أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
يمر رأس السنة الميلادية هذا العام ليصادف الذكرى الـ 58 لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة التي فجرتها حركة فتح، وعلى امتداد عقود من السنوات الكفاحية، تابعت حركة فتح المسيرة حافلة بالإنجازات والعطاءات متعمدةً بدماء الشهداء وآلام الجرحى وعذابات الأسرى، تضحيات صنعت مجداً وتاريخاً، جعل من يوم الانطلاقة 1/1/1965 منعطفاً وجهته نحو النصر الأكيد، نحو استعادة كامل الحقوق الوطنية لشعب فلسطين، بإرادة من حديد تحمل كل معاني الصمود ومآثر البطولات التي سطرها أزيز الرصاصة الأولى، تدوي على الطريق إلى فلسطين، طريق الكفاح المسلح، وشعارها «ثورة حتى النصر» خطته قوات العاصفة على الدرب الصعب المعمد بالدم الطاهر حتى نيل الحرية والاستقلال، وحملت لواءه عام 2000 كتائب شهداء الأقصى، رافعة في انتفاضة الأقصى علم فلسطين، يداً بيد مع كل من حمل راية فلسطين والكفاح، ليكملوا مشوار الكرامة والتحرير والاستقلال منذ عشرينات القرن الماضي في ثورات متوالية فجرها شعبنا الأبي، وهو يتصدى لموجات هجرة المستوطنين ، ويقاوم الاستيطان والتهويد، ويناهض الاستيلاء على الأرض، عبر مراحل مختلفة بظروفها السياسية والنضالية، مختلفة بشعاراتها المرحلية، وجوهر الصراع متمركز حول التمسك بأرض فلسطين وحق شعبها في تقرير المصير على هذه الأرض التي تستحق الحياة.
انطلاقة ثورة وانعطاف تاريخ لمرحلة جديدة في مسيرة نضال شعب، لتبدأ حركته بالتصاعد والعنفوان نحو الحرية والاستقلال ورفض الاحتلال، لقد كان لبندقية حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) إطلاق الرصاصة الأولى رصاصة الأسبقية، معلنة بدأ عصر الثورة المعاصرة، فكسبت بذلك الالتفاف الأول والتأييد الجماهيري الأوسع حولها من كل الفئات والطبقات الاجتماعية الفلسطينية وشهدت صفوفها الانضمام المبكر لطليعة أبناء شعبنا، فتعزز موقعها في كل أماكن تواجد الشعب المشرد، والراغب بالثورة وتغيير الواقع الذي هدد وجود وكيان وهوية شعب فلسطين، فوجد الكثيرون في عضوية حركة فتح الموقع والمكان المناسب لتضافر جهود الجميع في عمل وطني منظم يجدي في مقارعة العدو، انطلاقة حولت الشعب المشرد شعب الخيام واللجوء والمنافي إلى شعب ثائر يستشعر هويته الوطنية ويلمس قدرته في صنع الحدث، فهب ليستبدل خيمة النكبة وذل اللجوء، ويقيم مكانها خيمة معسكر الثائرين ومركز تدريب الفدائيين.
وفي غياب تنظيم فلسطيني آخر، استحوزت حركة فتح «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» بتسميتها الشاملة هذه، وبكفاحها، على مجمل العمل الوطني الثوري وتركت لمنظمة التحرير الفلسطيني هامشاً للعمل السياسي والإداري، ثوريون لا يحملون فقط البندقية، بل أيضاً يعلنون عن أنفسهم حاملين للهوية الوطنية والخصوصية الفلسطينية، وبهذا أعطت للمنظمة دفعة قوية في تمثيل الشعب الفلسطيني، بل اعتبر أحمد الشقيري رئيس المنظمة وقتها أن الثائرين هم المنظمة وهم الممثلون الحقيقيون للشعب الفلسطيني.
وبعد هزيمة الخامس من حزيران، وخيبة الأمل الكبيرة من إنجاز يحققه التيار القومي لشعب فلسطين غير الشعارات الطنانة الفارغة من مضمونها، لخصت فتح شعارها «فتح القرار الفلسطيني المستقل»، ومال الفلسطينيون عموماً نحو أخذ زمام المبادرة بأيديهم، كرأس حربة في تحرير الأرض واستعادة الحقوق الوطنية، ينبذون الانتظارية والاعتماد على دور عربي حاسم يزيل الاحتلال، سرّعت انطلاقة فتح تحوّل الفلسطينيين من الفكر القومي المجرد إلى الفكر الوطني المنفتح على إطاره العربي، وشهدت تلك المرحلة تبدلاً من الانخراط في التنظيمات والأحزاب السياسية العربية، إلى الانخراط في التنظيمات ذات الخصوصية الفلسطينية، التي بدأت بالظهور بعد نكسة حزيران.
انفردت حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح بالنضال الوطني الفلسطيني نحو سنتين، كانت كفيلة حتى الآن بإعطاء فتح دور ريادة العمل الوطني، حتى بعد ظهور حركة حماس بحجمها وحضورها الجماهيري ودورها في مقاومة الاحتلال، فما زالت حركة فتح تجني ثمار ريادتها منذ بدأت تتعدد التنظيمات الفلسطينية تعلن انطلاقتها كفصيل مقاوم من أجل التحرر الوطني، وأصبحت فتح إحدى هذه الفصائل، تحمل الاسم الجامع لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، دلالة لطموحها تمثيل تطلعات الشعب الفلسطيني بكافة طوائفه وطبقاته وقطاعاته، لا تمانع أن تضم في بنيتها التنظيمية تيارات سياسية وفكرية متنوعة، فوسعت دائرة الانتماء إلى صفوفها، ووحدتهم في بوتقة خطاب سياسي يبتعد عن الخطاب الأيديولوجي والمضمون الطبقي لحركة الشعب والدور الذي تلعبه كل فئة اجتماعية انطلاقاً من موقعها الطبقي، خطاب يهتم للخصوصية الفلسطينية، وتأكيد الشخصية الوطنية المستقلة، وتثبيت الهوية الفلسطينية، مما رفع منسوب شعبيتها في مرحلة تراجع المد القومي، ومكنتها جماهريتها من الحفاظ على دورها القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية، وتسيّدت مؤسساتها منذ العام 1969 عندما أصبح ياسر عرفات الفتحاوي الأول رئيساً للمنظمة.
تعترف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بأسبقية فتح في رفع راية الكفاح المسلح من أجل تحرير فلسطين، هذه الريادة ليست الميزة الوحيدة لاستمرار دورها الهام والقيادي في ساحة النضال الوطني الفلسطيني على مدى هذه العقود الستة، بل أهّلها له إطار جماهيري والتفاف وانضمام واسع إلى صفوفها، ووعي سياسي بطبيعة المرحلة النضالية واتباع البرنامج السياسي وتحديد المهام النضالية المناسبة لكل ظرف ومحطة تجتازها القضية الوطنية.
بعد النكسة شهدت الساحة الفلسطينية تأسيس تنظيمات فلسطينية أهمها جاء من تلك التي ولدت من رحم حركة القوميين العرب والتي تنسب لها أعمالاً كفاحية قامت بها ضد العدو في فلسطين أو على حدودها قبل العام 1965، ففي حين تعلن فتح إطلاق الرصاصة الأولى وتعلن عن أحمد موسى سلامة أول شهيد في الثورة الفلسطينية المعاصرة، يتذكر ورثة حركة القوميين العرب من فصائل فلسطينية شهداءها الذين رووا بدمائهم الطاهرة أرض فلسطين قبل انطلاقة فتح، حيث نفذ تنظيما أبطال العودة وشباب الثأر عملياتهم الفدائية، فكان خالد أبو عيشة أول شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة في 12/11/1964 ، وتبعتهم كوكبة أخرى من الشهداء في 21 /10/1966 محمد اليماني، رفيق عساف، سعيد العبد سعيد، والأسير سكران سكران، أي قبل انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عندما اشتبكت مع كمين لجيش الاحتلال وهي متوجهة لتنفيذ مهمة داخل الوطن المحتل في أطار شعار فوق الصفر و دون توريط الأنظمة العربية في حرب مع اسرائيل ليست مستعدة لها، أي لم تكن لرصاصتها السباقة من أبطال العودة وشباب الثأر المدلول والمضمون الاستراتيجي بإعلان بدء الثورة.
في ذكرى انطلاقة فتح وإزاء الواقع الفلسطيني والإقليمي والدولي الراهن، المطلوب من كبرى فصائل «م.ت.ف.» الذي أطلق الرصاصة الأولى على العدو، وكمعني أول باستعادة الوحدة الوطنية بوصف حركة فتح أحد طرفي الانقسام أن تطلقها من ذات بندقية الأسبقية على هذا الخطر القائم على القضية الوطنية الفلسطينية جراء الانقسام الفلسطيني بدل أن تطلقها في الاحتراب الداخلي، فقد بات ضرورياً ومحتماً أن يوضع حد للانقسام المؤسسي والجغرافي المدمر للقضية الفلسطينية، فحركة فتح التي أطلقت رصاصة المبادرة، ينتظر منها تتحمل المسؤولية الوطنية وأن تطلق مبادرة للوحدة الوطنية الجادة والملتزمة بالتنفيذ والتطبيق.
ويبقى على «فتح» كدور قيادي في الساحة الفلسطينية أن تساهم مع الفصائل الأخرى بوضع استراتيجية فلسطينية لمواجهة تحديات ومخاطر المرحلة المقبلة، والإعداد لانتفاضة فاعلة تخرج الحالة الفلسطينية من أزمتها، ولا سيما أن حركة فتح تتداخل قيادةً وكوادر مع مسؤولي السلطة، ومع أجهزة الأمن الفلسطيني، وقادرة على التأثير في اتخاذ قرار بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، و القطع مع أوسلو و التزاماتها، هذه أمور حاسمة وهامة سيما بعد تشكيل حكومة اليمين المتطرف بتحالف الصهيونية الدينية المؤلفة من الليكود والأحزاب الحريدية، والدور الأميركي المتبني لمشروع نتنياهو في فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق