أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
تتزامن الذكرى السادسة والخمسين لنكسة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، مع الذكرى الحادية والأربعين للاجتياح الإسرائيلي للبنان في السادس من حزيران/يونيو 1982، يفصل بينهما 15 عاماً، أصبحت خلالها المقاومة الفلسطينية قادرة على التصدي للعدوانية الإسرائيلية، وتصمد في الميدان، وتقاتل وتدب الرعب في قلوب جيش اعتاد الحروب القصيرة، فكانت المقاومة بكل أطيافها الفلسطينية واللبنانية والسورية صاحبة الإرادة الصلبة والنفس الأطول والعزيمة الأمضى، وخرجت من المعركة مرفوعة الرأس.
رغم مرور ستة وخمسين عاماً على نكسة حزيران/ يونيو67 مازالت تداعيات وآثار النكسة الجيوسياسية ماثلة في عجز العرب عن استرجاع كامل الأرض العربية التي احتلت في تلك الحرب، مع أن حرب تشرين 1973 حررت الإرادة العربية وأعادت للجندي العربي الثقة بالنفس وأعادت جزءاً من الأرض، ومازال الشعب الفلسطيني يدفع الثمن غالياً بوقوع كامل وطنه تحت الاحتلال، هزيمة قاسية للعرب جميعاً، وضعت إسرائيل في موقع جيواستراتيجي، تسيطر على مساحة جغرافية واسعة وتتمتع بحدود آمنة حسب اعتقادهم، وتراجع دور مصر عبد الناصر القومي، وتراجعت مطالبه من تحرير فلسطين إلى إزالة آثار العدوان، واقتصر شعاره على حدود استرجاع الأراضي التي احتلت في حزيران 1967، نجحت إسرائيل في حربها الخاطفة، واستكملت في أيام قليلة احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية (الضفة الغربية وقطاع غزة) وأجزاء واسعة من الأراضي العربية، ومهما قيل عن أسباب مباشرة وغير مباشرة للعدوان الإسرائيلي على ثلاثة دول عربية، فإن الحقيقة وراء الحرب تكمن في طبيعة هذا الكيان العدواني التوسعي، كمشروع استعماري استيطاني إحلالي من نوع خاص، ومن طبيعة عنصرية دموية.
تذرعت إسرائيل في حروبها على الدول العربية المحيطة بتهديد أمنها، وفي الحقيقة وجودها العدواني القائم على النظرية الأمنية وعدم اعترافه بالحقوق الشرعية والثابتة للشعب الفلسطيني وفي المقدمة منها حق العودة، هو من يهدد أمن المنطقة كلها، هولت إسرائيل الخطر الذي يمثله تسليح الجيش المصري، ولو كانت معداته دفاعية، وعملت على تعزيز ترسانتها العسكرية من أسلحة هجومية ومتطورة تفوق كل ما يملكه العرب مجتمعين من سلاح، فقامت بحرب استباقية لتدمير قدرات الجيش المصري، ولمنع العمليات الفدائية انطلاقاً من الحدود مع سوريا، وعلى الأردن لتعطيل مشروع تحويل مجرى نهر الأردن.
ولمزيد من تبرير مقولة التهديد الأمني استغلت إسرائيل إغلاق مصر مضائق تيران على مدخل خليج العقبة في البحر الأحمر في وجه الملاحة الإسرائيلية، يوم 22 أيار/ مايو 1967، وهو ما اعتبرته إسرائيل بمثابة إعلان رسمي للحرب عليها، وسحب قوة الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة المتمركزة على الحدود المصرية مع إسرائيل في سيناء ربما عجلت الحرب، أكثر من كونها سبباً، ولو لم تجد هذه الذريعة لبحثت عن ذريعة أخرى.
ـلقد بدأت إسرائيل التخطيط للعدوان على الدول العربية الثلاث في وقت مبكر وأعدت له عدتها عبر السنوات التي تلت العدوان الثلاثي طمعاً باحتلال المزيد من الأرض العربية، وتعويضاً عن إخفاقها في الحفاظ على ما كسبته
من هذه الحرب التي شاركتها مع فرنسا وبريطانيا.
كان للهزيمة وقع الصدمة على الشعوب العربية جميعها، وعلى الإنسان الفلسطيني خصوصاً، حيث وقعت كل أرض وطنه التاريخي تحت الاحتلال ووجد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الاحتلال الذي نفى نحو 300 ألف-400 فلسطيني من الضفة وقطاع غزة تحت تهديد السلاح معظمهم نزح إلى الأردن، ووقع ما يقارب مليون فلسطيني (في العام 1967) تحت الاحتلال، تمسكوا بأرضهم، ولم يغادروها وشكلوا أغلبية سكانية على عكس ما حصل في العام 1948، حيث تحول السكان الفلسطينيون (150 ألفاً في العام 1948) إلى أقلية مضطهدة فوق أرضها، وببقاء هذه الكتلة السكانية على أرضها في الضفة والقطاع لم تحقق إسرائيل كل ما تريده في إحداث التغيير الديموغرافي وتهويد الأرض الفلسطينية، في وقت اعتبرت كل دول العالم الضفة والقطاع أرضاً محتلة وإسرائيل دولة احتلال، فعملت سلطات الاحتلال على التخلص التدريجي من السكان الفلسطينيين بالتضييق عليهم بسياسات وممارسات اقتصادية وأمنية وإدارية وثقافية وانتهاكات لحقوق الانسان، ومارست إسرائيل على المواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع أنظمة الطوارئ التي وضعتها سلطات الانتداب البريطاني عام 1945، وطبقت أشد بنود هذه القوانين فظاظة من الأحكام العرفية والعسكرية، وأصدرت قوانين جائرة تجرد الفلسطينيين من أراضيهم وممتلكاتهم، وسط صمت العالم على ما يجري تحت أنظاره من ممارسات هدم بيوت الفلسطينيين، والتطهير العرقي، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، والأمثلة كثيرة، في قطاع اللطرون تم تشريد سكّانه تحت تهديد السلاح ودُمرت بيوته وبيوت ثلاث من قراه تدميراً شاملاً، وحي المغاربة قامت سلطات الاحتلال بعد دخول جيش الاحتلال مدينة القدس بهدمه وإخلاء سكانه وطرد نحو 3700 فلسطيني، ودمرت حارة الشرف المجاورة للأقصى، بدأت جرّافات الاحتلال في هدم حارة المغاربة، في ليلة السبت، 10 يونيو/ حزيران 1967، بهدف محو الوجود الفلسطيني في المدينة المقدسة وطمس وإزالة المعالم العربية الإسلامية حيث دمرت مسجدين، أحدهما مسجد البراق الشريف، والمدرسة الأفضلية التاريخية، بالإضافة إلى 135بيتاً مقاماً على أراضي الحي، وفي 28حزيران/ يونيو أعلن الكنيست عن ضم مدينة القدس إلى إسرائيل وفرض المناهج الإسرائيلية على مدارسها. في آب/ أغسطس وزعت المنشورات التي تدعو مدينة القدس العربية إلى الإضراب العام، ونفذ هذا الإضراب في إجماع شامل، وأغلقت جميع المحال، وتوقفت المواصلات العامة، وفي أيلول/ سبتمبر أصدر المدرسون في الضفة بياناً اتهموا فيه الحكومة الإسرائيلية بتزييف المناهج الدراسية، ودعوا إلى مقاطعة الدراسة، وفي التاسع عشر من الشهر نفسه أضربت المدن الفلسطينية في الضفة احتجاجاً على الاحتلال.
لقد أدت ممارسات سلطات الاحتلال إلى بروز شكل الاحتجاجات الجماهيرية المختلفة من صدامات ومواجهات وتظاهرات وإضراب ..الخ، في مواجهة فرض حظر التجول، وأعمال التفتيش الهمجية الواسعة، ونسف المنازل ، وجرى اعتقال مئات الفلسطينيين، ونفي الآلاف منهم خارج البلاد، فمنذ الشهور الأولى للاحتلال قامت أعمال العصيان المدني والامتناع عن دفع الضرائب، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، وإضرابات المدارس...
بعد حرب عام 1967 مباشرة وضع قطاع غزة تحت إدارة عسكرية اسرائيلية، اتبعت في الأسابيع الأولى للاحتلال إجراءات قاسية، بإصدارها أوامر حظر التجول والاستجوابات، والاعتقالات وهدم المنازل، استهدفت اللاجئين في المقام الأول، وفرضت إجراءات في منتهى القسوة على مخيمات القطاع لاحتضانها العمل الفدائي المسلح، إذ وقعت مواجهات مسلحة مباشرة مع قوات الاحتلال، جعلت "موشيه ديان" وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، يقول: «بأن قواتنا تحكم قطاع غزة نهاراً والمجموعات الفدائية تحكمه ليلاً». ولإحكام القبضة العسكرية على المخيمات، قام قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال بحملة، عمل خلالها على توسيع الطرق، وشق طرق عريضة جديدة تسمح بمرور الدبابات، تم خلالها تفجير آلاف المنازل وتشريد نحو 16 ألف لاجئ نقل معظمهم إلى العريش شمالي سيناء، وبضع مئات إلى الضفة الغربية، وأبعد نحو 12 ألفاً من أقارب الفدائيين إلى مخيمات في صحراء سيناء. وقد غادر قطاع غزة نحو 45 ألفاً أكثرهم باتجاه الضفة الشرقية، والذين صدف أنهم كانوا خارج القطاع خلال الحرب لم يسمح لهم بالعودة، ويقدر أن 13ألفاً كانوا في مصر.
كان أثر الهزيمة المرة للجيوش العربية في حزيران 1967 على الفلسطينيين استجابة متمردة رافضة ومتحدية
للغطرسة الصهيونية التي تفاقمت بعد ما أحرزه جيشهم، وإلحاق الهزيمة الخاطفة بثلاث جيوش عربية في ستة أيام، واحتلال مساحات واسعة تفوق مساحة الأرض المحتلة عام 1948 بأضعافها، اشتد الدافع لدى الفلسطينيين لمواجهة الاحتلال، وبرزت التحركات الجماهيرية كاستجابة لضرورات هذا التحدي، وربما ساد لدى البعض في لحظة الصدمة الأولى للنكسة الشعور بالعجز من هول الكارثة في أشد لحظات الصراع سواداً ومأساوية، فركن إلى الانتظار، والانكفاء على الذات بعيداً عن المشاركة في التصدي لإجراءات سلطات الاحتلال، المهددة بالفناء وتحويل الانتصار على العرب في الميدان العسكري إلى نصر على الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، كان لا بد من استجابة لتحدي البقاء والحفاظ على الذات والهوية.
لكن ما لبثت الصدامات اليومية أن أصبحت تشكل نمط الحياة السائد في الأرض المحتلة، تصاعدت هذه الاحتجاجات منذ الشهور الأولى للاحتلال، وتصاعدت وتراكمت فيها التجارب والخبرات النضالية لتؤدي إلى تحول نوعي في العام 1987 في الانتفاضة الأولى انتفاضة الحجارة، كما أدى تصاعد النضال الجماهيري وبروز نمط الحياة القائم على الصدامات اليومية إلى تراكم آخر في نمط الشخصية المناضلة، وتكريس متزايد لقيم الشجاعة وروح التضحية والإصرار والصلابة وتحمل المشاق، وكلما تصاعد النضال كانت هذه الشخصية المناضلة تزداد انتشاراً وتعم لتميز الشخصية الرفضة للاحتلال.
صبيحة الاحتلال استفاق الشعب الفلسطيني على هول الكارثة التي لا تقل في حدتها وآثارها عن نكبة عام 1948 بفارق واحد هو بقاء الكتلة السكانية الأكبر صامدة على أرضها، فتشكلت في الأرض المحتلة عدداً من الأطر لتنظيم الكفاح وتوحيده، ففي تشرين الثاني/ أكتوبر1967 تشكلت في الضفة الغربية جبهة واسعة ضمت (الحزب الشيوعي الأردني+ القوميين العرب+ وحزب البعث+ وجبهة تحرير فلسطين).
وفي غزة أيلول/ سبتمبر 1967 تشكلت «الجبهة الوطنية المتحدة»، ساهمت هذه الأطر المنظمة بعمل نضالي وفكري هامين، فاشترك أعضاؤهما في أعمال المقاومة الشعبية، وعملوا على ربط الجماهير بهذه الجبهات والمنظمات الوطنية التي كانت تدعو الجماهير لأعمال المقاومة، وتساهم في رفع مستوى الوعي السياسي، وخلق اليقظة الثورية التي أخذت بعدها في الاحتراس من مخططات العدو وإفشال مناوراته وتضليلاته الهادفة للالتفاف على القضايا والأهداف الوطنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق