النشرة
إذا كانت طبول الحرب تُقرَع منذ مطلع العام في المنطقة برمّتها، أكثر من أيّ وقتٍ سابق، مع تسجيل تطورات "دراماتيكية" على أكثر من جبهة، واشتعال الساحات دفعة واحدة، من إيران إلى العراق، مرورًا بسوريا واليمن، فإن ما شهدته "الجبهة اللبنانية" تحديدًا على امتداد الأسبوع المنصرم، أوحى بأنّ "الانفجار" آتٍ، بل أنّ سيناريو الحرب الشاملة، غير المحدودة بالجغرافيا الجنوبية كما هو الواقع حاليًا، يقترب أكثر فأكثر.
ولعلّ الوقائع الميدانية في الأيام القليلة الماضية تعزّز هذا الاعتقاد، بدءًا من عملية اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى "الردّ الأولي" الذي نفّذه "حزب الله"، والذي توعّد أمينه العام السيد حسن نصر الله به، بعيدًا عن معادلة "الوقت والمكان المناسبَين"، وما أعقب العمليتين من توتّر متصاعد على الجبهة الجنوبية، خرج من الدائرة "الضيقة" التي تمّ حصر العمليات بها سابقًا.
وبالتوازي مع الرسائل العسكرية والميدانية، جاءت الرسائل السياسية التي تبادلها الجانب الإسرائيلي و"حزب الله" لتكرّس وصول التصعيد إلى أوجه، بصورة أو بأخرى، ولو بقيت هذه الرسائل مع ما حملته وانطوت عليه من تهديدات "مضبوطة" إلى حدّ بعيد، فالجانب الإسرائيلي أبقى "الأولوية" للدبلوماسية، ولو أوحى أنّه بات أقرب إلى خيار الحرب، والسيد نصر الله الذي توعّد بالقتال "بلا حسابات"، أبدى انفتاحًا بشكل أو بآخر على المفاوضات.
ووسط تبادل الرسائل "النارية" هذا بين الجانبين الإسرائيلي واللبناني، تكثّف الحراك الدبلوماسي الإقليمي والدولي، فحطّ الوسيط الأميركي آموس هوكستين في تل أبيب، وزار مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل لبنان، تحت شعار تجنّب التصعيد الإقليمي، لتبقى الصورة على غموضها غير البنّاء، ويبقى السؤال المطروح، شبه الوحيد: بين الحلّ الدبلوماسي والقوة العسكرية، أيّ الخيارَين سينتصر في نهاية المطاف؟!.
في قراءة موضوعية لمجريات التطورات الميدانية للأسبوع المنصرم، يؤكد العارفون أنّ تطورًا نوعيًا، وربما خطيرًا، طرأ على الصراع بين الجانب الإسرائيلي و"حزب الله"، حيث كُسِرت الكثير من قواعد الاشتباك، وتمّ تجاوز العديد من الخطوط الحمراء، إلا أنّهم يشيرون إلى أنّ الأمور "لم تخرج عن السيطرة"، إن جاز التعبير، حيث لا يزال الجانبان حريصَين على "عدم الانجرار" إلى الحرب، أو بالحدّ الأدنى، عدم تحمّل مسؤولية "بدء" مثل هذه الحرب.
بحسب هؤلاء، فإنّ عملية اغتيال صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، شكّلت التطور "الأخطر" على هذا الصعيد، ولا سيما أنّها التحرك الأول من نوعه في عمق الضاحية منذ سنوات طويلة، وأنّ القاصي والداني يدرك أنّ "تمريرها" من جانب "حزب الله" لم يكن واردًا، وهو ما تعمّد أمينه العام السيد حسن نصر الله الاستفاضة في شرحه خلال خطابه الأخير، حين قال إنّ عدم الردّ يعني أنّ لبنان "سينكشف كلّه"، وهنا منبع الخطورة.
مع ذلك، يقول العارفون إنّ هذا التطور الخطير، ولو كان في العرف العسكري يُعَدّ "إعلان حرب"، لم يكن الإسرائيلي يريد منه فعلاً الانجرار إلى الحرب، وهو ما يفسّر عمله الحثيث على "حصره" في إطار تبعات الحرب الإسرائيلية على غزة، ولا سيما أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي كان قد هدّد علنًا باغتيال قيادات المقاومة الفلسطينية في أيّ مكان، مسمّيًا العاروري على وجه التحديد، ولو أنّه أراد من خلاله أن يوجّه رسالة "حازمة" إلى "حزب الله" أيضًا.
بالطريقة نفسها، يمكن قراءة الردّ الذي نفّذه "حزب الله"، بإطلاقه 62 صاروخًا على قاعدة ميرون الإسرائيلية للمراقبة الجوية، في أكبر رشقة صاروخية من نوعها منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، وإن تعمّد وصفه بـ"الأولي"، ما يعني أنّه ليس "نهائيًا ولا مكتملاً"، مع تسجيل حرص أوساط الحزب على تأكيد "الأهمية الاستثنائية" للقاعدة التي تمّ استهدافها، موجّهًا بذلك رسائل واضحة للإسرائيلي، على المستويين الاستخباراتي والعسكري.
رغم ذلك، يقول العارفون إن "الرد الأولي" لـ"حزب الله" جاء "مدَوْزنًا"، إن جاز التعبير، بمعنى أنّه حرص على أن يكون الرد مختلفًا عن العمليات العسكرية اليومية على الجبهة الجنوبية، والتي باتت "روتينية" في مكانٍ ما، ولكنّه حرص في الوقت نفسه على ألا يكون ردًا من النوع الذي يقود إلى حرب شاملة، علمًا أنّ مثل هذه العملية كان من شأنها الذهاب إلى حرب في الظروف الطبيعية، التي اختلفت جذريًا بعد "طوفان الأقصى".
لا يعني ما تقدّم أنّ سيناريو "الحرب المفتوحة" بات مستبعَدًا بالمُطلَق، ولكنّه يعني أنّه لا يزال مؤجَّلاً، طالما أنّ الفريقَين يبديان انفتاحًا على استنفاد كلّ الخيارات، ولا سيما الدبلوماسية منها، قبل ذلك، وأنّهما لا يجدان "مصلحة فعلية" فيها، علمًا أنّ العارفين لا يستبعدون أن يكون "التصعيد" الذي سُجّل الأسبوع الماضي، سواء على مستوى العمليات، كمًّا ونوعيّة، أو على مستوى التصريحات، بمثابة "رفع للسقف" تمهيدًا لفتح باب التفاوض.
في هذا السياق، يتوقّف المتابعون عند رسائل مهمّة وردت على ألسنة بعض المسؤولين الإسرائيليين، على غرار وزير الدفاع يوآف غالانت الذي تحدّث عن "نافذة زمنية قصيرة" للوصول إلى تفاهمات دبلوماسية مع لبنان، "وهو ما نفضّله"، على حدّ وصفه، وإن شدّد في الوقت نفسه على "تصميم" تل أبيب على "تغيير الواقع الأمني في شمال إسرائيل وعلى طول الحدود مع لبنان"، وذلك "لتمكين أكثر من 80 ألف إسرائيلي نازح من العودة إلى منازلهم".
وعلى الخطّ الآخر، توقف المتابعون أيضًا عند "رسائل" خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، الذي رأى كثيرون أنّ أهمّ ما تضمّنه، لم يكن الوعيد بالرد على اغتيال العاروري، ولا التأكيد على جهوزية المقاومة للرد على أي عدوان والتصدّي لأي مغامرات، وإنما قوله إنّ لبنان أمام "فرصة تاريخية" لتحرير كل شبر من أراضيه، وتثبيت معادلة تمنع إسرائيل من اختراق سيادة البلاد، وإن ربط ذلك بانتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة.
في الحالتين، يقول العارفون إنّ الرسالة واضحة، فالأولوية للخيار الدبلوماسي، ولكنّ كلّ السيناريوهات تبقى ممكنة، وهو ما يفسّر أيضًا تكثيف الحراك الدولي خلال الأيام الأخيرة، في محاولة لتفادي الانزلاق إلى حرب، علمًا أنّ هناك من يعتقد أنّ الإسرائيلي في موقف "محرج"، فهو لا يريد الحرب، خصوصًا في ظلّ انشغاله بحرب غزة، لكنّه يشعر بأنه "مكشوف" على جبهته الشمالية، في ظلّ "تحدّي" نزوح سكان مستوطناتها المفتوح.هكذا، يبدو السباق على أشدّه بين الخيارين العسكري والدبلوماسي، فالأول قد يصبح "أمرًا واقعًا" في أيّ لحظة، ولو أن الانطباع أنّ كلا الطرفين لا يريده، أو بالحدّ الأدنى لن يتورّط في إطلاق "طلقته الأولى"، فيما الثاني يبدو مؤجَّلاً، ولا سيما أنّ "حزب الله" يشترط انتهاء الحرب في غزة أولاً، وهو ما لا يبدو الإسرائيلي مستعدًا له بعد، في ظلّ إخفاقه عن تحقيق أيّ من أهدافه المُعلَنة، ما يترك الأمور مفتوحة على كلّ الاحتمالات...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق