بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
كعادتها تحرص المقاومة الفلسطينية أن تطلق على معاركها مع العدو الإسرائيلي أسماءً معبرةً، وصفاتٍ قرآنيةً، وصفحاتٍ تاريخيةً، وأماني وطنيةً، تعبر من خلالها عن المعنى الذي تريد، والهدف الذي تقصد، والغاية التي إليها تتطلع، والرسالة التي توجه، فكانت معارك "الفرقان" و"حجارة السجيل"، و"العصف المأكول"، و"سيف القدس"، في مواجهة "الرصاص المصبوب"، و"عامود السحاب"، و"الجرف الصامد"، و"حارس الأسوار"، فَعَلَت الأولى وهي المقاومة على الثانية المعتدية وانتصرت، وتغلبت عليها وتفوقت، وأرغمتها ومرغتها، رغم أن الثانية الإسرائيلية قوية ومدججة بالسلاح، ومدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا، إلا أن الأولى وإن كانت أضعف مادياً، وأقل عدداً وأضعف سلاحاً، إلا أنها كانت دوماً هي الأعلى والأقوى، والأثبت والأبقى، والأكثر صموداً والأشد صبراً.
حملت معركة المقاومة الفلسطينية الأخيرة في مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة اسم "ثأر الأحرار"، رداً على "السهم الواقي" وهو الاسم الذي أطلقه جيش الاحتلال على عدوانه الأخير على الشعب الفلسطيني، ظاناً أنه بعدوانه الهمجي الذي طال الأطفال والنساء والمدنيين، وقتل الأسر والعائلات، ودمر البيوت والمساكن، أنه سيتمكن من إطفاء جذوة المقاومة، وإسكات فوهات البنادق، وتعطيل منصات الصواريخ، ومنع المقاومة من مواصلة مسيرتها واستكمال استعداداتها، وسيتمكن من تنفيذ مشاريعه الاستيطانية، واستفراده بالمناطق الفلسطينية، ومواصلة سياسة الاغتيالات التي أوغل فيها وأكثر منها.
إلا أن المقاومة الفلسطينية التي أخذت على عاتقها "ثأر الأحرار" ستفي بوعدها، وستحقق هدفها، وستواصل معركتها ضد العدو مهما بلغت قوته، وتمادى في وحشيته، واستمر في عدوانه، حتى تنال منه مرادها، وتحقق غايتها، فتثأر أولاً للأسرى الأحرار ثم للشهداء الأبرار، وتنتقم لهم من سجانهم ومن قاتلهم، ومن عدوهم ومعذبهم، فهذا وعدٌ قطعته على نفسها، ونذرت أبناءها للوفاء به، فالشهداء يستحقون، والأسرى يستأهلون، ولهم جميعاً علينا دينٌ وجبَ أداؤه، واستحق الوفاء به، ومنهم القادة الثلاثة الذين استشهدوا غدراً وغيلةً وعدد من أفراد أسرهم في غاراتٍ همجيةٍ إسرائيلية على بيوتهم ومساكنهم ضمن عدوانه المسمى "السهم الواقي".
ولعل آخر الأسرى الشهداء وأنبلهم الأسير الشهيد خضر عدنان، الذي ضحى بحياته في سبيل إخوانه الأسرى، ليمنع اعتقالهم، ويوقف التمديد الإداري بحقهم، ويحفظ حقوقهم، ويفرض حريتهم، فوجب على المقاومة إكرامه واستعادة جثمانه، والاحتفاء به وحُسنَ دفنه، والاحتفال به وتقبل التهاني باسمه.
الأحرار لا يكذبون ولا ينافقون، ولا يترددون ولا يتراجعون، ولا يخافون أو يجبنون، بل هم دوماً أشرافٌ شجعانٌ نبلاءٌ، صادقون مخلصون مضحون، يقاتلون كالفرسان بشرف من أجل قضايا الحق والعدل والشرف، وقد اعتدنا على المقاومة الفلسطينية أنها حرةٌ شريفةٌ، صادقةٌ مخلصةٌ، قويةٌ صلبةٌ، مقدامةٌ شجاعةٌ، تمتلك قرارها الحر، وتفي بوعدها الصادق، وتتميز بعزيمتها وإصرارها، وقوتها وقدرتها، وتناضل من أجل قضيتها، وتضحي في سبيل وطنها ومن أجل شعبها، فستكون لها الغلبة إن شاء في معركتها ضد العدو، وستثأر من حملةِ القِسي الظالمين، وستكسر سهم المعتدين الإسرائيليين، وستصبر على الضم والظلم، والأذى والعنت حتى تحقق أهدافها وتحرر أرضها وتستعيد حقوقها.
لعل المعركة ما زالت في بداياتها، ولم تطوِ بعدُ صفحاتها، وربما تشهد الكثير من الأحداث، فنحن على أعتاب الساعات الأولى من يومها الرابع، ولما تستخدم المقاومة الفلسطينية كل أسلحتها، ولم تكشف بعد عن مفاجئاتها، وما زالت تستخدم صواريخها القديمة المخزنة، التي تريد التخلص منها وتسعى للاستغناء عنها، فقد باتت تمتلك غيرها وتصنع أفضل منها، مما هو أبعد مدىً وأكثر دقةً وأشد تدميراً، وهو ما لا يعرف عنه العدو شيئاً أو يتوقعه، فهو يظن أن ما لدى المقاومة ليس أكثر من صواريخ حديدية عبثية عمياء طرشاء قصيرة المدى قليلة الأثر، وما علم أن ترسانتها قد زادت غنىً وتنوعاً، وفيها صواريخ ومسيرات، ومضادات وهاونات، وكورنيت مقذوفاتٌ كثيرةٌ متنوعة، وما ستشهده المعركة إن طالت أكثر مما يظنه، وأخطر مما يتوقعه.
كما انتصرت المقاومة الفلسطينية على العدو في معاركها الأولى، فإنها بإذن الله ستنتصر في معركتها الأخيرة، وستحبط المعتدين وستفشلهم، وستضعف جندهم وتمزق جمعهم، وستشتت صفهم وتفرق وحدتهم، وستكون لها الكلمة الأولى والأخيرة، وسيخشى العدو مواجهتها، وسيحرص على مهادنتها، وسيقبل هدنتها، وسينزل عند شروطها، وسيستجيب إلى مطالبها، وستخرج منتصرةً مرفوعة الرأس موفورة الكرامة، سيدة قوية مهابة، عزيزة كريمة مصانة، وسيحسب العدو حسابها، ولا يعيد المغامرة معها، وسيعض أصابعه ندماً على استفزازها والاعتداء عليها، ولن ينفعه ترميمٌ ولا تدريب، ولن تفيده قوة ولا مناورة، ولن ينهض من سقطته أبداً، ولن يجبر عورته أحد، وحينها سيعلم وحلفاؤه أي منقلبٍ ينقلبون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق