معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
■ في 19/5/2020 أخذ الاجتماع القيادي، المنعقد في رام الله، برئاسة الرئيس محمود عباس قراراً (بالتحلل من التزامات «اتفاق أوسلو»، وبشكل خاص التنسيق الأمني).
جاء ذلك رداً على قرار حكومة بنيامين نتنياهو، في 17/5 أي قبل يومين، ضم 30% من أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة. قرار نتنياهو، وشريكه وزير الدفاع الإسرائيلي (آنذاك) بيني غانتس، جاء تطبيقاً لـ«صفقة القرن»، التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، مشروعاً لحل الصراع في المنطقة، وهي الصفقة التي انتظرتها القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية طويلاً، وأطلقت عشرات النداءات تستعجل الكشف عنها، إلى أن صدمتها بعناصرها القائمة على شطب الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتجاهلها تماماً، والبناء بالمقابل على المشروع الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني، من ضمنه الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، ومن ضمنه أيضاً الاعتراف بحق إسرائيل في ضم 30% من مساحة الضفة الفلسطينية (بدون القدس طبعاً)، وهي الصفقة التي وصفتها القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية أنها «صفعة» وليست «صفقة»، والتي رأت فيها القوى الوطنية المعارضة لأوسلو، «صفعة» للرهان على الولايات المتحدة، لحل الصراع مع إسرائيل و«صفعة» لسياسة تعطيل قرارات المجلس الوطني (2018)، بوقف العمل بالمرحلة الانتقالية لـ«اتفاق أوسلو»، والتحلل من قيوده السياسية (عبر سحب الاعتراف بإسرائيل) والأمنية (عبر وقف كل أشكال التنسيق الأمني مع إسرائيل) والاقتصادية (عبر الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي، والخروج من الغلاف الجمركي الموحد)، كما أقر المجلس الوطني آنذاك، رفض العمل بالرعاية الأميركية المنفردة للعملية السياسية، بعد أن تبين أنها رعاية منحازة، وغير نزيهة، وغير محايدة، ودعا بدلاً من ذلك، إلى مؤتمر ترعاه الأمم المتحدة ومجلس أمنها، ودول أخرى ذات صلة.
ومع أن عبارة «التحلل» من الاتفاق أثارت جدلاً، في تفسيرها، واعتبرت خطوة يمكن التراجع عنها في وقت لاحق، ودُعي بالمقابل إلى استبدالها بعبارة «إلغاء» إلا أن القرار شكل بصورة عامة خطوة بالاتجاه الصحيح، لأنه فتح الباب أمام إمكانية تطويره لاحقاً، مع تطور الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في الصراع مع الاحتلال ومشاريعه، ومع السياسات الأميركية المنحازة لإسرائيل، كذلك أنعش القرار الحركة الشعبية في الأراضي المحتلة، التي طورت هي الأخرى أساليبها الصدامية مع قوات الاحتلال، بعد أن استعادت ثقتها النسبية بالدور القيادي للمؤسسة الفلسطينية، ومدى استعدادها لقلب الصفحة مع الاحتلال لصالح المقاومة الشاملة بديلاً للرهانات الهابطة والفاسدة، التي أكدت بطلانها وفشلها.
وفي خطوة لاحقة، في الاتجاه نفسه، انعقد مؤتمر الأمناء العامين لفصائل العمل الوطني، برئاسة الرئيس محمود عباس، في 3/9/2020، بين رام الله وبيروت، تمحور حول الآليات المطلوبة لتطوير المقاومة الشعبية في الأراضي المحتلة، ومن ضمنها قرار بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة من جميع الأطراف، وتجاوز الانقسام القائم بين سلطتي رام الله وغزة، لصالح «الوحدة في الميدان».
ورغم كل الملاحظات، المحق منها وغير المحق، اعتبر مؤتمر الأمناء العامين خطوة أساسية أخرى، على طريق طي الرهان على الحلول السياسية الهابطة، ولصالح الذهاب جميعاً إلى المقاومة الشعبية بكل أساليبها وآلياتها، في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولا شك في أن قمة الأمناء العامين وردت أيضاً، في سياق الرد الفلسطيني العملي على مشروع «تحالف أبراهام»، الذي ضم إلى جانب إسرائيل كلاً من دولة الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والسودان، والمغرب.
بدا المشهد الفلسطيني في ظل قمة الأمناء العامين، مبشراً بالإيجابيات الوطنية، رغم الشكوك المبدئية أن القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية لم تقطع بشكل جذري، مع رهاناتها السابقة، وأن مواقفها الجديدة جاءت في إطار ردود الفعل على الإحباط الذي أصابها بعد فشل الرهان على أميركا، والرهان على مبادرة السلام العربية.
الانقلاب الغادر الأول
في 17/11/2020، أي بعد ستة أشهر على قرارات التحلل من «التزامات أوسلو»، وأقل من ثلاثة أشهر على قرارات قمة الأمناء العامين، أعلن وزير الشؤون المحلية في سلطة الحكم الإداري والذاتي، عودة السلطة إلى الالتزام باتفاق أوسلو واستحقاقاته، مقابل إعلان نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل، هو الآخر التزامه بالاستحقاقات، واعتبر الوزير الفلسطيني ذلك انتصاراً للقيادة السياسية لسلطة الحكم الإداري الذاتي، بذريعة أنها المرة الأولى التي يعلن فيها نتنياهو التزامه «اتفاق أوسلو».
وفي البحث عن هذا الانتصار، لم نجد له أي أثر في السلوك اليومي لدولة الاحتلال، فلا مشاريع الاستيطان توقفت، ولا عمليات اقتحام المدن والبلدات الفلسطينية لاعتقال المواطنين توقفت، ولا مشاريع تهويد القدس، وتوسيع البؤر الاستيطانية توقفت، كما أن حكومة إسرائيل لم تتراجع عن قراراها (برنامجها) ضم 30% من أراضي الضفة الفلسطينية.
كان واضحاً أن الجانب الفلسطيني الرسمي، هو الذي تراجع عن قرار 19/5/2020، وأنه هو الذي تراجع عن قرارات قمة الأمناء العامين في 3/9/2020.
التراجع حصل عن «قرار التوافق الوطني القيادي» بقرار منفرد، لم تشرح حيثياته لا لفصائل العمل الوطني، الشريك في قرارات 19/5 وقرارات 3/9، ولا للرأي العام الفلسطيني، كان نتاجاً لسياسة إدارة مفاوضات، خلف الأبواب، على غرار مباحثات «اتفاق أوسلو» السرية الشهيرة، شكلت انقلاباً على قرارات التوافق الوطني.
ثم تبين لاحقاً أن كل ما في الأمر، أن القيادة السياسية لسلطة الحكم الإداري الذاتي تلقت «نصائح» من الفريق الانتخابي للمرشح للرئاسة الأميركية جو بايدن، ووعوداً بأنه في حال نجح بايدن في الانتخابات، فإنه سيعيد النظر بقرارات الرئيس ترامب ذات الشأن بالمسألة الفلسطينية، شرط أن تعود السلطة الفلسطينية إلى الالتزام بـ«اتفاق أوسلو»، خاصة الجانب الأمني منها، تعبيراً عن حرص بايدن على المصالح الإسرائيلية (علماً أن «التحلل» لم يصب من التزامات أوسلو إلا بعض جوانب التنسيق، أما التنسيق الأمني بين جهاز المخابرات التابع للسلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فلم يتوقف، بل حافظ على نشاطيته برعاية مباشرة من الغرفة الأمنية الأميركية في سفارة الولايات المتحدة في القدس المحتلة، وهي الغرفة المعنية برعاية التنسيق الأمني، والحرص على إدامته.
ودون الدخول في التفاصيل، فالوقائع تؤكد أن إدارة بايدن (بعد نجاحه بالانتخابات) أخلت بوعودها للسلطة الفلسطينية والتي ما زالت تناشد وتتذلل، بحثاً عن «أفق سياسي» يمهد لما يسمى «حل الدولتين»، وهو الأمر الذي استغلته الإدارة الأميركية لتجر سلطة الحكم الإداري الذاتي إلى محطة جديدة للتنازلات المجانية، كما تمثلت في مسار «العقبة – شرم الشيخ» سيئ الصيت، والذي شكل الانقلاب الثاني على قرارات 19/5/2020، وقرارات المجلس المركزي في 6 شباط (فبراير) 2022.
الانقلاب الغادر الثاني
في الأيام الأخيرة للعام المنصرم 2022، نجح نتنياهو مع تحالفه اليميني المتشدد والفاشي، بنيل ثقة الكنيست الإسرائيلي لحكومته الجديدة، التي ورثت حكومة تحالف لابيد – غانتس.
العنوان الرئيسي لبرنامج حكومة نتنياهو هو الإعلان عن أن «أرض فلسطين كاملة، هي ملك حصراً للشعب اليهودي»، أي أنه هذه المرة لم يكتف بالإعلان عن ضم 30% من الضفة الفلسطينية، بل ضم كامل أراضي الضفة + الجولان السوري المحتل.
اللافت هذه المرة أن القيادة السياسية لسلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني، التي كانت في وقت سابق، قررت «التحلل» من التزامات أوسلو، رداً على قرار نتنياهو ضم 30% من أراضي الضفة، بلعت لسانها هذه المرة، واكتفت بالقول أنها تتعامل مع أية حكومة يختارها الإسرائيليون، في وقت امتلكت فيه الدوائر المعنية في الاتحاد الأوروبي، والإدارة الأميركية الشجاعة، لتعلن مقاطعتها للوزيرين سموتريتش وبن غفير، باعتبارهما متشددين، إرهابيين، ما شكل في المضمون صفعة قوية على قفا القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية.
أمام تصاعد المقاومة الشعبية والمسلحة في الضفة الفلسطينية، (وفي القلب منها القدس)، استدعت واشنطن وزير الشؤون المدنية في سلطة الحكم الإداري الذاتي، للتباحث في الوضع الأمني في الضفة، والذي بدا يمهد لانتفاضة شاملة، وللبحث المشترك في كيفية إجهاض هذا التطور، وتمكين سلطات الاحتلال بالتعاون مع الأجهزة الأمنية لسلطة الحكم الإداري الذاتي، من السيطرة على كامل أراضي الضفة.
عاد الوزير المذكور من واشنطن ليعلن أنه اتفق مع الإدارة الأميركية على «العمل لأجل حماية حل الدولتين»، بما يعني في السياق، كما أوضحت الجهات والدوائر المطلعة، دوراً أمنياً متشدداً للسلطة الفلسطينية بالتعاون مع سلطات الاحتلال، لإجهاض المقاومة الشعبية والمسلحة في الضفة (وفي القدس) مقابل «وقف الإجراءات الأحادية» لدولة الاحتلال، والتي تنتهك بها التزامات «اتفاق أوسلو».
وفي سياق «حماية حل الدولتين»، و«التمهيد لإطلاق أفق سياسي» يشكل مقدمة لـ«حل الدولتين»، دُعي إلى اجتماع العقبة في الأردن، بحضور أردني – مصري – أميركي – إسرائيلي – فلسطيني، تركزت فيه النقاشات والمباحثات على الاتفاق على تفاهمات أمنية، لإخماد نار المقاومة الشعبية والمسلحة، طرحت في سياقه خطة الجنرال مايك فنزل، لبناء قوة فلسطينية من 10 آلاف جندي، مدربة تدريباً خاصاً، تتولى إخماد المقاومة بشكل خاص في نابلس وجنين ومخيماتها، وتكليف السلطة الفلسطينية بإخماد نيران المقاومة الشعبية في المنطقة (أ)، مقابل تسهيلات إدارية، مالية، وتجارية من قبل الجانب الإسرائيلي لصالح الجانب الفلسطيني.
الأطراف الفلسطينية المنخرطة في مسار «العقبة – شرم الشيخ» حاولت أن تدافع عن نتائج المسار بفتح النيران على المعارضة، وبتقديم تفاهمات العقبة على أنها منعطف تاريخي، يعيد الحياة إلى الشرايين المتصلبة لاتفاق أوسلو، ويفتح نافذة على العملية السياسية للوصول إلى «حل الدولتين»، فأطلقت على اجتماعات «العقبة – شرم الشيخ» لقب «القمة»، علماً أنها كانت على مستوى موظفين، أرقاهم برتبة وزير، أما جدول الأعمال فلم يتجاوز حدود القضايا الأمنية في محاولة إسرائيلية واعية، لتحويل قضية الشعب الفلسطيني إلى مجرد تفاهمات أمنية، يجري حلها على مستوى الأجهزة الأمنية، وإفراغها من مضمونها السياسي كقضية تحرر لشعب تحت الاحتلال.
نجحت المقاومة الشعبية والمسلحة في إجهاض النتائج الأمنية لمسار «العقبة – شرم الشيخ»، كما أسهمت الفاشية الإسرائيلية من موقعها هي الأخرى في ردم جثة التفاهمات الأمنية لـ«العقبة – شرم الشيخ»، غير أن «المسار» نفسه ما زال حياً، وما زالت الدوائر الأميركية والإقليمية، والإسرائيلية، تعمل على إحيائه، إما بالصيغة نفسها، أو بصيغ بديلة، كالدعوة إلى لقاء إسرائيلي – فلسطيني تحت رعاية «رباعية ميونيخ» (مصر + الأردن + ألمانيا + فرنسا) برعاية غير مباشرة من الولايات المتحدة المشغولة في معركة التجديد لبايدن، والتعقيدات الدولية لمعركة أوكرانيا، أو (كخيار آخر) الدعوة إلى اجتماع «منتدى النقب» يتم توسيع المشاركة فيه فلسطينياً وأردنياً، يستكمل ما بدأه مسار «العقبة – شرم الشيخ».
في كل الأحوال، كل هذه التحركات تتم تحت سقف أوسلو والتزاماته، التي تحرص القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية على تأكيد العمل بها.
إنها سياسة الانقلابات على برامج العمل الوطني، وعلى قيم الائتلاف والشراكة الوطنية.
إنها – مرة أخرى – سياسات طبقة حاكمة، غلبت مصالحها على مصالح شعبها، وفقدت الإرادة السياسية لإبداع استراتيجية كفاحية بديلة ■
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق