مسلسل الانتحار العربي مزمن. عمره مئة عام ونيف. الحرب في السودان، أداء نموذجي لحروب “الأخوة الأعداء”. تراث العنف يكاد يكون أيديولوجيا السياسة. عالم عربي مترامي الأطراف، يعيش على إيقاع التوجس. افدح ما فيه، انه يخاف من شعبه، ويلهيه بحروب “الأخوة الأعداء”.
السودان الآن. هذا ليس جديداً. حروبه موروثة. لا مناص منها. ليست بحاجة الى استدعاء. انها تنام في الفراش “السياسي” المحروس برماح الانتقام والتصفية. السودان مدرسة في العنف المتوارث. ما يحصل راهناً، تتمة لما حصل سابقاً. معارك تنتهي بخسارة السودان، وتسجيل الأرباح للعسكر والقبائل والاقاليم. السودان انتحر مراراً. تجزأ مراراً. استقر ذات حرب، على انفصال جنوبه عن شماله. السودان سودانان. الجيش جيشان. مسكين السودان: عاش تجربة رائدة فكرياً وايديولوجياً وحداثة. كان منارة. تم اخمادها بالقوة. الدم هو سياسة الاستعباد. وراهناً، السودان، بات بلا سودانيين. تفرَّع الشعب الى جبهات ومناطق وأرومات.. إنه الجحيم العربي.
ليس ثمة خطر على السودان راهناً، يوازي الأخطار التي تعرض إليها إبان الحكم العسكري الاستبدادي. لقد تمت تصفية تطلعات اليساريين والشيوعيين والقوميين والحداثيين والمثقفين وما تبقى من قيم عربية سالفة. العسكر وباء. الجيوش كوليرا. الأمن يتقن الإسكات والاغتيال. انها لعنة الوجود لا أكثر: نحن هنا، إذا نحن الضحية.
هل كان السودان كذلك دائماً؟ لا. كان على وعد مع الحرية والحداثة. ابتكر ديموقراطية عصرية، ما لبثت ان ورثتها موجات الاستبداد “الديموقراطي”، ولقد كانت اشد فتكاً من الاستبداد العسكري. ثم الاستبداد الديني، وكان الثمن فادحاً.
لماذا كل هذا؟
يُقال عادة، دين الدولة الإسلام. كذّابون. عاهرون. لصوص. انتهازيون. دين الدولة هو الفساد. ولا استثني دولة عربية من هذه التهمة. السلطة منصة فساد وإفساد. قتل واقتتال، استبداد وقمع، الحريات “رجس من قبل الانسان” فاجتنبوها.
هذه كيانات، عمرها قرن بالتمام والكمال. بلغت ذروة النقصان الأخلاقي، والاستهتار الوطني، والاجرام المباح. ضحايا هذه الكيانات شعوب، آمنت بالحرية والتحرر، ونخب دفعت ثمن تحزبها وتجندها لإقامة دولة العدالة والحرية والمساواة. ان هذه المنطقة الملعونة منذورة للقراصنة، المعترف بهم دولياً واممياً ومن.. منظمات “حقوق الانسان”، التي ترى بعين واحدة.
والسودان، ليس وحده كذلك، فلبنان، عاش منذ استقلاله على حافة حروب، قربه وفيه وعليه. فتنة الـ58، باهتة، ولكنها دشنت العنف الطائفي. حرب حزيران 1967 أنعشت فريقاً واغضبت فريقاً. استعدا. انفجر البركان في 13 نيسان 1975. تم استدعاء أطراف محلية وإقليمية ودولية. تم تدمير لبنان. ثم… عشنا “اتفاق الطائف” بالمقلوب. الامر لسوريا. السرقة مسموحة للجميع. الديموقراطية تمرنت على التعيين. تمت مصادرة القرارات. لبنان يعيش كل ظروف الفتنة، ولكنها ممنوعة، أو ممتنعة، لأن ميزان القوى “طابش” لمصلحة طائفة محددة. ولا نضيف أكثر. فمثل لبنان كيانات كثيرة.
الحروب محطاتنا الكارثية، حرب الـ1948 في فلسطين، فلول صهيونية هزمت بسرعة أربعة جيوش عربية. الجيوش العربية مشكوك بعسكريتها. انها خادمة السياسات التي استولت عليها عائلات وحزبيات وطوائفيات.. نحن جهنم التجارب الفاشلة.
صحيح ان للحروب حصة كبرى، بل الحصَة الأكبر، من التاريخ الإنساني. الحروب اوكسجين السياسة. ونادراً ما نقع على فكر او دين او ثقافة او عقيدة او ايمان، لم يتحمس للخوض في الدم. علة قديمة، قايين، هو الاب الدموي لهذه البشرية. ولذا، لا نعجب ابداً من ارتكاب الغرب “الانيق”، “الديموقراطي”، “الإنساني”، “الحقوقي”، السامي”، الـ… الى آخره من الصفات “الأخلاقية” المرموقة لا نعجب ابداً، من جدولة حروبه والبناء عليها… الغرب “الحضاري” جداً، ثعلب النهب والقهر والاستغلال. لا شهوة تفوق شهوة الاستبداد والإفساد والاستتباع.
الأيديولوجيات، تشبه الأديان. هي في مقام النقاء نظرياً. فعلاً الأديان كانت اشد فتكاً من البنى العسكرية الراهنة. إن معجزة تأليه الحرب، من خلال تتويجها بقضايا فاخرة، كالحرية والديمقراطية وال… هذه معجزة مفضوحة. ويصح القول إذاً: “وهل السياسة سوى الكذب والمكر والخداع والارتكاب؟”
حرب السودان، لن تكون الأخيرة. سبقتها حروب وحروب، ولم نعش كعرب، عاماً واحداً، بلا حروب ولا عنف. الازمات عندنا، يتم انتاجها غب الطلب. ثم يُعاد انتاجها مراراً. الازمات تفَرخ بين معركة و”سلام”. العبقرية العربية انجبت نموذجاً لا يُحتذى: انتاج او إنجاب الازمات والسياسات والغرق في إخفاقات بصورة متتابعة.
لا جديد في ما نقوله. سبقنا كثيرون الى وصف مآسينا. وصف يعود الى أكثر من ثلاثة ارباع القرن. اول الرائين، كان فيصل الأول ملك العراق: “أقول وقلبي ملآن بالأسى. انه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد. بل توجد كتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية، تتشبث بتقاليد واباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة”. (حنا بطاطو العراق: الطبقات الاجتماعية). وعليه، فإن “الخيار المتاح تاريخياً ينحصر في الاختيار بين الاستبداد والحرية”. (د. غسان سلامه).
وعليه، فان كل شيء “مسيس في العالم العربي، والسياسة العربية عورة لا يجوز الكشف عليها. اية مخابرات عربية تلاحق صدق المواطن، وتغض النظر عن الانحرافات السياسية”. (محمد جابر الانصاري).
حتى المتنبي عرفنا قديماً وتنبأ عنا حديثاً. قال:
“وإنما الناسُ بالملُوكِ، وما تُفلحُ عربٌ ملوكها عَجَمُ
لا أدب عندهم ولا حسبُ ولا عهود لهم ولا ذمم
بكل ارض وطئتها… أمم تُرعى لعبدٍ كأنها غنمُ
وهذا الشعر ينطبق على التراث السياسي العربي. “وهل السياسة الا الكذب والمكر والخداع”. (الامام محمد حسين كاشف الغطاء)
ويقول عصمت سيف الدولة في الاستبداد وفظاعاته:
“ليس ثمة خطر على حريات الشعوب، اشد فتكاً من الاستبداد بها بأسلوب لا شك في ديموقراطيته، وليس ثمة خطر على حريات الشعوب، أشد فتكاً من الاستبداد الديموقراطي”.
ما يحصل الآن، لا علاقة للشعوب العربية به. حتى الآن، لا يوجد شعب في أي كيان.
لقد تمت تصفية الشعوب دائماً.
طبعاً لسنا ملائكة ابداً. هذا ما جنته قناعاتنا وما أسفر عنه جبننا الوطني او القومي. ها ما أنجب جهلا في السياسة اعتماداً على أفكار وعقائد غير قادرة على الانجاب، ويطيب لها التكرار، وكأن العقائد مجرد صلوات.
مؤسف، لا بل مأساوي، ان تنجح دولة اغتصاب، وتفوز في كل الحروب. كيف؟ لماذا؟ من المسؤول؟ انها الدولة الديموقراطية الوحيدة في “صحراء الربع الخالي” من الحرية.
إسرائيل الصغرى، اطفأت كل أضواء الحرية في شبه القارة العربية. ومع ذلك، لا بد من تفاؤل، لا يشبه تفاؤل الذين يراهنون على التفتت اليهودي السريع في “إسرائيل”. اضغاث أحلام. العرب أضحوا فتاتاً. إسرائيل دخلت في معاناة داخلية، لسنا نحن سببها ابداً.
ومع ذلك، هناك أمل صادق. الفلسطيني تحت الاحتلال، يستعيد المبادرة. يُصوَّب ويصيب. شعاره الكتمان. بلا بهورة. من نتائج ذلك، ان “إسرائيل”، تطرح أسئلة على نفسها، كأنها تشك بإمكانية بقائها. يا ليت ذلك.
كل ما عدا ذلك خيانات وفرص ضائعة وسياسات تافهة.
ما زلنَا نُعوَّل، خارج فلسطين، على قيادات جديدة. عبث هذا. حظنا التاعس، ان نقلد دون كيشوت، لمحاربة طواحين الهواء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق