«الكيان الصهيوني» مصطلح أطلقه السياسيون والمثقفون العرب بديلاً لتسمية «إسرائيل»، وتردد في الخطاب الرسمي لدول عربية وبعض دول الشرق الأوسط، وأطلقت وسائل إعلامها مصطلح «الكيان الصهيوني»؟.
هل هذا الاصطلاح مجرد مسألة لغوية؟ أم أن استخدام المصطلح لتجنب تسمية كلمة دولة بما يعني الاعتراف السياسي بحقها في الوجود؟. وإذا أطلق عليها اسم دولة، هل يعني ذلك ضمناً أنها شرعية ودائمة ؟. أم أن الكيان قائم لكنه سيتلاشى ويزول بعد بعض الوقت؟ هل كونها نتيجة صنع قوى الاستعمار والهجرة والاستيطان يجعلها كياناً مصطنعاً؟. وليست دولة حقيقية؟. هل استخدام مصطلح «الكيان الصهيوني» لوصف «إسرائيل» هو شكل من أشكال معاداة السامية؟.
اعتبر البعض أن استخدام مصطلح «الكيان الصهيوني» لوصف ما تسمى «دولة إسرائيل» يتضمن معنى الشتم يحمل في مضمونه العداء والكراهية من قبل العرب، تداولته الإذاعات العربية في إطار أسلوب الردح، ولا أدري من بادر بإبداع مصطلح «الكيان الصهيوني» كبديل لكلمة «إسرائيل»، فإسرائيل في الفكر العربي والاسلامي هو لقب النبي يعقوب، جاء ذكره في الديانات السماوية الثلاث، وليس اسم دولة، وربما يقصد بالمصطلح رفض الاعتراف السياسي بـ«دولة إسرائيل»، لكن في معناه لا يتضمن الشتم، ففي اللغة العربية الكيان: صميم الوجود الذي يحدّد ويعبّر عن ذات كائن له فردية ماثلة كحقيقة لا يمكن نكرانها، وإذا انكرنا قيام دولة غريبة على أرض فلسطينية في وسط منطقة تتسم بالطابع القومي الواحد والمتجانس، فلأنها قامت على حساب السكان الأصليين، من الفلسطينيين ونكبتهم عام 1948.
وعندما أعلنت إسرائيل إنشاء كيانها في 15 أيار/ مايو 1948، انهار جميع ما تأسس من مقومات ومكونات الكيانية التي سعى الفلسطينيون لتأسيسها في النصف الأول من القرن العشرين، والتي تم محاربتها من قبل سلطات الاحتلال البريطاني، بينما تُوّج الجهد الاستعماري والصهيوني في بناء كيانية ناقصة، تجسدت في إعلان قيام «دولة إسرائيل» لا يمكن لهكذا دولة أن تكتمل، لا بالمجازر ولا بطرد الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني خارج أرضه، حتى في الأمم المتحدة كان قبول إسرائيل عضواً دائماً فيها، مشروطاً بقيام دولة فلسطين، فهناك حقوق فلسطينية أكدت عليها الشرعية الدولية، تكمن وراءها قوى فلسطينية وعربية وعالمية تنادي بالعدالة، تُبقي هذا الكيان في حالة اهتزاز وعدم استقرار.
إن العقل لا ينفي وجود كيان قائم خارج حدود إرادتنا، وإن أسموه دولة، تعترف بها كثير من دول العالم، ومنذ 1948 لها علاقات ثنائية مع الدول الخمس الدائمة العضوية، وفي 11 نيسان/ مايو 1949، تم قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية، لكن الاعتراف العقلي الادراكي غير الاعتراف السياسي، وكل هذا أقل أهمية ولا يجدي نفعاً أمام إنكار الشعب الفلسطيني حق الكيان في الوجود.
الدولة الحقيقة هي كيان وطني مكتمل البنية، ومصطلح «الكيان الصهيوني» يطابق بالمعنى -حسب رأيي- «إسرائيل دون الأرض»، كل شيء يمكن أن نطلق عليه لفظ «إسرائيلي» إلا الأرض وجغرافيتها من النهر إلى البحر، فلسطين التاريخية بكل اتجاهاتها، شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً،تشير إلى أرض فلسطين، ليست هذه اتجاهات إسرائيل، ولن تكون أرض فلسطين (إيرتز إسرائيل)، كل العرب يعتبرون الأرض بكاملها هي أرض فلسطينية، فـ«الدولة اليهودية» هي كيان بنيته ناقصة من حيث المكونات الأكثر أهمية، إذ يجب أن تتضمن البنية أرضاً وشعباً، ولا تكتمل الدولة بالمؤسسات المختلفة الاقتصادية والسياسية والثقافية وأجهزة حكومية بل والعسكرية والأمنية حتى قيل إن إسرائيل ما هي إلا «جيش له دولة»، فالكيان يشير إلى شيء أو حالة لها بنية ووظيفة، وأولى أولويات الكيان الوطني مجتمع بشري منتمي لأرض الوطن بحدودها المعروفة، الأرض والشعب هما صميم وجود الكيان الوطني، تبنى عليهما مقومات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وغيرها، وإذا أشير إلى «الكيان الصهيوني» على أنه «دولة»، فهو دولة شاذة لا تتمتع بالخصائص والمعايير التي تحدد جوهر الدولة مثل الدستور، ورسم الحدود، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي ليس لها حدود محددة. إنها دولة احتلال، حدودها كما تدعي حيث تصل قدم الجندي الإسرائيلي.
وينص قانون الدولة القومية -الذي تم إقراره في الكنيست الإسرائيلي في 19 يوليو 2018- على أنها دولة «للشعب اليهودي فقط» ومن الواضح أن هذا يجعلها كياناً عنصرياً، ولا توجد دولة أخرى في العالم تصر على أن تكون دولة لدين معين فقط. وحين يعلن الكيان الصهيوني بكل فخر نفسه دولة لليهود فقط، نجد في هذا العالم المنافق من يدافع عن هذه الفكرة العنصرية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة التي تدعي أنها رمز للمبادئ الديمقراطية.
«الكيان الصهيوني» كيان مصطنع، وليس دولة طبيعية جرى تصميمها وابتداعها من قبل سياسيين استعماريين أوروبيين، ولم تكن ليهود العالم أي صلة أو ارتباط بفلسطين التي زرعوا فيها زراعة فاسدة موعودين بأنهار اللبن والعسل، وكانت الفكرة التي طرحها تيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897 ذات طبيعة استعمارية تبنتها بريطانيا على حساب الشعب الفلسطيني المنكوب.
إن الكيان الوطني كبنية إن كانت مستحدثة أم متأصلة تحتاج إلى من يمثلها أو يعبر عن وظيفتها أو أهدافها، أو بمعنى آخر يحتاج إلى كيانية سياسية، الحركة الصهيونية اختلقت المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية، دون أن يكون لها في ذاك الوقت أرض لـ«كيان صهيوني» مفترض، وبعد بحث واختلاف حول أرض ما في مناطق عديدة من العالم، اعتبر زعماء الحركة الصهيونية زوراً وبهتاناً أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ودُعمت هذه الأفكار والمؤسسات من قبل الغرب الاستعماري.
بينما الكيانية الفلسطينية وأشكال التعبير عنها قد تم محاربتها بشدة من قبل الاحتلال العسكري البريطاني، وكان لهذه الكيانية أرض وشعب يقيم عليها وكان على القوى الوطنية الدفاع عنها دفاعاً مستميتاً لأن غيابها أو تغييبها قد أثر على الحاضر بما تعيش به الكيانية الفلسطينية من معضلات، ولا ننفي أن أحد مسببات ذلك داخلية سواء قبل النكبة أو في الحاضر تتمثل في الانقسام والاختلاف في التعبير عن الكيانية.
مصطلح الكيان الصهيوني ليس معادٍ للسامية، وليس عنصرياً، إذا قورن بما يسمى «دولة يهودية»، فالحركة الصهيونية حركة سياسية وليست عرقاً أو لون أو دين ولو ادعت أنها تمثل الدين اليهودي.. لا تحمل عبارة «الكيان الصهيوني» معنى التحقير، وبالأخص لليهود، يروج الصهاينة أن أي شخص يختار استخدام المصطلح سيضيف له العديد من الاستعارات المعادية للسامية، بمعنى أن الصهيونية واليهودية شيء واحد، وهذا خطأ كبير، أو هو محاولة للتضليل، إذ أن كثير من اليهود يرفضون بشدة قيام «دولة يهودية»، ويرى آخرون أن نبرة صوت من يتحدث بها يدل على استخدامها بشكل سلبي، ويقول قائل إن المصطلح حمل معنى الغموض عمداً، ويتكهن ويتصور بناء على هذا، أن الجهة أو الشخص المستخدم للمصطلح يحمل وجهات نظر معادية للسامية، ويحكمون على النوايا ويقولون بعد ذلك إن استخدام هذا المصطلح هو ازدراء، ورغم أنه لا يحتوي معنى الازدراء، لكن الاحتلال والاستعمار وممارساته القمعية والمشينة واضطهاد الشعوب تستحق الازدراء بل والإدانة. وعلى الخلفية الاستعمارية التي صُنعت بها إسرائيل جرى الشتم الفعلي في مصطلح «دولة المسخ الصهيوني»، إنه يلمح إلى أن إسرائيل أنجبها الاستعمار البريطاني قبيحة الوجه مشوهة الملامح.
واستخدام الكيانية الفلسطينية من قبل فلسطينيين وطنيين دليل على أن مصطلح كيان لا يحمل معنى الشتم أو الاحتقار. يعرّف د. خالد الحروب، الكيانية الوطنية، يقول إنها مرتبطة عضوياً وتكوينياً بفكرة الهوية الوطنية، ذلك بأن الأولى هي التجسيد العملي والسيادي للثانية. فالهوية الوطنية هي التكوين العميق لخلاصات وتعبيرات الشعور بذات جمعية ذات سمات مشتركة وموحدة، لخصتها حديثاً في تاريخ العالم وفي منطقتنا مع نهايات القرن التاسع عشر، فكرة القومية أو الوطنية.
فهم الكثير من العرب أن الإشارة إلى «إسرائيل» على أنها «الكيان الصهيوني»، باعتبار المصطلح شكلاً من أشكال الإنكار ورفض الاعتراف بوجود دولة تسمى إسرائيل على أرض فلسطين، صحيح أن «إسرائيل» كيان قائم الآن لكنه في الفكر العربي لن يكون مستمراً؟. سادت القناعة أنه كيان زائل فرصه في الحياة والاستمرار ضئيلة، يحمل بداخله بذور فنائه في تناقضاته، وفي التاريخ كيانات كثيرة ظهرت ثم بادت، يحكم التاريخ على بقائها من ضعف بنيتها وسوء وظيفتها، وهذا الكيان فريسة مخاوفه الدائمة بأن مستوطنيه الذين لم ولن يجدوا أنهار لبن وعسل بل مقاومة ترفض وجودهم وتسود عيشتهم، سيعودون إلى بلدانهم التي جاؤوا منها.
في أوائل التسعينيات جرى الاعتراف المتبادل، غيّر وبدل حال الكيانية الفلسطينية و«الكيانية الإسرائيلية» معاً، رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين اعترف رسمياً بمنظمة التحرير الفلسطينية ككيان شرعي يمثل الشعب الفلسطيني، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات اعترف رسمياً بحق إسرائيل في الوجود كدولة ذات سيادة، وأصبحت الأرض التي يُعترف بها كأرض فلسطينية أرض متنازع عليها، سيمهد إن لم يجرِ تنفيذ قرارات المجلسين المركزي والوطني الفلسطيني بالانسحاب من اتفاقيات أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي، ليصبح «الكيان الصهيوني» دولة «إسرائيل الكبرى» من خلال تصاعد الاستيطان والضم، والكيانية الفلسطينية تسير نحو الضمور، بتغييب منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، بكل تجمعاته وأماكن تواجده، ويجري العمل على إبراز السلطة الفلسطينية ككيان جديد لتمثل فلسطينيي الضفة فقط دون غزة والقدس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق