تحاولُ الورقةُ طرحَ الإشكاليّة التالية: هل غايةُ التطبيعِ الاندماج في المنطقةِ أم دمجُ المنطقةِ في المشروعِ الصهيو/ أمريكي؟
تفكيكُ هذه الإشكاليّة يكون بالإجابةِ عن الأسئلة التالية: ما المقدّماتُ التاريخيّةُ التي أسّست للتطبيع؟ وما دورُ الرّهانِ على التسوية؟ ما الاستراتيجيّاتُ المتدرجةُ التي مهّدت لحالةِ الاختراقِ ومساعي تحويل عمليّةِ الصراع، لتشريع التطبيع والخيانة؟ ثمّ ما دورُ الاستراتيجيّة الأمريكيّة ومنها صفقةُ القرن حتى استراتيجيّة بايدن الثانية؟ المسألة التاريخيّة في مسيرة التطبيع تعني إقصاء الرواية العربيّة وأن العربي لا يملك روايةً أخرى أو خطابًا مضادًّا. أمامَ الواقعِ الجيوسياسي الجديد في ظلال التطبيع، يطرحُ صياغةَ استراتيجيّةِ عملٍ جديدة لمقاومة التطبيع، التي تؤسّس التطبيع نفسه، اختراقه وتعريته وتفكيك ركائزه وفرض خطابنا وروايتنا.
منطلقات تاريخيّة أسست للتطبيع
في لقاءٍ جمعه بنظرائه من إسرائيل والمغرب و البحرين والإمارات، صرّحَ وزيرُ الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أنّ بلاده برئاسة جو بايدن ستعمل على تشجيع مزيدٍ من الدول العربيّة على إقامة علاقاتٍ طبيعيّةٍ مع إسرائيل وتوسيع "اتفاقات إبراهام" التي أطلقها الرئيس السابق دونالد ترامب. لذلك فالمقدّماتُ السياسيّةُ التي أفضت إلى الوضع الحالي، لها ما قبلها من المسارات والسياقات التاريخيّة التي مهّدت له وأهمّها:
• المنطلق الفكري
- تجديدُ الصهيونيّة، تجديدٌ للعداء والسيطرة بأشكالٍ جديدةٍ وتأجيجٌ للصراع وليس إنهاءه. قيل إنّ التسوية حلٌّ لعقدة القلق الوجودي الصهيوني وإنّ الحل يكون بما بعد الصهيونيّة، ماذا يعني؟ تيارٌ يمينيٌّ تقليديٌّ يدعو إلى الانتقال من "تطبيع" الشعب اليهودي في دولةٍ يهودية.. ثم فتح العواصم العربيّة أمامَ هذه الدولة، وهذا سيؤدي الاستقواء على الفلسطيني لإجباره على قبول الأمر الواقع.
- ثمّ التيار الثاني الصهيونية الجديدة، يتّحد فيها اليمين القوميّ بالديني الفاشي، دعاة هدم الحرم وإعادة بناء الهيكل الثاني، هم الآن في الحكم، هؤلاء لا يعدّون أنّها تحقّقت فكرة الدولة اليهودية دون حسم الصراع، تراجعت الصهيونيّةُ العمليّةُ لمصلحة الدينية، ثم الآن تتجدد بالصهيونية القوميّة / الدينية. إنّ التطبيع لليهوديّة وليس مع العرب.. تيار (الموت للعرب).
متلازمةُ السلام والتطبيع
لا بدّ من الإشارةِ إلى تلازم كلمتي في الخطابِ السياسي الراهن. فالتطبيعُ لم يسقط فجأةً صدفةً أو أنّه قدرٌ محتوم، لكنّه يقع داخل عملية الصراع، عندما وفّرت الدول الإمبرياليّة على إسرائيل فترةً طويلةً من النمو والحماية وبدأتها المساعي الأمريكيّة حتى ستار البحث عن السلام، تحت مسمى لجنة المساعي الحميدة، التي وصلت إلى المقولة المتداولة: "الراعي النزيه" أو "الوسيط العادل"؛ ثم إن99،99 من أوراق الحل بيد أميركا.. وإلخ، لتصبح الإدارة الأمريكيّة العراب الحصري للتسوية؛ تحت مسمى "السلام" مقدّمةً لفرض القبول بدولة "إسرائيل"؛ بينما في الحقيقة التي نعلمها أنّه لا يمكن الفصل بين جناحَي هذه المعادلة، كونها استراتيجيّةً صهيو/أمريكية واحدة، تأتي امتدادًا لاستراتيجيّةٍ قديمةٍ في جوهرها، وجديدةٍ في أسلوبِ إدارتها، وفرادتها، لناحية تقويض المفاهيم التقليديّة للتسوية، والتطبيق الأحادي الذي يتم فرضُهُ من طرفٍ واحد، يعدّ نفسه منتصرًا على طرفٍ مهزوم، وفقَ استراتيجيّةٍ تمتلكُ ذات الركائز، ولكنّها تعتمدُ سياسةَ الإكراهِ التام لإجبار المخالفين على القبول، مع الاحتفاظ بثباتِ الهدف؛ وهو ليس تسويةً عادلةً للقضيةِ الفلسطينية بل تدميرها؛ تمهيدًا لإغلاق ملف القضيّة الفلسطينيّة إلى الأبد، وإنهاء فكرة فلسطين.
الحصيلة: إنّ منطق سياسة الحلّ السلميّ مع الكيان الصهيوني، تحت مسمى السلام مقدّمةً لقبول التعايش مع أيديولوجيّةٍ إقصائيّةٍ يجسّدها الكيان الصهيوني العنصري.
التطبيعُ وكذبة التنمية:
المنطقةُ على أساس "السلام الاقتصادي"، ونذكرُ ما قاله وزيرُ خارجيّتها الأسبق أبا إيبان "إنّ إسرائيل ترغب أن تكون علاقتها بالدول العربيّة كعلاقة الولايات المتّحدة بأميركا اللاتينية"، وبالقدر الذي تتحوّل فيه إلى إمبرياليّةٍ تحتاج إلى أميركا لاتينية خاصة بها. الأخطرُ من الذين ينظرون للكيان الصهيوني كيانًا حضاريًّا ونموذجًا عقلانيًّا وديمقراطيًّا، يجب أن يحتذى به! الذين يصدقون أنّها ستوزّع قيم الديمقراطيّة وأنّها الوكيل المعتمد للتكنولوجيا والشريك في السوق والأمن وحماية الإنسان، هؤلاء الدونيون الذين يكرهون أنفسهم ويهجون ذواتهم العربية هم الذين يجعلون إسرائيل، إسرائيل التي نعرفها. الأشدّ خطرًا هو السلوكُ الوضيع يجيد تضخيم إيجابيّات الآخر وتقزيم الذات، وكذلك الذين يروجون للتطبيع وكأنّه "الحلّ النهائي" لمشكلاتنا المزمنة! وأنّ العلاقةَ معها مسألةٌ سياديّةٌ خاصة، وتحوّلت إلى خيارٍ جماعيٍّ واستراتيجيّ، الذي أسس مسبقًا لنهجٍ سياسيٍّ محكومٍ بالهدف وليس التفاصيل أو المعايير، فقد يصحُّ وصف الكاتب الفرنسي "ألان غريش" عن آخر ما خطّطت الإمبرياليّةُ الأمريكيّةُ تحت مسمى صفقة القرن: "أنّها أسطورة بوزن أيديولوجي" على حد قوله. هذا النسق السياسي الذي تمكّن من شقّ مجرى تاريخيٍّ أُطلق عليه "خيار السلام الاستراتيجي" جرت مراكمته منذ النكبة عام 1948، ويوم كان الجرحُ ما يزال طريًّا، أطلقت الولاياتُ المتّحدةُ ما سمي بمشروع جونستون عام 1953 لحلِّ المشكلةِ الفلسطينيّة، وكانت قد تحدّثتْ عن مشكلتي "البؤس" و"الخوف"، وأنّ حلَّ مشكلةِ بؤس مليون لاجئ يكون بإعادة توطينهم من خلال مشاريع التنمية، وإزالة "الخوف" عن دول المنطقة يكون بالأمن للجميع ومن خلال "الأحلاف" وهذا يحتاج إلى "الاعتراف" بوجود "إسرائيل" جزءًا من المنطقة؛ تمهيدًا لدمجها في هيكل النظام العربي. كذلك باستخدام الإغراء الاقتصادي، كما جرى في ورشة "المنامة" 2019 حول الاستثمار والازدهار؛ الذي يجسّد حقيقة المصالح الطبقيّة لأطرافِ الحلف الإمبريالي، ومن نافل القول: إنّ المسار الاقتصادي كان دائمًا الخطّ الموازي للمسار السياسي، لتشكيل القاعدة الماديّة لأيّ تحالفٍ سياسي، كما جرى طرحه في كافة مشاريع التسوية، هكذا من مدريد 1991 إلى خطة خارطة الطريق 2003، والحديث مجدّدًا عن السلام الاقتصادي لنتذكر وعود "كامب ديفيد" للمصريين بالرّخاء أو في أوسلو بتحويل غزة إلى سنغافورة الشرق... جميع الوعود استخدمت فيها نكهة الدسم، لتخفي طعم السم.
الحصيلة: سياسةُ السلام الاقتصادي خيارًا استراتيجيًّا هو شكل التبعية والهيمنة التي اعتمدت عليها الإمبرياليّة الأمريكية لتشديد قبضتها على الدول العربيّة وتكريس الكيان إمبرياليّةً صغرى بتوابعَ وملحقاتٍ رجعيّةٍ من أنظمةٍ حاكمة، التي مهّدت لحروبها على المنطقة ولإعادة رسم خرائط المنطقة السياسية والجغرافية في طورٍ جديدٍ موسّعٍ ومكثّفٍ من أطوار المشروع الاستعماري الغربي القديم المجدّد لمنطقتنا.
التطبيعُ تخلي عن فلسطين وليس من أجلها
توضّحُ العباراتُ العنصريّةُ التي يرفعها المستوطنون "الموت للعرب" في ظلّ التطبيع مع العرب! الحقيقة النهائيّة في الصّراع القائم: أن الاعتراف بالآخر يعني تلقائيًّا إنكار الذات نهائيًّا، وهذه الميزةُ نادرةٌ في التاريخ الإنساني، وإن كانت الشواهد الطبيعية كثيرة، حيث يتحوّل الكيان إلى خطرٍ مضاعفٍ وشاذ، غارقٍ في عنصريّته وفاشيته، يزداد التعبير عن حقيقته بشكلٍ متصاعد، ويمارس الأيديولوجيا كلما حقّق اختراقًا في الحالة العربية؛ لذلك خطر التطبيع على القضية الفلسطينيّة لم يتوقف، بل إن الاحتلال ازداد فاشية، وعدوانيّةً ولم يوقفه المطبعون، الذين يبررون سياستهم بلوم من يقاوم الاحتلال، وليس الاحتلال..
لذلك استُحدثت عباراتٌ أمريكيّةُ الصنعِ من نوع الانتظام بقواعد النظام الدولي، التي برزت مؤخّرًا بعد الحرب الأوكرانية، وصولًا إلى "تقليص الصراع"، الالتزام بالشرعية الدولية، وتحسين العيش، والثمن يكون بقبول الاحتلال منقذًا؛ المقام الأول علي استرضاء أمريكا وتقديم التنازلات لها وإثبات الإخلاص والحرص على مصالحها (التي هي مصالحُ استعماريّةٌ في الأساس)، بحجّة حفزها للضغط على إسرائيل لتنسحب من الأراضي العربيّة المحتلّة، بينما حدث العكس، كان "القبول" مسألةً سياسيّة، التسليم بمستعمرةٍ غربيّةٍ اسمها "إسرائيل" زرعت في فلسطين التاريخيّة، بدعوى زائفةٍ صاغتها الصهيونيّةُ وأسّست أيديولوجيتها لمستعمرةٍ زاعمة، حق امتلاك كامل التراب الفلسطيني.
إنّ ما يجري من محاولاتٍ لتطبيع العقل العربي على القبول بالمؤقّت بوصفه الحلَّ النهائي، والكيان الغريب بوصفه القريب، والاستثنائي كأنّه الطبيعي، والعدوّ الذي صار صديقًا، أي الانتقال من التسوية إلى التصفية، والتطبيع هو ترويجٌ للوهم الذي سينهي المشكلة كما يتوهّم أصحابه، بدايةً لتصفية الركائز التاريخيّة المكوِّنة للقضيّة الفلسطينيّة، تتويجًا لمسارٍ طويلٍ قبل ومع اتّفاقات "أوسلو" ذاتها، قُدّمت فيه تنازلاتٌ كبرى، أهمّها الاعتراف بحقّ "إسرائيل" في الوجود، تلك السابقة التي تتناغمُ مع سلسلةٍ من التواطؤ والخيانة والعجز العربيّ العام، من تحويلٍ للصراع وتدمير الهدف الجامع والمركزي ويتحوّل العدوّ المشترك إلى الصديق، مستندًا إلى أنظمةٍ رجعيّةٍ ملهوفةٍ لطي ملف "المرحلة الانتقاليّة" نحو المرحلة النهائيّة أي بالتصفية، ذلك بالاعتماد على ما انتهت إليه اتفاقات أوسلو من خرابٍ وطنيٍّ ومؤسساتيّ وانتهاكاتٍ وتنازلاتٍ وتنسيقٍ أمنيٍّ وتبعيّةٍ اقتصاديّةٍ وانقسامٍ سلطويٍّ وشتاتٍ جديد.
الحصيلة: التسليمُ بالكيان الصهيوني في فلسطين، وهو ما يعني التسليم باغتصاب فلسطين والقبول بالتعايش مع قاعدة الاستعمار الأمريكي والعالمي في المنطقة، والقبول بالسيطرة الإمبرياليّة على البلاد العربيّة التي أقام الاستعمار العالمي إسرائيل على أراضي أحدها، لتكون الأداة البديلة المتقدّمة لفرض خضوع المنطقة العربيّة والإقليم لها، هذه هي سيرةُ الدولة الصهيونيّة حتّى الآن.
من الربيعِ العربيِّ إلى التطبيعِ العربيّ
المتلازمةُ الأخرى بين التطبيع والربيع، كأنّه لزامٌ على الحلم الديمقراطيّ في العالم العربي أن يقترن بالتطبيع مع الدولة اليهودية، وأن الدعوة إلى الربيع لا بدّ أن تنتهي إلى التطبيع! شرط انفتاح الثقافة العربيّة على أفق العالميّة مرتبط بـ"الإسرائيلي" رمزًا محليًّا للثقافة الغربيّة.
استراتيجيّةٌ مدروسةٌ استخدمت "الفوضى الخلّاقة"، التي بدأتْ بُعيدَ احتلالِ العراق واستؤنفت لمصادرة "الربيع العربي" وحرفه عن مساره، والعمل على تفكيك الدول المركزيّة، حيث أمكن، مستغلة غياب المشروع العربي الجامع وفشل الدولة الوطنية، من خلال شن حروب مباشرة أو بينية، أو بالوكالة أو بالاحتواء المزدوج، ثم لدفع ديناميات التدمير الذاتي وباستخدام وسائل متعددة منها فرق التطرف والإرهاب الداعي لتمزيق النسيج الاجتماعي، وتحويلها إلى دويلات إثنية وطائفية وعشائرية، لخلق قضايا لكل بلد عربي، لخلع فلسطين من هموم الشعوب العربية، واعتبار قضية فلسطين وليس "إسرائيل"، السبب وراء أزمات المنطقة، وأنها النتيجة لوجود الكيان الصهيوني في قلب الأمة! وذلك لتوفير البيئة الاستراتيجية الملائمة التي لا تستهدف قُطْرًا عربيًّا بعينه أو فلسطين وحدها، بل تنعكس على الجميع وتستهدف شعوب المنطقة العربية بمجملها، تكشف تلك الوقائع، وغيرها الكثير، عن أن إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة في الشرق الأوسط، خاصة الدول العربية، كان هدفا رئيسيا للجماعة الأورو-أطلسية، منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين، سياسة تضرب مشروع الدولة وتدفعُ إلى إدامةِ فشلها، وإعادةِ إنتاجِ الفشل بأشكالٍ مختلفةٍ أكثرَ حدّة، وأخطرَ أثرًا، من أجل إعادة تشكيلٍ إقليميٍّ للمنطقة، يكون للكيان القوّة الإقليميّة السائدة في المنطقة "ناتو عربي"، لتشنّ هجومًا بأشكالٍ متعددةٍ من التطبيع، لاختراق الوعي العربي وترسيخ ثقافة الهزيمة التي تتبنى الرواية الصهيونية، بديلًا للرواية الفلسطينيّة ومعاداة الحقوق الفلسطينية. الثقافة البديلة هي ثقافةُ شرق أوسطية متفاعلة أم ستؤسس لقيادة ثقافية إسرائيلية غربية تحت غطاء السلام الإبراهيمي؟
جو بايدن من التطبيع إلى الصهينة!
"ليس شرطًا أن يكون المرءُ يهوديًّا حتى يصبح صهيونيًّا" بهذا القول الرئيسُ الأمريكي بايدن في أوّل كلمةٍ له في مطار اللد، يوم 13-7-2022، يبوح بأنه أصبح عضوًا بارزًا في الحركة الصهيونيّة اللايهوديّة، ممكن أن ينتمي لها من يخدم مشروعها مهما كان دينه أو هُويّته! يبدو أنّه لم يسمع أنّ هناك يهودًا ضد الصهيونية، بما أن اعتناقها يعني العنصرية والديكتاتورية والفاشية! ولم يشاهد الشعار الذي رفع في وجهه على أرض فلسطين (أهلا بكم في دولة الأبرتهايد)!
إذن، ما قاله بايدن هو حقيقة التطبيع بل إعلان مرجعيته العقائدية، أو كشف فيه العمق الطبقي للتطبيع كما البعد الأيديولوجي، فصار التطبيع هو الاسم الحركي للتصهين! الذي هو تداخل في المشروع الاستعماري الغربي كما وصفه المفكر الراحل د. عبد الوهاب المسيري: إن مصطلح "صهيونية" نفسه لم يكن قد تم سكه، إلا بعد تبلور الهجمة الإمبريالية الغربية على الشرق، ومع تبلور الفكر المعادي لليهود في الغرب، وبعد المؤتمر الصهيوني الأول (1897) في بازل، تحدد المصطلح، ويشير إلى الدعوة التي تبشر بها المنظمة الصهيونية وإلى الجهود التي تبذلها، وأصبح الصهيوني هو من يؤمن ببرنامج أو مشروع "بازل" الذي لم يتحقق إلا من داخل مشروعٍ استعماريٍّ غربي.
الرئيس الأمريكي واعترافه بالانتماء للحركة الصهيونيّة، لم يعد مؤهّلًا لصياغة السلام، كما بدى من جولته الأخيرة، يسعى لضبط إيقاع الحلفاء، المغلفة بلغةٍ اقتصاديّةٍ باستخدامٍ رخيصٍ للدبلوماسية الروحيّة من طراز "السلام الإبراهيمي". هذه الاتفاقات التي تأتي في سياق ما يسمى "التلاعب بالرموز"، كما يصفها هربرت شيلر، "يمارس بمهارةٍ فائقة، وبصورةٍ مكثّفةٍ على أيدي خبراء متخصصين في صناعة الصورة من أجل خلق مناخٍ مواتٍ من الآراء"، وتسريبِ سياسةٍ صادمةٍ بأبعادٍ استراتيجيّةٍ التي تبرّرها ثقافة التطبيع. السياسة الخارجية للرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، تختلف تكتيكيًّا عن سياسة سلفه دونالد ترامب، لجهة إعادة تقديره لحلفاء الولايات المتحدة، لكنها ثابتة بالمعنى الاستراتيجي، وبوسائل أخرى، وليست خارج سياقها، وليس بديلًا عنها أو منفصلًا عنها، بل هو الوجه الحقيقي للإمبريالية دون رتوش. فقد استمر جو بايدن بالنظر إلى الشرق الأوسط الكبير بأنه مكان لـ "الحروب الأبدية"! رغم هذا الدعم اللامحدود للكيان، فقدان البعض لمعنى المقاومة وغايتها، مع ذلك يبدأ الحديثُ من السؤال الاستراتيجي المطروح حول: لماذا لم يتمكن الكيان من تصفية قضية فلسطين؟ أو أقلها: لماذا لم يتوصل إلى تسويةٍ نهائيّةٍ مع الفلسطينيين؟
مع الوعود العابرة لكل الرؤساء، وذلك بتقديم الإجابة الصهيونية المتكئة على واقع التمزق الفلسطيني - الفلسطيني، والعربي – العربي، حين تعتبر أن مسألة الاعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، كما وصفها بالشيء الجيد، بإزالة هذه العقبة من على طاولة المفاوضات. في كل مرة، كانت هناك محادثات سلام، فإنهم لم يتمكّنوا أبدًا من تجاوز أن تكون القدس هي العاصمة، وضمن المنطق نفسه، وصف جو بايدن المتطلبات الفلسطينية الضرورية أنها "معجزة تحتاج للسيد المسيح". إنهم يعتبرون "حق العودة" "عقبة" أخرى في طريق "السلام"، وكذلك المؤسسات الدولية التي تحمي قضية اللاجئين مثل "أونروا"، والتي تمارس بعض الدول ومنها عربية أن "تسهيل" التوصل لاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يكون بتنفيذ لهذه السياسة الأمريكية الصهيونية.
باختصار شديد، الوضع الراهن من الصراعات يتمحور حول تزييف الحقائق عبر التسويق الذي جرى باسم "سلام أبناء إبراهيم"، تزوير واضح للتاريخ وطبيعة الصراع الدائر في المنطقة بين التحالف الإمبريالي - الصهيوني - الرجعي، وقوى المقاومة والتحرر الوطنية والشعبية.
شرق أوسط أكثر اندماجًا
في 12 أكتوبر من العام الحالي 2022 أعلن البيت الأبيض عن وثيقة من 48 صفحة، تحدد سياسة الأمن القومي الأمريكي لنهاية إدارة بايدن والتي تقر بتحول كبير في السياسة الدولية، وتدعو الاستراتيجية الجديدةُ إلى وقف التصعيد في الشرق الأوسط، وإلى التكامل الاقتصادي في المنطقة، وقد انتقدت اعتماَد السياسِة الخارجيِة الأمريكيِة على استخدام القوة العسكرية. وترِكز الاستراتيجية على تحديد خطوات لتعزيز مصالح واشنطن، ومساعدة شركائها الإقليميين على إرساء أسس الاستقرار والازدهار.
وتجِدد الاستراتيجية الالتزام "الصارم" بأمن "اسرائيل"، وتتعَّهد بتوسيع وتعميق علاقات "إسرائيل" "المتنامية" مع الدول َالعربية، وتؤكد دعمها لاتفاقات "إبراهام" والحفاظ عليها، وتشير الوثيقة "تلبية حاجات الفلسطينيين إلى دولة آمنة وواقعية "، كما تأكد مبدأ حل الدولتين كأساس للتسوية "الصراع العربي - الإسرائيلي"، مع التأكيد على عدم وجود حل عسكري لأزمات المنطقة، كما تدعو إلى "شرق أوسط أكثر اندماجًا" من شأنه أن يقلِّل على المدى البعيد "مطالب الموارد" من الولايات المتحدة التي تضعها في المنطقة والتي "وفرّت حماية للدول المنتجة للنفط على مدار عقود". إذن، فدور الولايات المتحدة يقوم بحماية الكيان كصاحب اليد العليا في الإقليم؛ ليكون الدولة الإقليمية العظمى.
الحصاد الصهيوني في ظلال التطبيع
1. ارتفعت مؤشّراتُ الاختراقاتِ الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة للمنطقة التي تهدفُ إلى خلقِ أمرٍ واقعٍ لا يمكن رفضُه، يحقّقُ ما تريده "إسرائيل" ويكمل الإجهاز على الحقوق الفلسطينية والعربية. والصفقة تُعدّ فرصةً للتطبيع مع جزءٍ مهمٍّ من العالم العربيّ لتطويع من لا يزال يرفض علنيًّا الاعتراف بشرعيّة المشروع الصهيونيّ والتعامل معه، وتزايد الهجوم التطبيعي بين الدول العربيّة و"إسرائيل"، كترجماتٍ من خلال الزيارات الرسميّة أو الفنيّة أو الرياضيّة أو حتّى السياحيّة، بالإضافة إلى اللقاءاتِ السريّة وترويج السياسة الإسرائيليّة التي تفضّل التطبيع قبل تحقيق السّلام. فقد بلغ التبادل التجاري بين الإمارات وإسرائيل أرقامًا كبيرةً خلال العامين الماضيين، وسط تأكيد مسؤولي الجانبين رغبتهم في ترسيخ العلاقات الاقتصادية.
وحول ذلك كشف مندوب "إسرائيل" لدى الأمم المتحدة جلعاد أردان، في 26 يوليو، أن التجارة بين دولة الاحتلال والإمارات تجاوزت مليار دولار، في النصف الأول من العام الحالي. وكان مدير معهد "السلام لاتفاقيات أبراهام"، آشر فريدمان، أكّدَ أنّ التجارة بين "إسرائيل" ودولٍ عربيّة، بينها الإمارات والبحرين، شهدت زيادةً قياسيّةً خلالَ عامٍ واحد، في ظلِّ الاتفاقيّاتِ الاقتصاديّةِ الكثيرة التي أبرمت منذ التطبيع بين الطرفين.
متابعةُ عمليّة التطبيع وحجم التجارة العربية "الإسرائيلية" تكشف عن مدى التناغم الرسمي مع الرؤية الأمريكيّة، المتمثلة بأولوية التطبيع على السّلام، حيث تشير الأرقام بأن حجم التجارة بين الخليج و"إسرائيل" وصل إلى حوالي مليار دولار، عن طريق طرف ثالث ( الأردن أو تركيا وأحيانًا الاتحاد الأوروبي). وبلغت الصادرات "الإسرائيلية" للدول العربية نسبة (10%) من مجمل صادراتها.
يفسّر الانفتاح التجاري، حجم التعاطي الرجعي العربي مع مؤتمر البحرين، على الرغم من كل الضجيج الذي صاحبه، رغم أن نظام البحرين يؤدّي دورًا محوريًّا في عملية التطبيع، واستخدمت اختبارًا إن كان بمقدور دول على قائمة الانتظار يمكنها القيام بخطوة التطبيع رسميًّا، دون وجود حركاتٍ مناهضةٍ داخلها، بعد أن استنكره قطاعٌ كبيرٌ من الشعب العربي في الخليج المناصر للقضية الفلسطينية.
2. مسارعة بعض الأنظمة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، رغم قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وموضوع ضم الجولان، وهذا يؤكّد أنّ بعض النظامِ العربي يعتقدُ أنّ شرعيته تأتي من إدارة ترامب، هو نظامٌ بشكلٍ أو بآخر مناهضٌ للمصالح العربيّة، دون إغفال أشكال التطبيع الأخرى التي تبدأ من تفعيل استراتيجية «التلاعب بالوعي» التي تُستخدم فيها وسائل القوة الناعمة لتحقيق الاختراق والسيطرة واحتلال العقل وصولًا إلى قتل ثقافة المقاومة، لترسيخ ثقافة الهزيمة وما يعكس عقدة الشرعية أو متلازمة القلق الوجودي لدى الكيان، حيث إن الجدار نفسي أكثر منه أمني، وكما أوصى شيمون بيرز بـ (الحدود الآمنة ليست بديلا للعمق الآمن)، وأنها تبدأ من لقاح العبقرية اليهودية مع المال العربي، وحلمه في شرق أَوْسَط جديد تقودُه تل أبيب.
3. بدأ الكيانُ الصهيونيُّ يستقوي بالإقليمي على الفلسطيني، بهدف تجديد اتفاق أوسلو، إلى "أوسلو عربي" جماعي بتنسيق أمني عربي – إسرائيلي، والذي يتم تعريفه في نطاق الاستراتيجية الأمريكية بـ "ميثاق الشرق الأوسط"، أي عقد اجتماعي عصري للمنطقة، لمواجهة ما أسمته بالتحديات الجيو- سياسية والتحديات التنموية، وحتماً سيمر من مدخل زعزعة أمن وَاستقرار دول المنطقة لتسهيل تقسيمها، بما يتيح المجال لإجراء إصلاح عميق للدول في المنطقة كما تدعي، وتشترط الاستراتيجية الأمريكية "الجديدة"! إنشاء صندوق التنمية لإعادة الإعمار والإصلاح، وعلى الدول الإقليميّة النفطية تمويل هذا الصندوق.
4. استراتيجيّةٌ معاكسةٌ أو السلام المعكوس "الحل الخارجي بغطاء داخلي" التي تتوافق مع إرادة أمريكية تشن هجومًا لتصفية قضية اللاجئين، كونها الركيزة الأساسية في الصراع، التي بدأت باعتبار تأجيل البت بها في اتفاقات أوسلو، يعني الاستعداد من قبل فريق أوسلو للتنازل عن هذه القضية وأن ما يهمها فقط هو حلٌّ رمزي، وتعويضٌ لمن لا يمكنه العودة. وقد استخدمتها الولايات المتحدة من خلال الضغط على الدول المضيفة للاجئين بضرورة تحمل مسؤوليتها إزاء اللاجئين على أراضيها واستيعابهم في نطاق الحلول التنموية المدفوعة الأجر وتوطينهم في مكان الإقامة، وتبرأة دولة "إسرائيل" من المسؤولية وأنها ليست وحدها معنية بحل هذه المشكلة، حين اتهمها رئيس وزراء العدو: "أن الأونروا قامت بتخليد قضية اللاجئين لا حلها" وحلها تعني بمفهومه "تصفيتها". ثم ذهبت إلى شيطنة إدارتها واتهامها بالفساد بهدف ضرب مصداقيتها وحقيقة دورها التشغيلي للاجئين الفلسطينيين وليبرر الدعوة إلى تجفيف موارد الأونروا مؤسّسةً راعيةً للاجئين والضغط على باقي الدول المانحة لوقف الدعم لها، وبدعوتها إلى تغيير هيكليتها ووظيفتها وإعادة تعريف من هو اللاجئ، واختزال العدد بمن ولد في فلسطين فقط وليس أترابهم وأحفادهم كما هو التعريف الأممي حسب الأمم المتحدة، بما يعني شطب المسجلين كلاجئين من سجلاتها وسحب الاعتراف بحقهم الشرعي بالعودة. علما أن مؤسسة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" تأسست بفعل القرار الأممي 194 القاضي بتحقيق حق العودة للفلسطينيين، التي دعت وزير خارجية الولايات المتحدة أن يصف الأونروا "الضمادة" التي وضعت على جرح قديم وحان الوقت لنزعها، وكذلك الضغط الاقتصادي على الدولة المضيفة لإجبارها على نزع صفة اللاجئ عن الفلسطينيين المقيمين فيها.
5. المناعةُ الاستراتيجيّة، شكّلت توجيهًا استراتيجيًّا لمشروع صفقة القرن، يمكن استشعاره بما طرحه أحد قادة الصهاينة في سؤال محوري في مؤتمر "هرتزليا" الذي يعقد سنويًّا وينكب على التفكير الاستراتيجي تحت اسم (المناعة القومية) يقول: لماذا لم نتوصل حتى الآن إلى تسويةٍ نهائيّةٍ مع الفلسطينيين؟ الأجوبة تتقاطع حول ضرورة تصحيح مبدأ التسوية، وأن الخطأ يبدأ من المقولة التقليدية "الأرض مقابل السلام" وأنه لا يجوز مبادلة الأرض بالسلام، إنّما السلام بالسلام، أي الأمن بالأمن.
وتشعّبت الإجابات؛ إنّ التسوية النهائيّة لا يستطيع الطرف الفلسطيني بمفرده أن يقدم على التنازل بشأنها، دون غطاءٍ خارجيٍّ عربي، أي حلّ "داخلي بغطاءٍ خارجي" مثلًا الضفة الغربية التي تضاعف الاستيطان فيها وخاصة في زمن أوسلو، حتى بلغ عدد المستوطنين نحو 750 ألف مستوطن، وتحوّلت فيها التجمّعات الفلسطينيّة إلى جزرٍ معزولة، الاستيطانُ هو البديلُ للدولة الفلسطينيّة ومشروع استيطاني يطال كل الأرض، ويضع شعب فلسطين تحت الاحتلال الكامل، لا دولة واحدة بقوميتين أو بشعبين أو دولتين لشعبين أو حل الدولتين ممكن! تعميق بنية الاحتلال وإثقال كاهل الإنسان الفلسطيني بالديون التي تفوق 4 مليارات دولار وبنظام تبعية وإلحاق وضرائب وسلب موارد وتدنِّي بمستوى المعيشة، أسوأ مما كان قبل أوسلو.
لذلك، فإنّ صيغةَ الحلِّ في الضفة الغربيّة لا يمكن أن تقوم بمعزل عن الأردن، ويفصح عنها السفير الأميركي في الكيان صراحة بقوله: "الاحتلال المزعوم للضفة الغربية".
إنّ النهجَ الاستراتيجيّ الصهيونيّ أصبحَ محورًا محرّكًا في صفقة القرن، ونرى حجم الصراع السياسي الدائر اليوم بين صناع القرار في الكيان الصهيوني حول تبعات وأبعاد هذا الضمّ.
6. استراتيجيّةٌ موازية، كان يشترط على البدء بأي مفوضاتٍ ضرورة اعتراف الجانب الفلسطيني بإسرائيل دولةً يهوديّة، هذه المرة الاعتراف بهم بأنهم دولةٌ يهوديّة، بل الاعتراف جاء بقانونٍ داخليٍّ ومباركةٍ أمريكيّةٍ موازية، حيث أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانونًا بصف "إسرائيل" بأنّها "دولةٌ يهوديّة" بشكلٍ رئيسيّ، تحت مسمى قانون "الدولة القوميّة" اليهوديّة، وإنّ لليهود حق فريد بتقرير مصيرهم، كما يجعل من العبرية اللغة الأساسية للدولة، مهمّشًا استخدام العربيّة التي كانت تعد لغةً ثانيةً في الدولة. علمًا أنّ العنصريّةَ ممارسةً لم تبدأ من إقرار هذا القانون، فهي مرتبطة عضويًّا بالإيديولوجية الصهيونية، وتحولت الآن إلى قانونٍ رسميٍّ للدولة، وبهذا يكون قانون القومية قد مزّق قناع الديمقراطية الخادع، والذي وضع الكيان أمام المقارنة الواضحة مع نظام التمييز العنصري البغيض بطابعة الاستئصالي، متفوّقًا على الذي ساد في جنوب أفريقيا الذي وضَع الفلسطينيين في مناطق 1948 بين الولاء للاحتلال أو الانتماء لفلسطين! وأشعل التناقض بين الوطنية والمواطنة، الوطنية تعني الهوية العربية الفلسطينية والمواطنة تعني الولاء لدولة الكيان، والذي بتنا نسمع علانية خطاب يميني متطرف يقسمهم بين "العرب غير الموالين، والعرب الموالين".
ودون أن ننسى انتزاع اعتراف أميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السورية، جرعة أخرى للتوغل الصهيوني بالمنطقة، التي تقع في نطاق الأهمية الاستراتيجية، ودلالتها أن مساحة الجولان تبلغ نحو 1860 كليو متر مربع فقط، إلا أنها تتمتع باستراتيجية استثنائية لمن يسيطر عليها، إذ تسمح جغرافيتها وقممها المرتفعة بالإشراف على العاصمة دمشق شرقاً، وعلى سائر المدن وسط وغرب إسرائيل وكانت المدفعية السورية تدك منها شمال فلسطين المحتلة بين عامي 1948 و1967. وتطل الجولان على مناطق في الأردن ولبنان، ومن يسيطر عسكريًّا عليها يُمكنه أن يطال أي مكانٍ حتى بأبسط الأسلحة التقليدية، كما تضم حوض نهر الأردن وبحيرة طبريا ونهر اليرموك ومستودعات المياه الجوفية.
7. التكيُّف الاستراتيجي، خصخصة القوة، لا تختلف عما سبق، لكنها في عهد ترامب باتت أكثر فجاجةً في إظهار نهجها الإمبراطوري للسيطرة على المنطقة، بقدر ما توفره من منافعَ اقتصاديّة، والدور المناط بها دولةً كبرى في تحديد سعر النفط وتأثيره على الصعيد الاقتصادي العالمي والتوازنات الدولية والأهم حماية الدولة العبرية، لذلك من الطبيعي أن يتحدّد محور الصفقة بمحور الصّراع، وأن تتخذ محاور الصفقة حدود المنطقة وأبعاد عالميّة.
لم تكن صفقةُ القرنِ سوى "مؤامرة القرن" كونها تمتلك استراتيجيّة عمل خفية، غير معلنة، إذا اتفقنا أن الحرب الجديدة لم تعد فقط "امتدادًا للسياسة وبوسائل أخرى"، حسب مقولة كلاوزفيتس، والجديد أنه يمكن أن تكون السياسة امتدادًا للحرب أو حرب بأسلحة أخرى. فالحروب الناعمة أعطت مفعولًا تدميريًّا لم يحدثها السلاح التقليدي وأدّت إلى نتائج الحرب الكلاسيكيّة ذاتها، بل استخدمت الدبلوماسيّة القهريّة والحرب الاقتصاديّة و"القتل بألف طعنة" وحرب الظلال الأمنيّة.
ما بين الكلام عن الحلّ الشامل والصراع الشامل، يستدعي هذا الشكل من الحرب حاجة المنطقة إلى قوى خارجية، يريد أن يغيّر صورة الاستعماري المتسيّد أو الغازي أو الشرطي كما أشاعته الحرب التقليدية في ذهنيّة شعوب المنطقة إلى الاستعماري الميسّر أو المساعد في بناء نظامٍ إقليميّ، للأطراف الفاعلة تؤدي دورًا جديدًا مختلفًا وكما تعرفها من خلال الحلّ الإقليمي الذي هو الحلف الاقليمي، يكون فيها عدو العرب على رأس الحلف، الذي يجسّد بشكل عملي التحالف الإمبريالي - الكيان الصهيوني - والنظام الرجعي/الخليجي.
حقائق الصراع وخيارات المواجهة
عودٌ على بدءٍ؛ لماذا لم نصل إلى الحل النهائي مع الفلسطينيين؟
في إجابة فريدة لأحد قادة العدو قال: إن السلام يفعله الانتصار وإسرائيل لم تنتصر منذ حرب الـ 67! بل هو عائد إلى وجود مقومات المقاومة التي يمكن تبيانها من خلال حقائق يُؤسَّس عليها:
1. استحالة هزيمة الشعب الفلسطيني، كونه صاحب البلد ويمثل الحقيقة والحق التاريخي والوطني في فلسطين، الحق الذي لا يمكن اقتلاعه من أعماق الأجيال المتعاقبة، وبرهن خلال سنوات الصراع تمسّكه بشرعية البقاء فيها وحق المقاومة من أجلها والسعي إلى تحريرها والعودة إليها، وما يجري من تمرّد وثورة في وجدان الشعب له بُنيته وبيئته الاجتماعية وخاصة في أوساط الجيل الجديد، وظلّ في حالة اشتباك يومي وتلقائي وانتفاضة متجددة، تتدحرج على موجات، منذ شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2015، أطلقت عليها تسمية انتفاضة الشباب، فقد سجل عام 2021 تنفيذ أكثر من 4000 فعل مقاوم في الضفة، هذا يدل على تنامي مشروع المقاومة بالضفة.. تمدد كتائبها من جنين إلى نابلس إلى الخليل.
2. موضوعية الصراع التي لا تقيدها أو تطلقها رغبات الأفراد أو الزعامات، ولا النوايا الطيبة أو السيئة على حد سواء، ولا تنتظر تراتبية هذا الفصيل أو ذاك أو رتبة هذا القائد ووظيفة آخر، ولا الدوران في حلقة مفرغة من العجز بين إصدار القرار وتنفيذه، ولا الفجوة القائمة بين الوطن والمؤسسة وبين البنية والهدف والقدرة والرغبة، إنها موضوعية صراع دائمة الفعل والتفاعل في الحراك الجذري والعميق في الضمير والذاكرة الجمعية العربية بما تحويه من خزين هائل. إن ارتفاع نسبة الخطر على الوجود يشكّل قوة الدفع الأساسية والموضوعية المسبّبة للصراع التاريخي مع العدو، وهي السر الذي يقف خلف طبيعة الأشكال المتنوعة من الاشتباك المجتمعي التاريخي والمقاومة الشاملة والمتنامية والطبيعية.
3. الصراع يدور مع كيان يسير عكس اتجاه التاريخ والقانون والإنسانية، وهو يستعيد اللغة الشاذة والممارسات العنصرية، مثل: "نقاء الدولة" و"يهودية الدولة" و"دولة لليهود"، بل هناك من يقول: أن الاعتراف لا يكون فقط بإسرائيل "دولة اليهود"، بل تطبيق جوهر الصهيونية، ليس دولة يهودية في أرض إسرائيل، بل وطن يهودي في أرض إسرائيل. الحديث عن مجتمع يهودي مزدهر ومهيمن يوفر لليهود الملجأ، ويثري العالم اليهودي بأكمله تكون وظيفته عابرة للحدود، مهمتها كامتداد امبريالي في المنطقة، ليتحول شعار "إسرائيل الكبرى" إلى "الدولة الإقليميةً العظمى".
4. هذه صورة عن "الما بعد صهيونية" الأكثر فاشية، بل الاستراتيجية الأكثر جذرية للصهيونية، والتي هي بنظرنا حفارة قبورها، مثل جرعة أيديولوجية زائدة، من شأنها أن تقتل صاحبها. إن غياب الشعور بالسلام النفسي والقلق الوجودي لدى الكيان، هنا تصبح مهمة المقاومة في الإطباق الأمني برفع كلفة وجود الاحتلال، وهذا ما يفسر إذكاء وحشية وشراسة الصهيونية في التعامل مع الفلسطينيين، وهذا سيسهم في تأجيج الصراع ولا ينهيه ويجدد العداء للكيان وعزله عالميًّا كنظام إحلالي عنصري.
"وإن نقاط القوة لدى العدو هي ذاتها النقاط التي نستطيع تحويلها نقاط ضعف ومقتل، فهو يعمل بسياسته العدوانية العنصرية على خلق حفارة قبره.. ويبرهن بالملموس أنه يسير عكس اتجاه التاريخ" ( جورج حبش ).
خيارات وتحديات استراتيجية جديدة
لقد استعانت "إسرائيل" بالأنظمة الرجعية على فلسطين، ولكن أي استراتيجية جديدة للمواجهة وفي ظل صعود الزمن التاريخي للمقاومة على أرض فلسطين أن يمارس دوراً في استنهاض الحالة الشعبية العربية، إلا أن شروط المواجهة لا تتحقّق بصورة تلقائية وبفعل القوانين الموضوعية فقط، بل إن الأمر بحاجة إلى حركة تحرر وطني فلسطيني وعربي.
من وكيف ستسقط سياسة التطبيع؟
استعادةُ المسألةِ التاريخية: وهي في الجوهرِ الهُويّة، أي القدرة على امتلاكِ التاريخ واستنطاقه وكتابته هي القدرة على إبراز الهوية وفهم رسالتها، حكماً ليس بالشعارات، ولا سياسة الاستجداء، ولا خطاب ناري يكرر رفضها، سيظل هذا الموقف ناقصاً في ظل غياب الشروط والفاعلية المطلوبة لتحقيق ذلك، مبدئياً تتحدد عبر هويتنا ورسالتنا. الهوية ليست عرقًا أو دينًا أو نظامًا أو عقيدة.. إنها روايتنا/حكايتنا وتاريخنا ولغتنا. الصراع هو من وكيف ومن سيكتب التاريخ؟ وما سيحذف؟ وكيف؟ وماذا؟
أن يكتبَ التطبيع الرواية: أسوأ أنواع التطبيع هو أن نقصي أنفسنا عن الرواية، ليس بقبول رواية الآخر فقط، بل المطلوب تفكيك روايتك أنت وثم قبول أن يكتب الآخر روايتك! والشروط لا تقف عند حدود الإعلان الرافض له فحسب. فمقاومة التطبيع هي حماية للذات، الصدقية مع الذات المستندة إلى الفعل اليومي والممارسة الجماعية وتعبر عن ضمير الشعب وحقه في المقاومة في سبيل الحرية. الصدقية السياسية تولد من تلك الأدوات التي تنشد التغيير، ومن إرادة سياسية تتجاوز الوضع القائم، ورؤية تدرك ماهيّة الممكن في الوضع أو الزمان المحدد والبيئة الاجتماعية، فهي فن المُمكن في الزمن المستحيل، من خلال السياسة التي تخلق واقعاً جديداً، وثقافةً جديدةً، وتخرج من متلازمة الفشل وثقافة الهزيمة نحو امتلاك عقيدة النصر، وعبر الخيارات المتاحة التالية:
• إدارة للصراعِ من خارج القيود التي أوجدها اتّفاق أوسلو، وأن تكون الوحدةُ الوطنيّةُ شاملةً مجسَّدة في منظمة التحرير الفلسطينية بمضمونها الجبهوي والكفاحي المعبرة والمكونة من جميع الفصائل والشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، أي كل ركائز المشروع الوطني الفلسطيني، بديل جديد بِنِيَّة ورؤية تستند إلى ثقافة الاشتباك المقاوم والشعبي والمدني والسياسي والتنظيمي، وحدة بمضمون استراتيجي تحرّري وطني جديد وموحّد.
• الوعيُ الاستراتيجيُّ لقضية فلسطين، من حيث علاقتها بمشروع النهضة العربية، وهذا يعني أيضًا الفهم الاستراتيجي للكيان الصهيوني والمشروع الصهيوني ووظيفته في المشروع الغربي، وتطوير عمل مناهضة التطبيع مع القوى الاجتماعية المختلفة وباتجاه احتضانها ودعمها، بما يمنحها مشروعيّةً شعبيّةً استنادًا إلى دائرتها الاجتماعية الشاملة.
• دعوة القوى الشعبية العربية الحيّة لمواصلة حصار النشاط التطبيعي في المنطقة العربية بوصفه طريقاً لإفشال أي اندماج أو اختراق إسرائيلي في المنطقة، بمواقف حزبية سياسية وفوقية ومعزولة، بل بالبعد الحقيقي الشعبي المنظّم، ومن خلال مبادرات تطلقها الفعاليات الاجتماعية والأكاديمية والشعبية والمدنية والنقابات المهنية مثل حملة (BDS)، وفي ذات السياق، لا يمكن أن تتّسع حركة المقاطعة عالمياً بينما تتراجع عربياً، وهذه الظاهرة تحمل في طياتها دلالات ومضامين خطيرة، فكل معركة ضد الاستلاب والتبعية، ومعركة إسقاط حلف التطبيع لا تنفصل عن معركة الحرية، وهذا يحتاج إلى ثورة فكرية تمتد على عموم مساحة الوطن العربي.
• القضيّةُ هي قضيّةُ الانتصارِ لاستراتيجيّةِ العمل المقاوم والتحرّري في مواجهة استراتيجية التطبيع والتبعية والتسوية الانهزامية، يكون ذلك بتوفير شروط الانتصار الحاسم والنهائي على العدو الإمبريالي والصهيوني وملحقاته، وأساس هذه الشروط توحيد وتعبئة كل قوى وطاقات شعوبنا في مقاومة الاستعمار والصهيونية والقوى المرتبطة بهما والممالأة لهما، واعتبار هذه القضية حجر الزاوية في أي مشروع سياسي جدير بانتسابه إلى الشعب أو إحدى طبقاته، وقد أفصحت وقاحة التطبيع بنسخته "الإبراهيمية" عن حقيقة المشروع الاستعماري الصهيوني الرجعي وعن صحة هذا التوجه، وبما لا يدع أدني عذر أو حجة للاعتراض عليه.
الخلاصة:
التطبيعُ هو "بوليصة تأمين أمريكية" للكيان الصهيوني كونها أمام تراجعاتٍ اضطراريّةٍ جديدة، وتحوّلاتٍ دوليّةٍ لغير صالحها، وتبدلاتٍ استراتيجيّةٍ تطال وظيفة "إسرائيل" للقيام بوظيفة إمبريالية إقليمية، بإلحاق الأنظمة في مشروعها وليس العكس! من مبدأ تثبيت وجود ودور وزعامة الكيان في المنطقة، وهذا يحتاج تأمين درع أو عمق أمني واستثماري ومالي وعسكري وسياسي وثقافي وتطبيع ديني يكرس قبولها ثمنه تصفية القضية الفلسطينية ومصادرة هوية وانتماء ومستقبل شعوب المنطقة!
تفكيكُ هذه الإشكاليّة يكون بالإجابةِ عن الأسئلة التالية: ما المقدّماتُ التاريخيّةُ التي أسّست للتطبيع؟ وما دورُ الرّهانِ على التسوية؟ ما الاستراتيجيّاتُ المتدرجةُ التي مهّدت لحالةِ الاختراقِ ومساعي تحويل عمليّةِ الصراع، لتشريع التطبيع والخيانة؟ ثمّ ما دورُ الاستراتيجيّة الأمريكيّة ومنها صفقةُ القرن حتى استراتيجيّة بايدن الثانية؟ المسألة التاريخيّة في مسيرة التطبيع تعني إقصاء الرواية العربيّة وأن العربي لا يملك روايةً أخرى أو خطابًا مضادًّا. أمامَ الواقعِ الجيوسياسي الجديد في ظلال التطبيع، يطرحُ صياغةَ استراتيجيّةِ عملٍ جديدة لمقاومة التطبيع، التي تؤسّس التطبيع نفسه، اختراقه وتعريته وتفكيك ركائزه وفرض خطابنا وروايتنا.
منطلقات تاريخيّة أسست للتطبيع
في لقاءٍ جمعه بنظرائه من إسرائيل والمغرب و البحرين والإمارات، صرّحَ وزيرُ الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أنّ بلاده برئاسة جو بايدن ستعمل على تشجيع مزيدٍ من الدول العربيّة على إقامة علاقاتٍ طبيعيّةٍ مع إسرائيل وتوسيع "اتفاقات إبراهام" التي أطلقها الرئيس السابق دونالد ترامب. لذلك فالمقدّماتُ السياسيّةُ التي أفضت إلى الوضع الحالي، لها ما قبلها من المسارات والسياقات التاريخيّة التي مهّدت له وأهمّها:
• المنطلق الفكري
- تجديدُ الصهيونيّة، تجديدٌ للعداء والسيطرة بأشكالٍ جديدةٍ وتأجيجٌ للصراع وليس إنهاءه. قيل إنّ التسوية حلٌّ لعقدة القلق الوجودي الصهيوني وإنّ الحل يكون بما بعد الصهيونيّة، ماذا يعني؟ تيارٌ يمينيٌّ تقليديٌّ يدعو إلى الانتقال من "تطبيع" الشعب اليهودي في دولةٍ يهودية.. ثم فتح العواصم العربيّة أمامَ هذه الدولة، وهذا سيؤدي الاستقواء على الفلسطيني لإجباره على قبول الأمر الواقع.
- ثمّ التيار الثاني الصهيونية الجديدة، يتّحد فيها اليمين القوميّ بالديني الفاشي، دعاة هدم الحرم وإعادة بناء الهيكل الثاني، هم الآن في الحكم، هؤلاء لا يعدّون أنّها تحقّقت فكرة الدولة اليهودية دون حسم الصراع، تراجعت الصهيونيّةُ العمليّةُ لمصلحة الدينية، ثم الآن تتجدد بالصهيونية القوميّة / الدينية. إنّ التطبيع لليهوديّة وليس مع العرب.. تيار (الموت للعرب).
متلازمةُ السلام والتطبيع
لا بدّ من الإشارةِ إلى تلازم كلمتي في الخطابِ السياسي الراهن. فالتطبيعُ لم يسقط فجأةً صدفةً أو أنّه قدرٌ محتوم، لكنّه يقع داخل عملية الصراع، عندما وفّرت الدول الإمبرياليّة على إسرائيل فترةً طويلةً من النمو والحماية وبدأتها المساعي الأمريكيّة حتى ستار البحث عن السلام، تحت مسمى لجنة المساعي الحميدة، التي وصلت إلى المقولة المتداولة: "الراعي النزيه" أو "الوسيط العادل"؛ ثم إن99،99 من أوراق الحل بيد أميركا.. وإلخ، لتصبح الإدارة الأمريكيّة العراب الحصري للتسوية؛ تحت مسمى "السلام" مقدّمةً لفرض القبول بدولة "إسرائيل"؛ بينما في الحقيقة التي نعلمها أنّه لا يمكن الفصل بين جناحَي هذه المعادلة، كونها استراتيجيّةً صهيو/أمريكية واحدة، تأتي امتدادًا لاستراتيجيّةٍ قديمةٍ في جوهرها، وجديدةٍ في أسلوبِ إدارتها، وفرادتها، لناحية تقويض المفاهيم التقليديّة للتسوية، والتطبيق الأحادي الذي يتم فرضُهُ من طرفٍ واحد، يعدّ نفسه منتصرًا على طرفٍ مهزوم، وفقَ استراتيجيّةٍ تمتلكُ ذات الركائز، ولكنّها تعتمدُ سياسةَ الإكراهِ التام لإجبار المخالفين على القبول، مع الاحتفاظ بثباتِ الهدف؛ وهو ليس تسويةً عادلةً للقضيةِ الفلسطينية بل تدميرها؛ تمهيدًا لإغلاق ملف القضيّة الفلسطينيّة إلى الأبد، وإنهاء فكرة فلسطين.
الحصيلة: إنّ منطق سياسة الحلّ السلميّ مع الكيان الصهيوني، تحت مسمى السلام مقدّمةً لقبول التعايش مع أيديولوجيّةٍ إقصائيّةٍ يجسّدها الكيان الصهيوني العنصري.
التطبيعُ وكذبة التنمية:
المنطقةُ على أساس "السلام الاقتصادي"، ونذكرُ ما قاله وزيرُ خارجيّتها الأسبق أبا إيبان "إنّ إسرائيل ترغب أن تكون علاقتها بالدول العربيّة كعلاقة الولايات المتّحدة بأميركا اللاتينية"، وبالقدر الذي تتحوّل فيه إلى إمبرياليّةٍ تحتاج إلى أميركا لاتينية خاصة بها. الأخطرُ من الذين ينظرون للكيان الصهيوني كيانًا حضاريًّا ونموذجًا عقلانيًّا وديمقراطيًّا، يجب أن يحتذى به! الذين يصدقون أنّها ستوزّع قيم الديمقراطيّة وأنّها الوكيل المعتمد للتكنولوجيا والشريك في السوق والأمن وحماية الإنسان، هؤلاء الدونيون الذين يكرهون أنفسهم ويهجون ذواتهم العربية هم الذين يجعلون إسرائيل، إسرائيل التي نعرفها. الأشدّ خطرًا هو السلوكُ الوضيع يجيد تضخيم إيجابيّات الآخر وتقزيم الذات، وكذلك الذين يروجون للتطبيع وكأنّه "الحلّ النهائي" لمشكلاتنا المزمنة! وأنّ العلاقةَ معها مسألةٌ سياديّةٌ خاصة، وتحوّلت إلى خيارٍ جماعيٍّ واستراتيجيّ، الذي أسس مسبقًا لنهجٍ سياسيٍّ محكومٍ بالهدف وليس التفاصيل أو المعايير، فقد يصحُّ وصف الكاتب الفرنسي "ألان غريش" عن آخر ما خطّطت الإمبرياليّةُ الأمريكيّةُ تحت مسمى صفقة القرن: "أنّها أسطورة بوزن أيديولوجي" على حد قوله. هذا النسق السياسي الذي تمكّن من شقّ مجرى تاريخيٍّ أُطلق عليه "خيار السلام الاستراتيجي" جرت مراكمته منذ النكبة عام 1948، ويوم كان الجرحُ ما يزال طريًّا، أطلقت الولاياتُ المتّحدةُ ما سمي بمشروع جونستون عام 1953 لحلِّ المشكلةِ الفلسطينيّة، وكانت قد تحدّثتْ عن مشكلتي "البؤس" و"الخوف"، وأنّ حلَّ مشكلةِ بؤس مليون لاجئ يكون بإعادة توطينهم من خلال مشاريع التنمية، وإزالة "الخوف" عن دول المنطقة يكون بالأمن للجميع ومن خلال "الأحلاف" وهذا يحتاج إلى "الاعتراف" بوجود "إسرائيل" جزءًا من المنطقة؛ تمهيدًا لدمجها في هيكل النظام العربي. كذلك باستخدام الإغراء الاقتصادي، كما جرى في ورشة "المنامة" 2019 حول الاستثمار والازدهار؛ الذي يجسّد حقيقة المصالح الطبقيّة لأطرافِ الحلف الإمبريالي، ومن نافل القول: إنّ المسار الاقتصادي كان دائمًا الخطّ الموازي للمسار السياسي، لتشكيل القاعدة الماديّة لأيّ تحالفٍ سياسي، كما جرى طرحه في كافة مشاريع التسوية، هكذا من مدريد 1991 إلى خطة خارطة الطريق 2003، والحديث مجدّدًا عن السلام الاقتصادي لنتذكر وعود "كامب ديفيد" للمصريين بالرّخاء أو في أوسلو بتحويل غزة إلى سنغافورة الشرق... جميع الوعود استخدمت فيها نكهة الدسم، لتخفي طعم السم.
الحصيلة: سياسةُ السلام الاقتصادي خيارًا استراتيجيًّا هو شكل التبعية والهيمنة التي اعتمدت عليها الإمبرياليّة الأمريكية لتشديد قبضتها على الدول العربيّة وتكريس الكيان إمبرياليّةً صغرى بتوابعَ وملحقاتٍ رجعيّةٍ من أنظمةٍ حاكمة، التي مهّدت لحروبها على المنطقة ولإعادة رسم خرائط المنطقة السياسية والجغرافية في طورٍ جديدٍ موسّعٍ ومكثّفٍ من أطوار المشروع الاستعماري الغربي القديم المجدّد لمنطقتنا.
التطبيعُ تخلي عن فلسطين وليس من أجلها
توضّحُ العباراتُ العنصريّةُ التي يرفعها المستوطنون "الموت للعرب" في ظلّ التطبيع مع العرب! الحقيقة النهائيّة في الصّراع القائم: أن الاعتراف بالآخر يعني تلقائيًّا إنكار الذات نهائيًّا، وهذه الميزةُ نادرةٌ في التاريخ الإنساني، وإن كانت الشواهد الطبيعية كثيرة، حيث يتحوّل الكيان إلى خطرٍ مضاعفٍ وشاذ، غارقٍ في عنصريّته وفاشيته، يزداد التعبير عن حقيقته بشكلٍ متصاعد، ويمارس الأيديولوجيا كلما حقّق اختراقًا في الحالة العربية؛ لذلك خطر التطبيع على القضية الفلسطينيّة لم يتوقف، بل إن الاحتلال ازداد فاشية، وعدوانيّةً ولم يوقفه المطبعون، الذين يبررون سياستهم بلوم من يقاوم الاحتلال، وليس الاحتلال..
لذلك استُحدثت عباراتٌ أمريكيّةُ الصنعِ من نوع الانتظام بقواعد النظام الدولي، التي برزت مؤخّرًا بعد الحرب الأوكرانية، وصولًا إلى "تقليص الصراع"، الالتزام بالشرعية الدولية، وتحسين العيش، والثمن يكون بقبول الاحتلال منقذًا؛ المقام الأول علي استرضاء أمريكا وتقديم التنازلات لها وإثبات الإخلاص والحرص على مصالحها (التي هي مصالحُ استعماريّةٌ في الأساس)، بحجّة حفزها للضغط على إسرائيل لتنسحب من الأراضي العربيّة المحتلّة، بينما حدث العكس، كان "القبول" مسألةً سياسيّة، التسليم بمستعمرةٍ غربيّةٍ اسمها "إسرائيل" زرعت في فلسطين التاريخيّة، بدعوى زائفةٍ صاغتها الصهيونيّةُ وأسّست أيديولوجيتها لمستعمرةٍ زاعمة، حق امتلاك كامل التراب الفلسطيني.
إنّ ما يجري من محاولاتٍ لتطبيع العقل العربي على القبول بالمؤقّت بوصفه الحلَّ النهائي، والكيان الغريب بوصفه القريب، والاستثنائي كأنّه الطبيعي، والعدوّ الذي صار صديقًا، أي الانتقال من التسوية إلى التصفية، والتطبيع هو ترويجٌ للوهم الذي سينهي المشكلة كما يتوهّم أصحابه، بدايةً لتصفية الركائز التاريخيّة المكوِّنة للقضيّة الفلسطينيّة، تتويجًا لمسارٍ طويلٍ قبل ومع اتّفاقات "أوسلو" ذاتها، قُدّمت فيه تنازلاتٌ كبرى، أهمّها الاعتراف بحقّ "إسرائيل" في الوجود، تلك السابقة التي تتناغمُ مع سلسلةٍ من التواطؤ والخيانة والعجز العربيّ العام، من تحويلٍ للصراع وتدمير الهدف الجامع والمركزي ويتحوّل العدوّ المشترك إلى الصديق، مستندًا إلى أنظمةٍ رجعيّةٍ ملهوفةٍ لطي ملف "المرحلة الانتقاليّة" نحو المرحلة النهائيّة أي بالتصفية، ذلك بالاعتماد على ما انتهت إليه اتفاقات أوسلو من خرابٍ وطنيٍّ ومؤسساتيّ وانتهاكاتٍ وتنازلاتٍ وتنسيقٍ أمنيٍّ وتبعيّةٍ اقتصاديّةٍ وانقسامٍ سلطويٍّ وشتاتٍ جديد.
الحصيلة: التسليمُ بالكيان الصهيوني في فلسطين، وهو ما يعني التسليم باغتصاب فلسطين والقبول بالتعايش مع قاعدة الاستعمار الأمريكي والعالمي في المنطقة، والقبول بالسيطرة الإمبرياليّة على البلاد العربيّة التي أقام الاستعمار العالمي إسرائيل على أراضي أحدها، لتكون الأداة البديلة المتقدّمة لفرض خضوع المنطقة العربيّة والإقليم لها، هذه هي سيرةُ الدولة الصهيونيّة حتّى الآن.
من الربيعِ العربيِّ إلى التطبيعِ العربيّ
المتلازمةُ الأخرى بين التطبيع والربيع، كأنّه لزامٌ على الحلم الديمقراطيّ في العالم العربي أن يقترن بالتطبيع مع الدولة اليهودية، وأن الدعوة إلى الربيع لا بدّ أن تنتهي إلى التطبيع! شرط انفتاح الثقافة العربيّة على أفق العالميّة مرتبط بـ"الإسرائيلي" رمزًا محليًّا للثقافة الغربيّة.
استراتيجيّةٌ مدروسةٌ استخدمت "الفوضى الخلّاقة"، التي بدأتْ بُعيدَ احتلالِ العراق واستؤنفت لمصادرة "الربيع العربي" وحرفه عن مساره، والعمل على تفكيك الدول المركزيّة، حيث أمكن، مستغلة غياب المشروع العربي الجامع وفشل الدولة الوطنية، من خلال شن حروب مباشرة أو بينية، أو بالوكالة أو بالاحتواء المزدوج، ثم لدفع ديناميات التدمير الذاتي وباستخدام وسائل متعددة منها فرق التطرف والإرهاب الداعي لتمزيق النسيج الاجتماعي، وتحويلها إلى دويلات إثنية وطائفية وعشائرية، لخلق قضايا لكل بلد عربي، لخلع فلسطين من هموم الشعوب العربية، واعتبار قضية فلسطين وليس "إسرائيل"، السبب وراء أزمات المنطقة، وأنها النتيجة لوجود الكيان الصهيوني في قلب الأمة! وذلك لتوفير البيئة الاستراتيجية الملائمة التي لا تستهدف قُطْرًا عربيًّا بعينه أو فلسطين وحدها، بل تنعكس على الجميع وتستهدف شعوب المنطقة العربية بمجملها، تكشف تلك الوقائع، وغيرها الكثير، عن أن إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة في الشرق الأوسط، خاصة الدول العربية، كان هدفا رئيسيا للجماعة الأورو-أطلسية، منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين، سياسة تضرب مشروع الدولة وتدفعُ إلى إدامةِ فشلها، وإعادةِ إنتاجِ الفشل بأشكالٍ مختلفةٍ أكثرَ حدّة، وأخطرَ أثرًا، من أجل إعادة تشكيلٍ إقليميٍّ للمنطقة، يكون للكيان القوّة الإقليميّة السائدة في المنطقة "ناتو عربي"، لتشنّ هجومًا بأشكالٍ متعددةٍ من التطبيع، لاختراق الوعي العربي وترسيخ ثقافة الهزيمة التي تتبنى الرواية الصهيونية، بديلًا للرواية الفلسطينيّة ومعاداة الحقوق الفلسطينية. الثقافة البديلة هي ثقافةُ شرق أوسطية متفاعلة أم ستؤسس لقيادة ثقافية إسرائيلية غربية تحت غطاء السلام الإبراهيمي؟
جو بايدن من التطبيع إلى الصهينة!
"ليس شرطًا أن يكون المرءُ يهوديًّا حتى يصبح صهيونيًّا" بهذا القول الرئيسُ الأمريكي بايدن في أوّل كلمةٍ له في مطار اللد، يوم 13-7-2022، يبوح بأنه أصبح عضوًا بارزًا في الحركة الصهيونيّة اللايهوديّة، ممكن أن ينتمي لها من يخدم مشروعها مهما كان دينه أو هُويّته! يبدو أنّه لم يسمع أنّ هناك يهودًا ضد الصهيونية، بما أن اعتناقها يعني العنصرية والديكتاتورية والفاشية! ولم يشاهد الشعار الذي رفع في وجهه على أرض فلسطين (أهلا بكم في دولة الأبرتهايد)!
إذن، ما قاله بايدن هو حقيقة التطبيع بل إعلان مرجعيته العقائدية، أو كشف فيه العمق الطبقي للتطبيع كما البعد الأيديولوجي، فصار التطبيع هو الاسم الحركي للتصهين! الذي هو تداخل في المشروع الاستعماري الغربي كما وصفه المفكر الراحل د. عبد الوهاب المسيري: إن مصطلح "صهيونية" نفسه لم يكن قد تم سكه، إلا بعد تبلور الهجمة الإمبريالية الغربية على الشرق، ومع تبلور الفكر المعادي لليهود في الغرب، وبعد المؤتمر الصهيوني الأول (1897) في بازل، تحدد المصطلح، ويشير إلى الدعوة التي تبشر بها المنظمة الصهيونية وإلى الجهود التي تبذلها، وأصبح الصهيوني هو من يؤمن ببرنامج أو مشروع "بازل" الذي لم يتحقق إلا من داخل مشروعٍ استعماريٍّ غربي.
الرئيس الأمريكي واعترافه بالانتماء للحركة الصهيونيّة، لم يعد مؤهّلًا لصياغة السلام، كما بدى من جولته الأخيرة، يسعى لضبط إيقاع الحلفاء، المغلفة بلغةٍ اقتصاديّةٍ باستخدامٍ رخيصٍ للدبلوماسية الروحيّة من طراز "السلام الإبراهيمي". هذه الاتفاقات التي تأتي في سياق ما يسمى "التلاعب بالرموز"، كما يصفها هربرت شيلر، "يمارس بمهارةٍ فائقة، وبصورةٍ مكثّفةٍ على أيدي خبراء متخصصين في صناعة الصورة من أجل خلق مناخٍ مواتٍ من الآراء"، وتسريبِ سياسةٍ صادمةٍ بأبعادٍ استراتيجيّةٍ التي تبرّرها ثقافة التطبيع. السياسة الخارجية للرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، تختلف تكتيكيًّا عن سياسة سلفه دونالد ترامب، لجهة إعادة تقديره لحلفاء الولايات المتحدة، لكنها ثابتة بالمعنى الاستراتيجي، وبوسائل أخرى، وليست خارج سياقها، وليس بديلًا عنها أو منفصلًا عنها، بل هو الوجه الحقيقي للإمبريالية دون رتوش. فقد استمر جو بايدن بالنظر إلى الشرق الأوسط الكبير بأنه مكان لـ "الحروب الأبدية"! رغم هذا الدعم اللامحدود للكيان، فقدان البعض لمعنى المقاومة وغايتها، مع ذلك يبدأ الحديثُ من السؤال الاستراتيجي المطروح حول: لماذا لم يتمكن الكيان من تصفية قضية فلسطين؟ أو أقلها: لماذا لم يتوصل إلى تسويةٍ نهائيّةٍ مع الفلسطينيين؟
مع الوعود العابرة لكل الرؤساء، وذلك بتقديم الإجابة الصهيونية المتكئة على واقع التمزق الفلسطيني - الفلسطيني، والعربي – العربي، حين تعتبر أن مسألة الاعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، كما وصفها بالشيء الجيد، بإزالة هذه العقبة من على طاولة المفاوضات. في كل مرة، كانت هناك محادثات سلام، فإنهم لم يتمكّنوا أبدًا من تجاوز أن تكون القدس هي العاصمة، وضمن المنطق نفسه، وصف جو بايدن المتطلبات الفلسطينية الضرورية أنها "معجزة تحتاج للسيد المسيح". إنهم يعتبرون "حق العودة" "عقبة" أخرى في طريق "السلام"، وكذلك المؤسسات الدولية التي تحمي قضية اللاجئين مثل "أونروا"، والتي تمارس بعض الدول ومنها عربية أن "تسهيل" التوصل لاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يكون بتنفيذ لهذه السياسة الأمريكية الصهيونية.
باختصار شديد، الوضع الراهن من الصراعات يتمحور حول تزييف الحقائق عبر التسويق الذي جرى باسم "سلام أبناء إبراهيم"، تزوير واضح للتاريخ وطبيعة الصراع الدائر في المنطقة بين التحالف الإمبريالي - الصهيوني - الرجعي، وقوى المقاومة والتحرر الوطنية والشعبية.
شرق أوسط أكثر اندماجًا
في 12 أكتوبر من العام الحالي 2022 أعلن البيت الأبيض عن وثيقة من 48 صفحة، تحدد سياسة الأمن القومي الأمريكي لنهاية إدارة بايدن والتي تقر بتحول كبير في السياسة الدولية، وتدعو الاستراتيجية الجديدةُ إلى وقف التصعيد في الشرق الأوسط، وإلى التكامل الاقتصادي في المنطقة، وقد انتقدت اعتماَد السياسِة الخارجيِة الأمريكيِة على استخدام القوة العسكرية. وترِكز الاستراتيجية على تحديد خطوات لتعزيز مصالح واشنطن، ومساعدة شركائها الإقليميين على إرساء أسس الاستقرار والازدهار.
وتجِدد الاستراتيجية الالتزام "الصارم" بأمن "اسرائيل"، وتتعَّهد بتوسيع وتعميق علاقات "إسرائيل" "المتنامية" مع الدول َالعربية، وتؤكد دعمها لاتفاقات "إبراهام" والحفاظ عليها، وتشير الوثيقة "تلبية حاجات الفلسطينيين إلى دولة آمنة وواقعية "، كما تأكد مبدأ حل الدولتين كأساس للتسوية "الصراع العربي - الإسرائيلي"، مع التأكيد على عدم وجود حل عسكري لأزمات المنطقة، كما تدعو إلى "شرق أوسط أكثر اندماجًا" من شأنه أن يقلِّل على المدى البعيد "مطالب الموارد" من الولايات المتحدة التي تضعها في المنطقة والتي "وفرّت حماية للدول المنتجة للنفط على مدار عقود". إذن، فدور الولايات المتحدة يقوم بحماية الكيان كصاحب اليد العليا في الإقليم؛ ليكون الدولة الإقليمية العظمى.
الحصاد الصهيوني في ظلال التطبيع
1. ارتفعت مؤشّراتُ الاختراقاتِ الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة للمنطقة التي تهدفُ إلى خلقِ أمرٍ واقعٍ لا يمكن رفضُه، يحقّقُ ما تريده "إسرائيل" ويكمل الإجهاز على الحقوق الفلسطينية والعربية. والصفقة تُعدّ فرصةً للتطبيع مع جزءٍ مهمٍّ من العالم العربيّ لتطويع من لا يزال يرفض علنيًّا الاعتراف بشرعيّة المشروع الصهيونيّ والتعامل معه، وتزايد الهجوم التطبيعي بين الدول العربيّة و"إسرائيل"، كترجماتٍ من خلال الزيارات الرسميّة أو الفنيّة أو الرياضيّة أو حتّى السياحيّة، بالإضافة إلى اللقاءاتِ السريّة وترويج السياسة الإسرائيليّة التي تفضّل التطبيع قبل تحقيق السّلام. فقد بلغ التبادل التجاري بين الإمارات وإسرائيل أرقامًا كبيرةً خلال العامين الماضيين، وسط تأكيد مسؤولي الجانبين رغبتهم في ترسيخ العلاقات الاقتصادية.
وحول ذلك كشف مندوب "إسرائيل" لدى الأمم المتحدة جلعاد أردان، في 26 يوليو، أن التجارة بين دولة الاحتلال والإمارات تجاوزت مليار دولار، في النصف الأول من العام الحالي. وكان مدير معهد "السلام لاتفاقيات أبراهام"، آشر فريدمان، أكّدَ أنّ التجارة بين "إسرائيل" ودولٍ عربيّة، بينها الإمارات والبحرين، شهدت زيادةً قياسيّةً خلالَ عامٍ واحد، في ظلِّ الاتفاقيّاتِ الاقتصاديّةِ الكثيرة التي أبرمت منذ التطبيع بين الطرفين.
متابعةُ عمليّة التطبيع وحجم التجارة العربية "الإسرائيلية" تكشف عن مدى التناغم الرسمي مع الرؤية الأمريكيّة، المتمثلة بأولوية التطبيع على السّلام، حيث تشير الأرقام بأن حجم التجارة بين الخليج و"إسرائيل" وصل إلى حوالي مليار دولار، عن طريق طرف ثالث ( الأردن أو تركيا وأحيانًا الاتحاد الأوروبي). وبلغت الصادرات "الإسرائيلية" للدول العربية نسبة (10%) من مجمل صادراتها.
يفسّر الانفتاح التجاري، حجم التعاطي الرجعي العربي مع مؤتمر البحرين، على الرغم من كل الضجيج الذي صاحبه، رغم أن نظام البحرين يؤدّي دورًا محوريًّا في عملية التطبيع، واستخدمت اختبارًا إن كان بمقدور دول على قائمة الانتظار يمكنها القيام بخطوة التطبيع رسميًّا، دون وجود حركاتٍ مناهضةٍ داخلها، بعد أن استنكره قطاعٌ كبيرٌ من الشعب العربي في الخليج المناصر للقضية الفلسطينية.
2. مسارعة بعض الأنظمة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، رغم قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وموضوع ضم الجولان، وهذا يؤكّد أنّ بعض النظامِ العربي يعتقدُ أنّ شرعيته تأتي من إدارة ترامب، هو نظامٌ بشكلٍ أو بآخر مناهضٌ للمصالح العربيّة، دون إغفال أشكال التطبيع الأخرى التي تبدأ من تفعيل استراتيجية «التلاعب بالوعي» التي تُستخدم فيها وسائل القوة الناعمة لتحقيق الاختراق والسيطرة واحتلال العقل وصولًا إلى قتل ثقافة المقاومة، لترسيخ ثقافة الهزيمة وما يعكس عقدة الشرعية أو متلازمة القلق الوجودي لدى الكيان، حيث إن الجدار نفسي أكثر منه أمني، وكما أوصى شيمون بيرز بـ (الحدود الآمنة ليست بديلا للعمق الآمن)، وأنها تبدأ من لقاح العبقرية اليهودية مع المال العربي، وحلمه في شرق أَوْسَط جديد تقودُه تل أبيب.
3. بدأ الكيانُ الصهيونيُّ يستقوي بالإقليمي على الفلسطيني، بهدف تجديد اتفاق أوسلو، إلى "أوسلو عربي" جماعي بتنسيق أمني عربي – إسرائيلي، والذي يتم تعريفه في نطاق الاستراتيجية الأمريكية بـ "ميثاق الشرق الأوسط"، أي عقد اجتماعي عصري للمنطقة، لمواجهة ما أسمته بالتحديات الجيو- سياسية والتحديات التنموية، وحتماً سيمر من مدخل زعزعة أمن وَاستقرار دول المنطقة لتسهيل تقسيمها، بما يتيح المجال لإجراء إصلاح عميق للدول في المنطقة كما تدعي، وتشترط الاستراتيجية الأمريكية "الجديدة"! إنشاء صندوق التنمية لإعادة الإعمار والإصلاح، وعلى الدول الإقليميّة النفطية تمويل هذا الصندوق.
4. استراتيجيّةٌ معاكسةٌ أو السلام المعكوس "الحل الخارجي بغطاء داخلي" التي تتوافق مع إرادة أمريكية تشن هجومًا لتصفية قضية اللاجئين، كونها الركيزة الأساسية في الصراع، التي بدأت باعتبار تأجيل البت بها في اتفاقات أوسلو، يعني الاستعداد من قبل فريق أوسلو للتنازل عن هذه القضية وأن ما يهمها فقط هو حلٌّ رمزي، وتعويضٌ لمن لا يمكنه العودة. وقد استخدمتها الولايات المتحدة من خلال الضغط على الدول المضيفة للاجئين بضرورة تحمل مسؤوليتها إزاء اللاجئين على أراضيها واستيعابهم في نطاق الحلول التنموية المدفوعة الأجر وتوطينهم في مكان الإقامة، وتبرأة دولة "إسرائيل" من المسؤولية وأنها ليست وحدها معنية بحل هذه المشكلة، حين اتهمها رئيس وزراء العدو: "أن الأونروا قامت بتخليد قضية اللاجئين لا حلها" وحلها تعني بمفهومه "تصفيتها". ثم ذهبت إلى شيطنة إدارتها واتهامها بالفساد بهدف ضرب مصداقيتها وحقيقة دورها التشغيلي للاجئين الفلسطينيين وليبرر الدعوة إلى تجفيف موارد الأونروا مؤسّسةً راعيةً للاجئين والضغط على باقي الدول المانحة لوقف الدعم لها، وبدعوتها إلى تغيير هيكليتها ووظيفتها وإعادة تعريف من هو اللاجئ، واختزال العدد بمن ولد في فلسطين فقط وليس أترابهم وأحفادهم كما هو التعريف الأممي حسب الأمم المتحدة، بما يعني شطب المسجلين كلاجئين من سجلاتها وسحب الاعتراف بحقهم الشرعي بالعودة. علما أن مؤسسة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" تأسست بفعل القرار الأممي 194 القاضي بتحقيق حق العودة للفلسطينيين، التي دعت وزير خارجية الولايات المتحدة أن يصف الأونروا "الضمادة" التي وضعت على جرح قديم وحان الوقت لنزعها، وكذلك الضغط الاقتصادي على الدولة المضيفة لإجبارها على نزع صفة اللاجئ عن الفلسطينيين المقيمين فيها.
5. المناعةُ الاستراتيجيّة، شكّلت توجيهًا استراتيجيًّا لمشروع صفقة القرن، يمكن استشعاره بما طرحه أحد قادة الصهاينة في سؤال محوري في مؤتمر "هرتزليا" الذي يعقد سنويًّا وينكب على التفكير الاستراتيجي تحت اسم (المناعة القومية) يقول: لماذا لم نتوصل حتى الآن إلى تسويةٍ نهائيّةٍ مع الفلسطينيين؟ الأجوبة تتقاطع حول ضرورة تصحيح مبدأ التسوية، وأن الخطأ يبدأ من المقولة التقليدية "الأرض مقابل السلام" وأنه لا يجوز مبادلة الأرض بالسلام، إنّما السلام بالسلام، أي الأمن بالأمن.
وتشعّبت الإجابات؛ إنّ التسوية النهائيّة لا يستطيع الطرف الفلسطيني بمفرده أن يقدم على التنازل بشأنها، دون غطاءٍ خارجيٍّ عربي، أي حلّ "داخلي بغطاءٍ خارجي" مثلًا الضفة الغربية التي تضاعف الاستيطان فيها وخاصة في زمن أوسلو، حتى بلغ عدد المستوطنين نحو 750 ألف مستوطن، وتحوّلت فيها التجمّعات الفلسطينيّة إلى جزرٍ معزولة، الاستيطانُ هو البديلُ للدولة الفلسطينيّة ومشروع استيطاني يطال كل الأرض، ويضع شعب فلسطين تحت الاحتلال الكامل، لا دولة واحدة بقوميتين أو بشعبين أو دولتين لشعبين أو حل الدولتين ممكن! تعميق بنية الاحتلال وإثقال كاهل الإنسان الفلسطيني بالديون التي تفوق 4 مليارات دولار وبنظام تبعية وإلحاق وضرائب وسلب موارد وتدنِّي بمستوى المعيشة، أسوأ مما كان قبل أوسلو.
لذلك، فإنّ صيغةَ الحلِّ في الضفة الغربيّة لا يمكن أن تقوم بمعزل عن الأردن، ويفصح عنها السفير الأميركي في الكيان صراحة بقوله: "الاحتلال المزعوم للضفة الغربية".
إنّ النهجَ الاستراتيجيّ الصهيونيّ أصبحَ محورًا محرّكًا في صفقة القرن، ونرى حجم الصراع السياسي الدائر اليوم بين صناع القرار في الكيان الصهيوني حول تبعات وأبعاد هذا الضمّ.
6. استراتيجيّةٌ موازية، كان يشترط على البدء بأي مفوضاتٍ ضرورة اعتراف الجانب الفلسطيني بإسرائيل دولةً يهوديّة، هذه المرة الاعتراف بهم بأنهم دولةٌ يهوديّة، بل الاعتراف جاء بقانونٍ داخليٍّ ومباركةٍ أمريكيّةٍ موازية، حيث أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانونًا بصف "إسرائيل" بأنّها "دولةٌ يهوديّة" بشكلٍ رئيسيّ، تحت مسمى قانون "الدولة القوميّة" اليهوديّة، وإنّ لليهود حق فريد بتقرير مصيرهم، كما يجعل من العبرية اللغة الأساسية للدولة، مهمّشًا استخدام العربيّة التي كانت تعد لغةً ثانيةً في الدولة. علمًا أنّ العنصريّةَ ممارسةً لم تبدأ من إقرار هذا القانون، فهي مرتبطة عضويًّا بالإيديولوجية الصهيونية، وتحولت الآن إلى قانونٍ رسميٍّ للدولة، وبهذا يكون قانون القومية قد مزّق قناع الديمقراطية الخادع، والذي وضع الكيان أمام المقارنة الواضحة مع نظام التمييز العنصري البغيض بطابعة الاستئصالي، متفوّقًا على الذي ساد في جنوب أفريقيا الذي وضَع الفلسطينيين في مناطق 1948 بين الولاء للاحتلال أو الانتماء لفلسطين! وأشعل التناقض بين الوطنية والمواطنة، الوطنية تعني الهوية العربية الفلسطينية والمواطنة تعني الولاء لدولة الكيان، والذي بتنا نسمع علانية خطاب يميني متطرف يقسمهم بين "العرب غير الموالين، والعرب الموالين".
ودون أن ننسى انتزاع اعتراف أميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السورية، جرعة أخرى للتوغل الصهيوني بالمنطقة، التي تقع في نطاق الأهمية الاستراتيجية، ودلالتها أن مساحة الجولان تبلغ نحو 1860 كليو متر مربع فقط، إلا أنها تتمتع باستراتيجية استثنائية لمن يسيطر عليها، إذ تسمح جغرافيتها وقممها المرتفعة بالإشراف على العاصمة دمشق شرقاً، وعلى سائر المدن وسط وغرب إسرائيل وكانت المدفعية السورية تدك منها شمال فلسطين المحتلة بين عامي 1948 و1967. وتطل الجولان على مناطق في الأردن ولبنان، ومن يسيطر عسكريًّا عليها يُمكنه أن يطال أي مكانٍ حتى بأبسط الأسلحة التقليدية، كما تضم حوض نهر الأردن وبحيرة طبريا ونهر اليرموك ومستودعات المياه الجوفية.
7. التكيُّف الاستراتيجي، خصخصة القوة، لا تختلف عما سبق، لكنها في عهد ترامب باتت أكثر فجاجةً في إظهار نهجها الإمبراطوري للسيطرة على المنطقة، بقدر ما توفره من منافعَ اقتصاديّة، والدور المناط بها دولةً كبرى في تحديد سعر النفط وتأثيره على الصعيد الاقتصادي العالمي والتوازنات الدولية والأهم حماية الدولة العبرية، لذلك من الطبيعي أن يتحدّد محور الصفقة بمحور الصّراع، وأن تتخذ محاور الصفقة حدود المنطقة وأبعاد عالميّة.
لم تكن صفقةُ القرنِ سوى "مؤامرة القرن" كونها تمتلك استراتيجيّة عمل خفية، غير معلنة، إذا اتفقنا أن الحرب الجديدة لم تعد فقط "امتدادًا للسياسة وبوسائل أخرى"، حسب مقولة كلاوزفيتس، والجديد أنه يمكن أن تكون السياسة امتدادًا للحرب أو حرب بأسلحة أخرى. فالحروب الناعمة أعطت مفعولًا تدميريًّا لم يحدثها السلاح التقليدي وأدّت إلى نتائج الحرب الكلاسيكيّة ذاتها، بل استخدمت الدبلوماسيّة القهريّة والحرب الاقتصاديّة و"القتل بألف طعنة" وحرب الظلال الأمنيّة.
ما بين الكلام عن الحلّ الشامل والصراع الشامل، يستدعي هذا الشكل من الحرب حاجة المنطقة إلى قوى خارجية، يريد أن يغيّر صورة الاستعماري المتسيّد أو الغازي أو الشرطي كما أشاعته الحرب التقليدية في ذهنيّة شعوب المنطقة إلى الاستعماري الميسّر أو المساعد في بناء نظامٍ إقليميّ، للأطراف الفاعلة تؤدي دورًا جديدًا مختلفًا وكما تعرفها من خلال الحلّ الإقليمي الذي هو الحلف الاقليمي، يكون فيها عدو العرب على رأس الحلف، الذي يجسّد بشكل عملي التحالف الإمبريالي - الكيان الصهيوني - والنظام الرجعي/الخليجي.
حقائق الصراع وخيارات المواجهة
عودٌ على بدءٍ؛ لماذا لم نصل إلى الحل النهائي مع الفلسطينيين؟
في إجابة فريدة لأحد قادة العدو قال: إن السلام يفعله الانتصار وإسرائيل لم تنتصر منذ حرب الـ 67! بل هو عائد إلى وجود مقومات المقاومة التي يمكن تبيانها من خلال حقائق يُؤسَّس عليها:
1. استحالة هزيمة الشعب الفلسطيني، كونه صاحب البلد ويمثل الحقيقة والحق التاريخي والوطني في فلسطين، الحق الذي لا يمكن اقتلاعه من أعماق الأجيال المتعاقبة، وبرهن خلال سنوات الصراع تمسّكه بشرعية البقاء فيها وحق المقاومة من أجلها والسعي إلى تحريرها والعودة إليها، وما يجري من تمرّد وثورة في وجدان الشعب له بُنيته وبيئته الاجتماعية وخاصة في أوساط الجيل الجديد، وظلّ في حالة اشتباك يومي وتلقائي وانتفاضة متجددة، تتدحرج على موجات، منذ شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2015، أطلقت عليها تسمية انتفاضة الشباب، فقد سجل عام 2021 تنفيذ أكثر من 4000 فعل مقاوم في الضفة، هذا يدل على تنامي مشروع المقاومة بالضفة.. تمدد كتائبها من جنين إلى نابلس إلى الخليل.
2. موضوعية الصراع التي لا تقيدها أو تطلقها رغبات الأفراد أو الزعامات، ولا النوايا الطيبة أو السيئة على حد سواء، ولا تنتظر تراتبية هذا الفصيل أو ذاك أو رتبة هذا القائد ووظيفة آخر، ولا الدوران في حلقة مفرغة من العجز بين إصدار القرار وتنفيذه، ولا الفجوة القائمة بين الوطن والمؤسسة وبين البنية والهدف والقدرة والرغبة، إنها موضوعية صراع دائمة الفعل والتفاعل في الحراك الجذري والعميق في الضمير والذاكرة الجمعية العربية بما تحويه من خزين هائل. إن ارتفاع نسبة الخطر على الوجود يشكّل قوة الدفع الأساسية والموضوعية المسبّبة للصراع التاريخي مع العدو، وهي السر الذي يقف خلف طبيعة الأشكال المتنوعة من الاشتباك المجتمعي التاريخي والمقاومة الشاملة والمتنامية والطبيعية.
3. الصراع يدور مع كيان يسير عكس اتجاه التاريخ والقانون والإنسانية، وهو يستعيد اللغة الشاذة والممارسات العنصرية، مثل: "نقاء الدولة" و"يهودية الدولة" و"دولة لليهود"، بل هناك من يقول: أن الاعتراف لا يكون فقط بإسرائيل "دولة اليهود"، بل تطبيق جوهر الصهيونية، ليس دولة يهودية في أرض إسرائيل، بل وطن يهودي في أرض إسرائيل. الحديث عن مجتمع يهودي مزدهر ومهيمن يوفر لليهود الملجأ، ويثري العالم اليهودي بأكمله تكون وظيفته عابرة للحدود، مهمتها كامتداد امبريالي في المنطقة، ليتحول شعار "إسرائيل الكبرى" إلى "الدولة الإقليميةً العظمى".
4. هذه صورة عن "الما بعد صهيونية" الأكثر فاشية، بل الاستراتيجية الأكثر جذرية للصهيونية، والتي هي بنظرنا حفارة قبورها، مثل جرعة أيديولوجية زائدة، من شأنها أن تقتل صاحبها. إن غياب الشعور بالسلام النفسي والقلق الوجودي لدى الكيان، هنا تصبح مهمة المقاومة في الإطباق الأمني برفع كلفة وجود الاحتلال، وهذا ما يفسر إذكاء وحشية وشراسة الصهيونية في التعامل مع الفلسطينيين، وهذا سيسهم في تأجيج الصراع ولا ينهيه ويجدد العداء للكيان وعزله عالميًّا كنظام إحلالي عنصري.
"وإن نقاط القوة لدى العدو هي ذاتها النقاط التي نستطيع تحويلها نقاط ضعف ومقتل، فهو يعمل بسياسته العدوانية العنصرية على خلق حفارة قبره.. ويبرهن بالملموس أنه يسير عكس اتجاه التاريخ" ( جورج حبش ).
خيارات وتحديات استراتيجية جديدة
لقد استعانت "إسرائيل" بالأنظمة الرجعية على فلسطين، ولكن أي استراتيجية جديدة للمواجهة وفي ظل صعود الزمن التاريخي للمقاومة على أرض فلسطين أن يمارس دوراً في استنهاض الحالة الشعبية العربية، إلا أن شروط المواجهة لا تتحقّق بصورة تلقائية وبفعل القوانين الموضوعية فقط، بل إن الأمر بحاجة إلى حركة تحرر وطني فلسطيني وعربي.
من وكيف ستسقط سياسة التطبيع؟
استعادةُ المسألةِ التاريخية: وهي في الجوهرِ الهُويّة، أي القدرة على امتلاكِ التاريخ واستنطاقه وكتابته هي القدرة على إبراز الهوية وفهم رسالتها، حكماً ليس بالشعارات، ولا سياسة الاستجداء، ولا خطاب ناري يكرر رفضها، سيظل هذا الموقف ناقصاً في ظل غياب الشروط والفاعلية المطلوبة لتحقيق ذلك، مبدئياً تتحدد عبر هويتنا ورسالتنا. الهوية ليست عرقًا أو دينًا أو نظامًا أو عقيدة.. إنها روايتنا/حكايتنا وتاريخنا ولغتنا. الصراع هو من وكيف ومن سيكتب التاريخ؟ وما سيحذف؟ وكيف؟ وماذا؟
أن يكتبَ التطبيع الرواية: أسوأ أنواع التطبيع هو أن نقصي أنفسنا عن الرواية، ليس بقبول رواية الآخر فقط، بل المطلوب تفكيك روايتك أنت وثم قبول أن يكتب الآخر روايتك! والشروط لا تقف عند حدود الإعلان الرافض له فحسب. فمقاومة التطبيع هي حماية للذات، الصدقية مع الذات المستندة إلى الفعل اليومي والممارسة الجماعية وتعبر عن ضمير الشعب وحقه في المقاومة في سبيل الحرية. الصدقية السياسية تولد من تلك الأدوات التي تنشد التغيير، ومن إرادة سياسية تتجاوز الوضع القائم، ورؤية تدرك ماهيّة الممكن في الوضع أو الزمان المحدد والبيئة الاجتماعية، فهي فن المُمكن في الزمن المستحيل، من خلال السياسة التي تخلق واقعاً جديداً، وثقافةً جديدةً، وتخرج من متلازمة الفشل وثقافة الهزيمة نحو امتلاك عقيدة النصر، وعبر الخيارات المتاحة التالية:
• إدارة للصراعِ من خارج القيود التي أوجدها اتّفاق أوسلو، وأن تكون الوحدةُ الوطنيّةُ شاملةً مجسَّدة في منظمة التحرير الفلسطينية بمضمونها الجبهوي والكفاحي المعبرة والمكونة من جميع الفصائل والشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، أي كل ركائز المشروع الوطني الفلسطيني، بديل جديد بِنِيَّة ورؤية تستند إلى ثقافة الاشتباك المقاوم والشعبي والمدني والسياسي والتنظيمي، وحدة بمضمون استراتيجي تحرّري وطني جديد وموحّد.
• الوعيُ الاستراتيجيُّ لقضية فلسطين، من حيث علاقتها بمشروع النهضة العربية، وهذا يعني أيضًا الفهم الاستراتيجي للكيان الصهيوني والمشروع الصهيوني ووظيفته في المشروع الغربي، وتطوير عمل مناهضة التطبيع مع القوى الاجتماعية المختلفة وباتجاه احتضانها ودعمها، بما يمنحها مشروعيّةً شعبيّةً استنادًا إلى دائرتها الاجتماعية الشاملة.
• دعوة القوى الشعبية العربية الحيّة لمواصلة حصار النشاط التطبيعي في المنطقة العربية بوصفه طريقاً لإفشال أي اندماج أو اختراق إسرائيلي في المنطقة، بمواقف حزبية سياسية وفوقية ومعزولة، بل بالبعد الحقيقي الشعبي المنظّم، ومن خلال مبادرات تطلقها الفعاليات الاجتماعية والأكاديمية والشعبية والمدنية والنقابات المهنية مثل حملة (BDS)، وفي ذات السياق، لا يمكن أن تتّسع حركة المقاطعة عالمياً بينما تتراجع عربياً، وهذه الظاهرة تحمل في طياتها دلالات ومضامين خطيرة، فكل معركة ضد الاستلاب والتبعية، ومعركة إسقاط حلف التطبيع لا تنفصل عن معركة الحرية، وهذا يحتاج إلى ثورة فكرية تمتد على عموم مساحة الوطن العربي.
• القضيّةُ هي قضيّةُ الانتصارِ لاستراتيجيّةِ العمل المقاوم والتحرّري في مواجهة استراتيجية التطبيع والتبعية والتسوية الانهزامية، يكون ذلك بتوفير شروط الانتصار الحاسم والنهائي على العدو الإمبريالي والصهيوني وملحقاته، وأساس هذه الشروط توحيد وتعبئة كل قوى وطاقات شعوبنا في مقاومة الاستعمار والصهيونية والقوى المرتبطة بهما والممالأة لهما، واعتبار هذه القضية حجر الزاوية في أي مشروع سياسي جدير بانتسابه إلى الشعب أو إحدى طبقاته، وقد أفصحت وقاحة التطبيع بنسخته "الإبراهيمية" عن حقيقة المشروع الاستعماري الصهيوني الرجعي وعن صحة هذا التوجه، وبما لا يدع أدني عذر أو حجة للاعتراض عليه.
الخلاصة:
التطبيعُ هو "بوليصة تأمين أمريكية" للكيان الصهيوني كونها أمام تراجعاتٍ اضطراريّةٍ جديدة، وتحوّلاتٍ دوليّةٍ لغير صالحها، وتبدلاتٍ استراتيجيّةٍ تطال وظيفة "إسرائيل" للقيام بوظيفة إمبريالية إقليمية، بإلحاق الأنظمة في مشروعها وليس العكس! من مبدأ تثبيت وجود ودور وزعامة الكيان في المنطقة، وهذا يحتاج تأمين درع أو عمق أمني واستثماري ومالي وعسكري وسياسي وثقافي وتطبيع ديني يكرس قبولها ثمنه تصفية القضية الفلسطينية ومصادرة هوية وانتماء ومستقبل شعوب المنطقة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق