معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
■ وصل دونالد ترامب (الجمهوري) إلى البيت الأبيض في واشنطن، سبقته تصريحاته، باستعداده لحل قضية الصراع في المنطقة بين إسرائيل والفلسطينيين في نصف ساعة، ووعد بإطلاق مبادرة، أطلق عليها «صفقة القرن» أو «صفقة العصر» التي من شأنها أن تنقل المنطقة واقليم الشرق الأوسط، إلى محطة جديدة، يسودها السلام والوئام وحسن الجوار، والتعاون الاقتصادي، وفي باقي المجالات.
القيادة السياسية لسلطة الحكم الإداري الذاتي، بنت استراتيجيتها على الخيار الوحيد، أي التفاوض مع إسرائيل، في ظل الرعاية الأميركية (رغم ادعاءاتها أنها لم تعد تقبل بالولايات المتحدة راعياً، بعد أن فقدت حيادها ونزاهتها. وترجمت استراتيجيتها هذه بالترحيب بالرئيس ترامب، وتجديد الرهان على دور واشنطن، وتعلقت بوعوده في إطلاق «الصفقة» تعلق الغريق بقطعة خشب في بحر هائج. إذ كان يقلق القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية أن تغرق القضية في الفراغ السياسي، وأن يخلو الجو من المبادرات ومشاريع التسوية، مما يضع رام الله أمام استحقاقات أقلها ضغوط من القوى السياسية الفلسطينية من أجل العمل على تطبيق قرارات مغادرة اتفاق أوسلو، والتزاماته، كما أقرها المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في آذار (مارس) 2015.
ولكي توفر السلطة الفلسطينية لنفسها فرصة لتتهرب من الضغوط الوطنية، رأت في وعد ترامب، كما رأت في «الصفقة» الموعودة حبل النجاة، وصار النداء لترامب باستعجال إطلاق صفقته «اللازمة الدائمة» في بيانات السلطة الفلسطينية وتصريحاتها ومواقفها السياسية، باعتبار تلك الصفقة باتت هي المحور المركزي الذي ستدور حوله العملية السياسية المنتظرة، التي من شأنها أن ترث العملية السياسية السابقة، التي أعلن وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري، وفاتها في شهر نيسان (إبريل) 2014.
هنا جدير بالملاحظة أن الرئيس السابق باراك أوباما، قدم للفلسطينيين في الأيام الأخيرة من شهر كانون الأول (ديسمبر) 2016، أي قبل مغادرته البيت الأبيض بأيام، هدية هي القرار 2334 الذي اتخذه مجلس الأمن بالإجماع (بعد أن امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت) وهو يدعو إلى وقف الاستيطان وإدانته، باعتباره عملاً غير مشروع، ويؤكد الاعتراف بالأراضي الفلسطينية (بما فيها القدس) أرضاً محتلة، وهو ما اعتبرته إسرائيل «صفعة» وجهها إليها أوباما. قبل رحيله، اللافت في هذا السياق، أنه وبدلاً من التركيز على أهمية القرار المذكور، وتنظيم حملة دولية للضغط على مجلس الأمن لفرضه على إسرائيل، قللت القيادة السياسية للسلطة من أهمية هذا القرار، ولم يدخل في صلب خطتها للتحرك السياسي، خوفاً من أن يشوش ذلك على رهانها على ترامب وصفقته المزعومة، خاصة وأن ترامب جعل الشرق الأوسط محطته الخارجية الأولى، في الرياض، عقد خلالها ثلاث قمم مع السعودية، ومع دول الخليج، ومع أكثر من ثلاثين دولة، من بينها فلسطين، وعاد بعدها إلى بلاده محملاً بالهدايا والمجوهرات، ومئات العقود التجارية، خاصة مشاريع التسليح، بما يضمن للمجمع الصناعي والعسكري، مرحلة جديدة من النشاط والإنتاج والأرباح. كان شعار ترامب واضحاً «إنهم يملكون الكثير من المال، وعلينا أن نأخذه منهم لصالح أميركا»، وهذا ما حققه في زيارته. غير أن اللافت هنا، أن ترامب في زيارته لإسرائيل، وفي السياق لكنيسة المهد في بيت لحم، التقى الرئيس محمود عباس لمدة نصف ساعة، خرج بعدها يشيد بالرئيس عباس الذي «أقنعه خلال نصف ساعة بعدالة القضية الفلسطينية»، وجدد وعده أنه سيطلق صفقة توفر العدالة للجميع بما فيها – طبعاً – دولة إسرائيل.
التطبيع العربي – الإسرائيلي مقدمة للحل
بعيداً عن المسميات، فإن استراتيجية ترامب، التقت في خطواتها الرئيسية مع جانب من مؤتمر مدريد، ومع استراتيجية إسرائيل منذ أول رئيس حكومة ديفيد بن غوريون، مروراً بشمعون بيريز، وصولاً إلى نتنياهو، وتلتقي هاتان الاستراتيجيتان (مدريد وإسرائيل) على مبدأ «التطبيع مقدمة للحل».
فإذا عدنا إلى زمن حكومة بن غوريون، تطالعنا خطته للتطبيع مع المحيط باعتباره الضمان الحقيقي لأمن إسرائيل، وتحويل الأعداء إلى أصدقاء، لكن في ظل حالة رسمية عربية، لم تجرؤ على الاستجابة لهذه الرؤية، علقت في سياقها «سلامها» مع إسرائيل على حل قضية اللاجئين، أطلق بن غوريون «خطة الضواحي»، في التطبيع، والهدف من ذلك التطبيع مع الدول غير العربية لإقامة تحالف مع إسرائيل يشكل طوقاً على المنطقة العربية، فاتجه نحو إيران الشاهنشاهية، وإلى تركيا غربها، في إطار العمل على تكريس هذا التحالف في حلف بغداد، الذي كان يفترض أن يضم إلى جانبه العراق، الذي أطلق اسم عاصمته على الحلف، وتركيا، وإيران، وباكستان وغيرها، وصولاً إلى عواصم عربية، غير أن ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 أجهضت هذا الحلف وأفقدته جدواه، بعد أن خرج العراق منه، وبعد أن تراجعت الدول العربية التي كانت مرشحة لدخوله.
«مؤتمر مدريد» للسلام في الشرق الأوسط، أطلق مسار متعدد الطرف، الذي ضم إلى جانب إسرائيل، وم. ت. ف، عدداً من الدول الإقليمية والعربية وغيرها، بلغ عددها حوالي 30 دولة، تمحورت نقاشاتها حول مجالات التعاون (التطبيع) الإقليمي في الاقتصاد، والتجارة، والبيئة، والثقافة وغيرها، مستبعدة القضايا الجوهرية «للسلام»، كالانسحاب الإسرائيلي، والاستيطان، والحدود، ومسألة القدس، وقضية اللاجئين، باعتبارها، حسب ادعاء الولايات المتحدة وإسرائيل، تخص المفاوضات الثنائية، بين إسرائيل وكل من الدول العربية المعنية على حدة (سوريا، م. ت. ف، لبنان، الأردن).
وكان واضحاً أن الهدف من مفاوضات متعددة الطرف، كان الدفع باتجاه تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، قبل حل المسألة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية (الضفة الفلسطينية، وفي القلب منها القدس، والجولان، وجنوب لبنان)، وحل قضية اللاجئين، وضمان حقهم في العودة، وهذا ما تنبه له الوفد السوري الذي انسحب من المفاوضات متعددة الطرف.
في ظل تداعيات «اتفاقيات السلام» بين إسرائيل وبعض العرب (مصر، الأردن، م. ت. ف)، ومع إطلاق المبادرة العربية للسلام، التي أقرت مبدأ «التطبيع مقابل الانسحاب»، أطلق نتنياهو مشروعه للتطبيع وفق «خطة الأخطبوط» التي تعني مد الأيدي في أكثر من اتجاه، لإقامة التطبيع مع الأطراف العربية، منتقلاً من استراتيجية «الضواحي»، كما أطلقها بن غوريون، إلى استراتيجية «القلب»، أي اختراق النظام العربي، والتمدد داخله من بلد لآخر، بما يبقي الجانب الفلسطيني محاصراً في عالم عربي مرتبط بمعاهدات السلام مع إسرائيل، من شأن ذلك أن يشكل ضغطاً على م. ت. ف. والسلطة الفلسطينية لتليين مواقفها، والهبوط بشروطها من أجل التسوية، وإلا أصيبت بعزلة إقليمية في ظل احتلال إسرائيلي متوحش، لا حدود لأطماعه في الأرض الفلسطينية المحتلة، يرفض الاعتراف بحق العودة للاجئين، مصراً على التمسك بالقدس «موحدة» عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، وفي ظل تهديد لا يتوقف، يطال المقدسات الإسلامية والمسيحية ومصيرها.
كل هذا، اختصره ترامب في المؤتمر الاقتصادي الذي استضافته العاصمة البحرينية (المنامة)، حضرته إسرائيل وصف عريض من الدول العربية والإقليمية، كان هدفه بناء أرضية لتعاون اقتصادي تجاري أمني ثقافي، يسبق الحل السياسي للصراع في المنطقة، ويمهد لصفقة القرن التي وعد بها الرئيس الجديد للبيت الأبيض.
وكان واضحاً للعيان أن «مؤتمر البحرين»، الذي رعاه صهر ترامب، ومبعوثه للشرق الأوسط جاريد كوشنير، شكل ترجمة أميركية للرؤية الإسرائيلية لمفهوم «السلام» ومفهوم «التسوية» ربطاً بالتطبيع.
وهذا ما شكلت «تحالفات أبراهام» ترجمته حين أعلن عن تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل من دولة الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والسودان، والمغرب، أقيم لهذا الأمر احتفال في البيت الأبيض، أريد منه إحياء الاحتفال الشهير بتوقيع «اتفاق أوسلو» في زمن الرئيس الأسبق كلنتون.
ولعل «صدمة» المنامة لم تشكل سبباً كافياً للتدقيق بما يكفي، برهانات القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية على وعود ترامب، إلى أن جاءت «الصفعة» المدوية، في الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، وإلغاء القنصلية العامة للولايات المتحدة في القدس الشرقية، وبحيث تكون السفارة، وليس غيرها، وسيلة للاتصال بالولايات المتحدة، وبما يكرس اعتراف السلطة الفلسطينية بالخطوة الأميركية، وابتلاع «صفعتها» والتساوق مع خطواتها.
«الصفعة»
هو الاسم الذي أطلقه الرئيس محمود عباس على «صفقة القرن» بعد أن بدأ ترامب بالكشف عن مضمونها، بدءاً من الاعتراف بالقدس المحتلة «عاصمة لإسرائيل»، ونقل سفارة بلاده إليها، لتكون هي محطة الاتصال الأميركية الوحيدة مع الفلسطينيين، ما يعتبر إرغاماً لهم على الاعتراف بالقرار الأميركي المزدوج، ومن ضمنه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
كذلك كشفت عناصر «الصفعة» حجم التسرع الفلسطيني الرسمي بالرهان على ترامب ووعوده، فضلاً عن حجم الخذلان الذي أصاب القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، ما أدخلها أحياناً في نزاع كلامي حاد مع بعض أركان إدارة ترامب، كسفيره في القدس، على سبيل المثال.
وافقت «الصفعة» على ضم إسرائيل لـ 30% من مساحة الضفة الفلسطينية (منقوصاً منها القدس)، تضاف إلى المنطقة (ج) التي تساوي 60% من مساحة الضفة.
كذلك دعت إلى حلول بديلة لقضية اللاجئين تقود إلى إسقاط حق العودة، وحل وكالة الغوث، ونقل خدماتها إلى الدول المضيفة.
كما دعت إلى دولة فلسطينية منقوصة السيادة، مقطعة الأوصال، تحت الهيمنة السياسية والأمنية والاقتصادية لإسرائيل، ما يجعل الحكم الإداري الذاتي الحالي، مع بعض التعديلات، هو «الحل الدائم» للمسألة الفلسطينية، مقابل إسقاط حق تقرير المصير والفصل بين الفلسطينيين في إسرائيل والآخرين في الضفة، وكذلك من هم في غزة إلى جانب نزع الهوية الفلسطينية عن الشتات.
وهكذا تكون «صفقة القرن» قد قدمت إلى الفلسطينيين حلاً «أميركياً» صاغته حكومة نتنياهو غانتس، يلبي طموحات المشروع الصهيوني، ويحطم آمال الشعب الفلسطيني وأحلامه. ولعل هذا ما دفع القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية إلى البحث عن «تكتيكات» بديلة للرهان على صفقة ترامب.
في هذا السياق وافقت القيادة السياسية للسلطة، وعلى مضض، على قرارات المجلس الوطني (2018) بوقف العمل بالمرحلة الانتقالية باتفاق أوسلو، ووقف الرهان على الدور الأميركي، لصالح حل وفق قرارات الشرعية الدولية، في إطار مؤتمر دولي ينزع عن أميركا نفوذها في إدارة العملية السياسية.
ثم خطت القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية خطوة تكتيكية أخرى في 19/5/2020 «بالتحلل» من التزامات أوسلو، خاصة «الجانب الأمني» منها.
كذلك خطت خطوة تكتيكية أخرى في 3/9/2020، رداً على ولادة «تحالف أبراهام»، بعقد مؤتمر للأمناء العامين بين رام الله وبيروت، كان من أهم قراراته تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية في الضفة الفلسطينية.
صحيح أن القيادة السياسية للسلطة، وافقت على كل هذه القرارات، لكنها من جانب آخر، وباعتراف خطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة في أيلول 2022، عطلت منذ العام 2015، قرارات وقف العمل بـ«اتفاق أوسلو»، مقابل حرصها على التزامات السلطة به، تأكيداً منها على الرهان على الوعود الأميركية.
وقد سبق هذا الاعتراف، الانقلاب السياسي على قرارات المجلسين الوطني والمركزي، وعلى مؤتمر الأمناء العامين في 3/9/2020، حين أعلن وزير الشؤون المدنية في الضفة حسين الشيخ، في 17/11/2020، العودة إلى الالتزام بـ«اتفاق أوسلو» في كافة جوانبه، استجابة لضغوط ووعود المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية جو بايدن، بإحياء العملية السياسية حين فوزه في الانتخابات.
جرت الانتخابات وفاز بايدن، وخسر ترامب، فما الذي حصل بعد ذلك؟
• هل أوفى بوعده إلى القيادة الفلسطينية ؟
• هل تراجع عن قرارات إدارة ترامب؟
• هل أطلق العملية السياسية؟
• وهل اتخذ موقفاً محايداً بين إسرائيل والشعب الفلسطيني؟ ■
■ وصل دونالد ترامب (الجمهوري) إلى البيت الأبيض في واشنطن، سبقته تصريحاته، باستعداده لحل قضية الصراع في المنطقة بين إسرائيل والفلسطينيين في نصف ساعة، ووعد بإطلاق مبادرة، أطلق عليها «صفقة القرن» أو «صفقة العصر» التي من شأنها أن تنقل المنطقة واقليم الشرق الأوسط، إلى محطة جديدة، يسودها السلام والوئام وحسن الجوار، والتعاون الاقتصادي، وفي باقي المجالات.
القيادة السياسية لسلطة الحكم الإداري الذاتي، بنت استراتيجيتها على الخيار الوحيد، أي التفاوض مع إسرائيل، في ظل الرعاية الأميركية (رغم ادعاءاتها أنها لم تعد تقبل بالولايات المتحدة راعياً، بعد أن فقدت حيادها ونزاهتها. وترجمت استراتيجيتها هذه بالترحيب بالرئيس ترامب، وتجديد الرهان على دور واشنطن، وتعلقت بوعوده في إطلاق «الصفقة» تعلق الغريق بقطعة خشب في بحر هائج. إذ كان يقلق القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية أن تغرق القضية في الفراغ السياسي، وأن يخلو الجو من المبادرات ومشاريع التسوية، مما يضع رام الله أمام استحقاقات أقلها ضغوط من القوى السياسية الفلسطينية من أجل العمل على تطبيق قرارات مغادرة اتفاق أوسلو، والتزاماته، كما أقرها المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في آذار (مارس) 2015.
ولكي توفر السلطة الفلسطينية لنفسها فرصة لتتهرب من الضغوط الوطنية، رأت في وعد ترامب، كما رأت في «الصفقة» الموعودة حبل النجاة، وصار النداء لترامب باستعجال إطلاق صفقته «اللازمة الدائمة» في بيانات السلطة الفلسطينية وتصريحاتها ومواقفها السياسية، باعتبار تلك الصفقة باتت هي المحور المركزي الذي ستدور حوله العملية السياسية المنتظرة، التي من شأنها أن ترث العملية السياسية السابقة، التي أعلن وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري، وفاتها في شهر نيسان (إبريل) 2014.
هنا جدير بالملاحظة أن الرئيس السابق باراك أوباما، قدم للفلسطينيين في الأيام الأخيرة من شهر كانون الأول (ديسمبر) 2016، أي قبل مغادرته البيت الأبيض بأيام، هدية هي القرار 2334 الذي اتخذه مجلس الأمن بالإجماع (بعد أن امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت) وهو يدعو إلى وقف الاستيطان وإدانته، باعتباره عملاً غير مشروع، ويؤكد الاعتراف بالأراضي الفلسطينية (بما فيها القدس) أرضاً محتلة، وهو ما اعتبرته إسرائيل «صفعة» وجهها إليها أوباما. قبل رحيله، اللافت في هذا السياق، أنه وبدلاً من التركيز على أهمية القرار المذكور، وتنظيم حملة دولية للضغط على مجلس الأمن لفرضه على إسرائيل، قللت القيادة السياسية للسلطة من أهمية هذا القرار، ولم يدخل في صلب خطتها للتحرك السياسي، خوفاً من أن يشوش ذلك على رهانها على ترامب وصفقته المزعومة، خاصة وأن ترامب جعل الشرق الأوسط محطته الخارجية الأولى، في الرياض، عقد خلالها ثلاث قمم مع السعودية، ومع دول الخليج، ومع أكثر من ثلاثين دولة، من بينها فلسطين، وعاد بعدها إلى بلاده محملاً بالهدايا والمجوهرات، ومئات العقود التجارية، خاصة مشاريع التسليح، بما يضمن للمجمع الصناعي والعسكري، مرحلة جديدة من النشاط والإنتاج والأرباح. كان شعار ترامب واضحاً «إنهم يملكون الكثير من المال، وعلينا أن نأخذه منهم لصالح أميركا»، وهذا ما حققه في زيارته. غير أن اللافت هنا، أن ترامب في زيارته لإسرائيل، وفي السياق لكنيسة المهد في بيت لحم، التقى الرئيس محمود عباس لمدة نصف ساعة، خرج بعدها يشيد بالرئيس عباس الذي «أقنعه خلال نصف ساعة بعدالة القضية الفلسطينية»، وجدد وعده أنه سيطلق صفقة توفر العدالة للجميع بما فيها – طبعاً – دولة إسرائيل.
التطبيع العربي – الإسرائيلي مقدمة للحل
بعيداً عن المسميات، فإن استراتيجية ترامب، التقت في خطواتها الرئيسية مع جانب من مؤتمر مدريد، ومع استراتيجية إسرائيل منذ أول رئيس حكومة ديفيد بن غوريون، مروراً بشمعون بيريز، وصولاً إلى نتنياهو، وتلتقي هاتان الاستراتيجيتان (مدريد وإسرائيل) على مبدأ «التطبيع مقدمة للحل».
فإذا عدنا إلى زمن حكومة بن غوريون، تطالعنا خطته للتطبيع مع المحيط باعتباره الضمان الحقيقي لأمن إسرائيل، وتحويل الأعداء إلى أصدقاء، لكن في ظل حالة رسمية عربية، لم تجرؤ على الاستجابة لهذه الرؤية، علقت في سياقها «سلامها» مع إسرائيل على حل قضية اللاجئين، أطلق بن غوريون «خطة الضواحي»، في التطبيع، والهدف من ذلك التطبيع مع الدول غير العربية لإقامة تحالف مع إسرائيل يشكل طوقاً على المنطقة العربية، فاتجه نحو إيران الشاهنشاهية، وإلى تركيا غربها، في إطار العمل على تكريس هذا التحالف في حلف بغداد، الذي كان يفترض أن يضم إلى جانبه العراق، الذي أطلق اسم عاصمته على الحلف، وتركيا، وإيران، وباكستان وغيرها، وصولاً إلى عواصم عربية، غير أن ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 أجهضت هذا الحلف وأفقدته جدواه، بعد أن خرج العراق منه، وبعد أن تراجعت الدول العربية التي كانت مرشحة لدخوله.
«مؤتمر مدريد» للسلام في الشرق الأوسط، أطلق مسار متعدد الطرف، الذي ضم إلى جانب إسرائيل، وم. ت. ف، عدداً من الدول الإقليمية والعربية وغيرها، بلغ عددها حوالي 30 دولة، تمحورت نقاشاتها حول مجالات التعاون (التطبيع) الإقليمي في الاقتصاد، والتجارة، والبيئة، والثقافة وغيرها، مستبعدة القضايا الجوهرية «للسلام»، كالانسحاب الإسرائيلي، والاستيطان، والحدود، ومسألة القدس، وقضية اللاجئين، باعتبارها، حسب ادعاء الولايات المتحدة وإسرائيل، تخص المفاوضات الثنائية، بين إسرائيل وكل من الدول العربية المعنية على حدة (سوريا، م. ت. ف، لبنان، الأردن).
وكان واضحاً أن الهدف من مفاوضات متعددة الطرف، كان الدفع باتجاه تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، قبل حل المسألة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية (الضفة الفلسطينية، وفي القلب منها القدس، والجولان، وجنوب لبنان)، وحل قضية اللاجئين، وضمان حقهم في العودة، وهذا ما تنبه له الوفد السوري الذي انسحب من المفاوضات متعددة الطرف.
في ظل تداعيات «اتفاقيات السلام» بين إسرائيل وبعض العرب (مصر، الأردن، م. ت. ف)، ومع إطلاق المبادرة العربية للسلام، التي أقرت مبدأ «التطبيع مقابل الانسحاب»، أطلق نتنياهو مشروعه للتطبيع وفق «خطة الأخطبوط» التي تعني مد الأيدي في أكثر من اتجاه، لإقامة التطبيع مع الأطراف العربية، منتقلاً من استراتيجية «الضواحي»، كما أطلقها بن غوريون، إلى استراتيجية «القلب»، أي اختراق النظام العربي، والتمدد داخله من بلد لآخر، بما يبقي الجانب الفلسطيني محاصراً في عالم عربي مرتبط بمعاهدات السلام مع إسرائيل، من شأن ذلك أن يشكل ضغطاً على م. ت. ف. والسلطة الفلسطينية لتليين مواقفها، والهبوط بشروطها من أجل التسوية، وإلا أصيبت بعزلة إقليمية في ظل احتلال إسرائيلي متوحش، لا حدود لأطماعه في الأرض الفلسطينية المحتلة، يرفض الاعتراف بحق العودة للاجئين، مصراً على التمسك بالقدس «موحدة» عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، وفي ظل تهديد لا يتوقف، يطال المقدسات الإسلامية والمسيحية ومصيرها.
كل هذا، اختصره ترامب في المؤتمر الاقتصادي الذي استضافته العاصمة البحرينية (المنامة)، حضرته إسرائيل وصف عريض من الدول العربية والإقليمية، كان هدفه بناء أرضية لتعاون اقتصادي تجاري أمني ثقافي، يسبق الحل السياسي للصراع في المنطقة، ويمهد لصفقة القرن التي وعد بها الرئيس الجديد للبيت الأبيض.
وكان واضحاً للعيان أن «مؤتمر البحرين»، الذي رعاه صهر ترامب، ومبعوثه للشرق الأوسط جاريد كوشنير، شكل ترجمة أميركية للرؤية الإسرائيلية لمفهوم «السلام» ومفهوم «التسوية» ربطاً بالتطبيع.
وهذا ما شكلت «تحالفات أبراهام» ترجمته حين أعلن عن تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل من دولة الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والسودان، والمغرب، أقيم لهذا الأمر احتفال في البيت الأبيض، أريد منه إحياء الاحتفال الشهير بتوقيع «اتفاق أوسلو» في زمن الرئيس الأسبق كلنتون.
ولعل «صدمة» المنامة لم تشكل سبباً كافياً للتدقيق بما يكفي، برهانات القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية على وعود ترامب، إلى أن جاءت «الصفعة» المدوية، في الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، وإلغاء القنصلية العامة للولايات المتحدة في القدس الشرقية، وبحيث تكون السفارة، وليس غيرها، وسيلة للاتصال بالولايات المتحدة، وبما يكرس اعتراف السلطة الفلسطينية بالخطوة الأميركية، وابتلاع «صفعتها» والتساوق مع خطواتها.
«الصفعة»
هو الاسم الذي أطلقه الرئيس محمود عباس على «صفقة القرن» بعد أن بدأ ترامب بالكشف عن مضمونها، بدءاً من الاعتراف بالقدس المحتلة «عاصمة لإسرائيل»، ونقل سفارة بلاده إليها، لتكون هي محطة الاتصال الأميركية الوحيدة مع الفلسطينيين، ما يعتبر إرغاماً لهم على الاعتراف بالقرار الأميركي المزدوج، ومن ضمنه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
كذلك كشفت عناصر «الصفعة» حجم التسرع الفلسطيني الرسمي بالرهان على ترامب ووعوده، فضلاً عن حجم الخذلان الذي أصاب القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، ما أدخلها أحياناً في نزاع كلامي حاد مع بعض أركان إدارة ترامب، كسفيره في القدس، على سبيل المثال.
وافقت «الصفعة» على ضم إسرائيل لـ 30% من مساحة الضفة الفلسطينية (منقوصاً منها القدس)، تضاف إلى المنطقة (ج) التي تساوي 60% من مساحة الضفة.
كذلك دعت إلى حلول بديلة لقضية اللاجئين تقود إلى إسقاط حق العودة، وحل وكالة الغوث، ونقل خدماتها إلى الدول المضيفة.
كما دعت إلى دولة فلسطينية منقوصة السيادة، مقطعة الأوصال، تحت الهيمنة السياسية والأمنية والاقتصادية لإسرائيل، ما يجعل الحكم الإداري الذاتي الحالي، مع بعض التعديلات، هو «الحل الدائم» للمسألة الفلسطينية، مقابل إسقاط حق تقرير المصير والفصل بين الفلسطينيين في إسرائيل والآخرين في الضفة، وكذلك من هم في غزة إلى جانب نزع الهوية الفلسطينية عن الشتات.
وهكذا تكون «صفقة القرن» قد قدمت إلى الفلسطينيين حلاً «أميركياً» صاغته حكومة نتنياهو غانتس، يلبي طموحات المشروع الصهيوني، ويحطم آمال الشعب الفلسطيني وأحلامه. ولعل هذا ما دفع القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية إلى البحث عن «تكتيكات» بديلة للرهان على صفقة ترامب.
في هذا السياق وافقت القيادة السياسية للسلطة، وعلى مضض، على قرارات المجلس الوطني (2018) بوقف العمل بالمرحلة الانتقالية باتفاق أوسلو، ووقف الرهان على الدور الأميركي، لصالح حل وفق قرارات الشرعية الدولية، في إطار مؤتمر دولي ينزع عن أميركا نفوذها في إدارة العملية السياسية.
ثم خطت القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية خطوة تكتيكية أخرى في 19/5/2020 «بالتحلل» من التزامات أوسلو، خاصة «الجانب الأمني» منها.
كذلك خطت خطوة تكتيكية أخرى في 3/9/2020، رداً على ولادة «تحالف أبراهام»، بعقد مؤتمر للأمناء العامين بين رام الله وبيروت، كان من أهم قراراته تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية في الضفة الفلسطينية.
صحيح أن القيادة السياسية للسلطة، وافقت على كل هذه القرارات، لكنها من جانب آخر، وباعتراف خطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة في أيلول 2022، عطلت منذ العام 2015، قرارات وقف العمل بـ«اتفاق أوسلو»، مقابل حرصها على التزامات السلطة به، تأكيداً منها على الرهان على الوعود الأميركية.
وقد سبق هذا الاعتراف، الانقلاب السياسي على قرارات المجلسين الوطني والمركزي، وعلى مؤتمر الأمناء العامين في 3/9/2020، حين أعلن وزير الشؤون المدنية في الضفة حسين الشيخ، في 17/11/2020، العودة إلى الالتزام بـ«اتفاق أوسلو» في كافة جوانبه، استجابة لضغوط ووعود المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية جو بايدن، بإحياء العملية السياسية حين فوزه في الانتخابات.
جرت الانتخابات وفاز بايدن، وخسر ترامب، فما الذي حصل بعد ذلك؟
• هل أوفى بوعده إلى القيادة الفلسطينية ؟
• هل تراجع عن قرارات إدارة ترامب؟
• هل أطلق العملية السياسية؟
• وهل اتخذ موقفاً محايداً بين إسرائيل والشعب الفلسطيني؟ ■
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق