نصري الصايغ
أخشى أن يعيدوا إلينا لبنان، كما كان. غودو لن يأتي. كل ما يقال، قيل من قبل. مجرد ثرثرة سياسية. سخافات وتفاهات. سقطت لغة التفاؤل. وبرغم ذلك، لا تزال الكلمات. الكلمات صفر، تكذب، خلص. غورو لن يأتي، ولا معجزات في زمن العجز التام.
كلام ضد كلام. لا أكثر. كذب يواجهه كذب. عهد يبتزه عهد مضاد. لقد تم محو الأفق. سُدَّت النوافذ. الغد يولد مقتولاً. هو ليس ماضٍ، يزداد تعفناً وموتاً. ولا غرابة أبداً إذا خلت اللغة من جملة مفيدة. جملة تقول لنا: سنتغير قليلاً. قليلاً فقط.
أعرف جيداً. انني سأثير حساسية المرهفين الذين يتوقعون ما لن يقع أبداً. سيقال لي، كما قيل مراراً: خلص حكي. اتعبتنا. انكم على حق. ولكن، لا بد من الامتناع عن التفاؤل. بل، من لديه شرفة تطل على المستقبل. فليأخذنا إليها. أجمل هدية للبنانيين، بعد أعوام السواد وعقود الفشل وازمنة الفحش والسرقة و… هو ان تؤلف جملة مفيدة، تخبرنا فيها فقط، عن وقف الانهيار الشامل. نعم، لا نتوقع تغييراً. فليكن رهاننا البائس فقط، هو الحفاظ على الغد فقط.. في ظني ان المستحيل عقيدة مقيمة وناجحة. واليكم الأدلة:
- انتخاب رئيس للجمهورية. كذب. المشكلة ليست في ملء الفراغ ابداً. كان لبنان، منذ ثلاثة عقود، قد عقد سياسته على الفشل. بل الافشال. لبنان، مع رئيس، لا يختلف كثيراً، عن لبنان برئيس “منتخب”. نحن لا ننتخب رئيساً. هذا تراث مزمن. رجاء، خفّفوا من غلوائكم “الوطنية”. انتخابات الرئاسة جرصة، بكل معنى الكلمة… هذا المقام لا يُعوَّل عليه. وانتخاب رئيس إذا حصل، سيكون على صورة تاريخنا الموبوء وبلدنا المنهوب.
- تأليف حكومة جديدة. كذب. طول عمرنا وحكوماتنا ضدنا. تذكروا كيف تقاسموا مغانم لبنان. تذكروا ان حكوماتكم كانت محكومة دائماً. نصفها مع الشرق ونصفها مع الغرب. اكاد أقول، ولا مرة كان لبنان لبنانياً. لبنانية اللبنانيين، نكتة سمجة. الحكومة “الجديدة”، هي من طراز قديم وحقير جداً. لكل علي بابا، حصته.. أنتم، حُرّاس المغارة وضحاياها.
- اجراء انتخابات نيابية. حصلت، النتيجة فالصو، مجلس النواب ليس منتخباً. الانتخابات لعبة قذرة وكاذبة. انتخب تعني اختار. من منكم اختار نائباً من خارج طائفته. هذه انتخابات الصم. لذا، لم يتغير شيء إلا باتجاه الأسوأ. غريب. لا شيء تغير باستثناء رعاية الانهيار بالتمام والكمال.
- بعدما أقدم اللبنانيون على تأليه الطائفية، جاء مطلب “الإصلاح”. هذه بضاعة فاسدة. فلترحل مغارة علي بابا، والاربعمئة حرامي، من كبيرهم الى صغيرهم، واياكم ان تعوّلوا على أصحاب الايادي البيضاء. هؤلاء، أصبحوا مقيدين بمقاعدهم ومصالحهم، وحتى الآن، لم نجد إلا القليل جداً جداً، من أمثال الرئيس اليتيم سليم الحص.
- سؤال، من بين مئات الأسئلة: لماذا توقف التحقيق بالجريمة العظمى، انفجار مرفأ بيروت؟ القضاء في لبنان، ليس الموقع المؤهل ابداً لكي يحكم بالنزاهة. هل تعرفون ماضي أكثرية القضاة؟ كم هي ثرواتهم؟ قصورهم؟… إن امرأة قيصر، هجت من زمان. قصور العدل، لا عدالة فيها. مساكين يستقوون فقط على الضعفاء. هم لا يُقصّرون فقط، هم يزوّرون. هل هناك مسخرة أشد، من تعطيل القضاء نفسه، لأنه قضاء يقضي على الحقائق. ألا تزكم انوف اللبنانيين أوساخ وزبالة التأجيل… قيل لي مرة، ولم اصدق، أن معظم القرارات يُدفع ثمنها مسبقاً. “مللا” قضاء. دلونا على قضية وصلت الى نهايتها. نواب ووزراء ومسؤولون وأمنيون، اغتيلوا منذ سنوات قليلة. لم يصدر إتهام أو حكم في أحد. القضاء يقضي على القضايا… إنه جشع جداً. كل حكم له ثمن…
عندما دخل المسيح المعبد، رأى أنه قد تحوَّل الى سوق، فقلب عليهم الوضع وصرخ:
“بيتي بيت صلاح يدعى، وقد جعلتموه مغارة للصوص”.
أما اقوال الامام علي بن ابي طالب، فهي أشد وطأة على تجار العار.
- هل استعدنا حقنا بالكهرباء؟ عبث. لن تروا النور. السبب ليس سياسياً ابداً. وليس قانونياً ابدا. انه تصفية حسابات بين عصابات الكهرباء والنفط والمصارف والسياسة. حدث ذلك منذ طردت حكومة رفيق الحريري، وزير الطاقة جورج افرام الذي قدم خطة علمية دقيقة محبوكة تؤهل لبنان ليصير مُصدّراً للكهرباء. عزلوه. طردوه. استقال.. ثم عينوا بديلاً مختصاً بالصعق الكهربائي ابان الحرب اللبنانية.
الكهرباء علتها الوحيدة، انها منهوبة، منهوبة، منهوبة. ومطلوب حلبها راهنا. الورثة معروفون، أصحاب “محطات الموتورات”.. كارتل الموتورات شريك مضارب للكهرباء.
وبرغم ذلك، تعامل اللبنانيون مع مناسبة الإنتخابات بقبضات مستقوية، وجيوب فارغة.
ألف مرة تباً.
- يلزم ان نتوقف عن طرح أسئلة مكررة وغبية ورفع شعار التغيير.
عبث. من هو مؤهل للتغيير. لا أحد. اقصد لا أحد عملياً. ولا أحد بالمرة. التغيير ليس نوايا سحرية. بل هو جد وفعل وتأثير… عبث. أسف ان يصبح شعار التغيير شبيهاً باشتهاء “البوب كورن”. التغيير بحاجة الى قبضات مجهزة وقوية وظروف مؤاتية. أي تغيير صغير قد يحصل، سيجر البلد الى التفاؤل… رجاء: صوموا عن التغيير. اتعظوا مما حصل في ” بلاد الربيع العربي”. التغيير أشعل الارتكابات، بلا وازع ولا هدف. كنا موعودين بـ”الربيع العربي”. غلط. دخلنا خريف الرصاص وشتاء القصف وفصول الخيام واللاجئين. ولا أحد يسأل عن الدماء والجرائم… هل نحن بهذا السوء حتى نُصاب عن جد، بمقتلة عبثية. اللعنة، لا اصلاح البتة، من المحيط الى الخليج، ولبنان في رأس قائمة الخراب.
- سؤال: هل يتوقع اللبنانيون، ان يتم الاتفاق على علاقات لبنان الدولية والإقليمية؟ من زمان، ولبنان مشَرع للآخرين، الاقرباء والاعدقاء، حتى بات لكل سفارة حزب لبناني يقف “سنكي طق”، وعلى رجل واحدة بانتظار الأمر، أيا كان. ساحة بيروت مرعى وافر لسفراء الدول ذات النفوذ والوطأة والقدم في لبنان. سيبقى لبنان، كما كان دائماً، مشرعاً للنداءات من الداخل والاملاءات من الخارج. ويكثر الكلام عن حل ما لا بد منه، فقط بالشفاه. لبنان ملتقى التناقضات الداخلية والإقليمية والدولية. لم يدخل اللبنانيون في حروب، لأسباب داخلية. ولا مرة. بسبب العمال او الأساتذة او.. مشروع ايزنهاور أنتج حرباً عام 1958. اتفاق القاهرة سمح للمقاومة الفلسطينية بالإقامة و.. انفجر لبنان وانقسم. ثم توالت عمليات تشليع لبنان، على مدار 15 سنة حرب. أما زمن السلم الطائفي، فقد استتب تحت قبضة بعض الحماية السورية العرجاء. الى آخره.
راهناً، لبنان موطئ النزاعات الكبرى. اميركا، إيران، السعودية، دول الخليج، سوريا، حلف الأطلسي… لبنان الصغير راهناً، هو ساحة واسعة لكل أنواع الصراعات… حذار الدماء.
- سؤال معروف جوابه؟ لماذا انهار لبنان؟ أليس لبنان قد انهار بسبب نظام السرقات المدعوم من مرجعيات طائفية سياسية وحزبية وإقليمية. ومع ذلك، فان اللبنانيين يقتاتون من قهرهم وفقرهم، ويلجأون الى من نهبهم وشارك في افقارهم، ليستردوا فلس الارملة، مهانين ومطرودين.
عجب. يبدو ان التبعية سلعة ذهبية. مستقبل لبنان راهناً، تأليه التوحش. التوحش المالي. فعل سياسي دكتاتوري ومن الغرابة، ان لا صوت يعلو فوق صوت الإذاعات والتلفزيونات المتخندقة، في خنادق التآكل والأكل المتبقي كفلس الارملة.
بات مؤكداَ، ان أموال اللبنانيين بح. أموال الأثرياء والشركاء في اغتصاب الأموال والعقارات والشركات، تم تهجيرها الى بلاد مختصة برعاية وحماية الأموال غير الشرعية.
- سؤال سهل: هل سيتفق اللبنانيون على سلاح المقاومة؟ مستحيل. وجودان مضادان من زمان. البلاد العربية اختارت إما الصمت، وإما المصافحة، وإما الحيادية. فلسطين لا تزال قضية تقسم العرب، ولكنها توحد الغرب ضدها. من كان في لبنان، غربي الهوى، وغربي القبعة، وغربي الثقافة والسياسة، يحاول ان يتخلص من العبء الفلسطيني… قسم حرزان من اللبنانيين لجأ الى اسرائيل للقضاء على السلاح الفلسطيني. نتيجة التدخل الاسرائيلي كانت في تطهير لبنان من السلاح الفلسطيني، غير ان ذلك فتح باباً للتخلص من الوجود السوري في ما بعد… اذاً، محنتنا الداخلية لها سوابق، باستثناء ان المقاومة راهناً، باتت اقوى من الدولة، وأقوى من دول الجوار، وأقوى من الأقوياء في مواجهة إسرائيل…
حسناً، ما الحل؟ لا حل ابداً. “أصحاب السيادة”، يطالبون بجيش واحد، وإلغاء كل سلاح “هذا حصرم رأيته في حلب”.
فلنعترف، هذه قضية كبرى، ولا أكبر منها، ولا حل لها البتة. الحرب الداخلية كارثية، وسواها سيكون حرباً إقليمية.
لا حل اذاً… طبعاً طبعاً طبعاً. كل ما عدا ذلك، هراء وهراء؟
- ما كانت حصيلة مئة سنة من عمر لبنان؟ بإمكاننا ان نعتز بلا ادعاء، ان بيروت كانت عاصمة الكتاب والثقافة والابداع والفن وحرية القول (نسبياً).
هذا هو لبنان. الفن فضاؤه. الأدب شراعه. الابداع ناصيته. مسرحياً، حاز لبنان الريادة. تجرأ على المحرم. شعرياً، نهضة لا مثيل لها وتأثير وتأثر بالشعر العربي والعالمي. الموسيقى: احتفال لا ينقطع. – (راهنا. يا حرام)، النحت والرسم: قائمة من المخلدين. الخ… لبنان صفحة ابداعية تامة. للأسف، لم يبق لنا غير هذا، وهناك خوف عليه من “السخف الإعلاني”.
ما تبقى فشل يحبل بفشل ينجب تسلسلا من الأفشال. فشل سياسي الى تخوم الفتنة. استقلال معتقل ومباع. اقتصاد تفشت فيه انماط مافيوية وفساد ينافس الالوهة في قوته. الخ..
وعليه، علينا ان لا نبكي ما فقدناه من زمان. نحن اليوم على حافة موت مقيم معنا. نحن على حافة الوجود. نكاد ننعدم، هذه عينة بعناوين موتنا غداً: الدواء، يا حرام. الاستشفاء، يا ويلنا. التعليم، “قفا نبكِ”: أموالنا وعرق جبيننا “راحوا”. النور والكهرباء: قل وداعاً. مياهنا: حنفيات مقفلة. طرقاتنا: كم قتيلاً يومياً. التلوث: لبنان يحده التلوث شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً وسماء وما تحت التراب. ديونه: قيود لنا ولأولادنا واحفادنا. سياسيونا… تجارنا… الوكالات… المؤسسات “الرعائية”… المجالس: تعهدات سيَالة وحماية “الهية”…
اللاشيء، هو جوهر وجود لبنان. حرام ان نسميه دولة، دستور، نظام، مؤسسات… الخ. انه عدم وطني. خيانة إنسانية. سلعة مقطوعة، وقيادات تزداد فحولة ونهباً واتباعاً.
أما بعد…
لم ندرك بعد النهاية.
ليتها تحضر غداً.
لا حياة لنا، إن لم يمت هذا العبء المئوي. لبنان الذي نحبه، لم يولد بعد. سنبقى نحب لبنان الغد. لبنان الناس. لبنان الحياة الطيبة. لبنان المفعم بالآفاق الناصعة: حرية. مواطنة. مساواة. عدالة. بحبوحة. تنمية.
لكن… كل هذا لن يولد، قبل ان يسفك هؤلاء الذين تناوبوا على قتل لبنان، وبيعه بكثير من الفضة، وتشليعه وتوزيعه على نوازع مذهبية.
بلى. يحق لنا أن نحلم. نستحق احلاماً، ولو نحيلة، ان يكون الأمل بمستقبل.
لبنان هذا. اللامرئي حتى الآن، يستحق ان يكون.
متى؟
كثيرة الاحلام التي تحققت. من يدري؟ الأحلام أضواء لا تنطفئ. من حقنا ان نلبط بأقدامنا هؤلاء راهناً. هؤلاء جحيمنا. نحن، سنحلم وعيوننا مفتوحة وقبضاتنا رصيدنا.
علينا، لنصل الى ما بعد، ان نرسم على اوراقنا، خشبة إعدام عادلة.
هذه منصَة خلاصنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق