذه الروايات والأساطير.
كذلك تنسف حالة الإنكار هذه، مئات المجلدات التي حوت قرارات ودراسات وقوانين وأبحاثاً، تؤكد عكس ما تقوله الأسطورة الصهيونية الدينية.
كذلك تنسف حتى ما يعتقده ويراه ويؤمن به أصدقاء الحركة الصهيونية أنفسهم، الذين ينظرون بقلوب رقيقة إلى مستقبل مشروع الدولة اليهودية، خوفاً عليها من مشروع الصهيونية الدينية نفسها، فحالة إنكار الواقع لا تعني أنها نجحت في إعادة صياغته.
إسرائيل أياً كانت حكومتها، لا تستطيع أن تنكر العقود الطويلة من الصراع مع الشعب الفلسطيني، وهو يقاوم الهجرات غير الشرعية لوطنه، وهو يقاوم الاستعمار البريطاني الذي جعل من أكذوبة «الانتداب» محطة لبناء أسس الدولة اليهودية (إسرائيل)، وأياً كانت ادعاءات دولة الاحتلال، فإنها لن تستطيع أن تنكر وجود حوالي مليوني فلسطيني ما زالوا يعيشون في أرض آبائهم وأجدادهم، في الجليل والمثلث والساحل والنقب، وهم وإن فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية كأمر واقع، فإنهم يفتخرون بأنهم فلسطينيون، يتباهون برفع علم فلسطين، شاء بن غفير أم أبى.
كما لا تستطيع حالة الإنكار هذه أن تلغي من ملايين اللاجئين الممتد وجودهم في القدس وأنحاء الضفة والقطاع، إلى جانبهم حوالي 6 ملايين آخرين، ما زالوا يحتفظون بمفاتيح العودة إلى الديار والممتلكات، وأن الزمن فشل في محو الوطن من الذاكرة.
ومما لا شك فيه أن نتنياهو وشركاءه، سوف يتذكرون على الدوام هذا الوجود العظيم مع كل صباح ومع كل مساء، وهم يرسمون خطط القمع الدموي، وخطط التهجير القسري، وخطط نهب الأراضي ومصادرتها.
سيتذكرون هذا بقوة، كلما تصدى المصلون لعصابات «المستوطنين» وهم يقتحمون الأقصى، وكلما تفجرت عبوة في زاوية من زوايا القدس، وكلما تصدى شاب أو فتاة، بسكين المطبخ لجندي إسرائيلي أرعن، وكلما اقتحمت حاجزاً لجنود الاحتلال إحدى مجموعات الفدائيين التي أخذت تتوالى في أنحاء الضفة الفلسطينية، وكلما أطلق أطفال فلسطين في باحات المدارس، من نشيد الصباح شعار «عائدون».
إنكار صهيوني يهودي متدين، يقوم على عنصر القوة الفاشية، مستندة إلى فوهة البندقية.
لكن واقع التاريخ يقول إن كل حالات الإنكار الاستعماري التي ساندتها فوهات البنادق والمدافع والمروحيات وقنابل النابالم، تحولت إلى مجرد روايات وذكريات يندى لها جبين التاريخ خجلاً، كلما أتى أحد ما على ذكرها ■
(يتبع حلقة ثالثة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق