كان لآتون الصراع المستمر أن أشعل المواجهة الفلسطينية-الاسرائيلية الأخيرة، والتي أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية تسمية "طوفان الأقصى". وكان للطوفان أن حرك الجبهات المختلفة، نصرة وإسناداً، فالحق الفلسطيني أبلج وباطل الصهيونية ومؤيديها لجلج. تداعت الجبهات المختلفة نصرة لغزة والأقصى، فكانت جبهة لبنان ومن ثم جبهة اليمن، إلا أن خصوصية الجبهة اللبنانية والثأر المدرك لحزب الله، وتصريحات المقاومة اللبنانية المستمرة العلنية والمبرمة عن استعدادها للحرب، وما تشكله قوة حزب الله الصاروخية، أجَّجت نيران ثأر الحكومة الصهيونية اليمينية، وباتت تطلق التهديدات المستمرة عن استعدادها وتحضيراتها للحرب على لبنان. هذه التهديدات وإن علت فلا تزال تصطدم بعدة عقبات تمنع تنفيذها حتى الان، أهمها محدودية إمكانيات الجيش بالعمل على جبهات عدة في آن، معرفة حزب الله المنقطعة النظير بالعقلية والامكانيات الصهيونية وموقف الولايات المتحدة الرافض لتوسع الحرب.
أولا، تظهر المؤشرات كافة عجز جيش الكيان الغاصب عن خوض عدة حروب فعلية في آن، وهو ما تجسد بطلب زيادة عديده بقدر خمسة عشر ألفاً، ورفض وزارة المالية تبني أكثر من الفين وخمسائة جندي ، فجبهته الأساسية في غزة والتي تستنزفه بشكل كبير، وإعلانه نيته أنه سينشر في الضفة 24 كتيبة و20 سرية ووحدتين خاصتين، بالإضافة إلى 5000 جندي احتياط من مستوطنات الضفة، أي ما مجموعه أكثر من 15 ألف جندي تحسباً لتحرك الضفة - وهي أخطر جبهاته -، وكذالك قواته المرابطة على جبهته الشمالية والتي تتلقى الضربات اليومية من المقاومة اللبنانية تظهر مدى تشتت هذا الجيش حاليا، ومن المعروف أن المعارك الكبرى لا تستقيم إلا بالاجتياح البري.
ثانياً: بات الكيان الغاصب يفتقد لرجالات الدولة الأكفاء، فأعضاء الحكومة ومجلس الحرب الحاليين يفتقدون إلى الخبرة السياسية والعسكرية "ونتن ياهو" الذي يعتبر أكثرهم حنكة متهم بقضايا فساد عدة، وبالتالي إسرائيل دخلت مرحلة اللاعودة لناحية تغليب مصلحة الأفراد والنخب على مصلحة الدولة. هذه الغوغائية التي يسطِّرها حكام إسرائيل إضافة إلى تغلغل الشعبوية في إتخاذ القرار يمكن أن يكون لها بالغ الأثر بفتح المعركة الكبرى مع لبنان. تخطت إسرائيل -ولو جزئياً- قواعد الاشتباك المعمول بها منذ مدة ليست بقصيرة ووسَّعت من ميدان عملياتها مستخدمة سياسة حافة الهاوية، وتخطت حاجز العشرة كيلومترات التي كانت المقاومة قد ألزمتها بها، ولكن وإن تجاوز ميدان عملياتها قواعد الاشتباك المعمول بها إلا أن هذه التجاوزات لم تخرج حتى الآن عن السياق العام ولم تكسر مفهوم الردع الذي كرسته المقاومة بدماء شهدائها، حيث تستهدف إسرائيل شخصيات عسكرية وازنة، ساعية لتصفية حسابات سابقة معهم وجرًُّ رِجل حزبهم إلى المعركة المطلوبة يمينياً. وبالمقابل وأمام رعونة وشعبوية النخبة الإسرائيلية الحاكمة، ألزم حزب الله نفسه بتغليب صوت العقل وعدم الانسياق وراء أهداف "نتن ياهو" والذي يعتقد أن مخرجه الأخير قد يكون بالحرب على لبنان واستجلاب التدخل الامريكي العسكري المباشر في المنطقة. انقلبت الأدوار وبات لزاماُ على حزب الله أن يتجنب المعركة التي يريدها نتنياهو، هذا الخيار والذي كرسته احتياجات الميدان كبَّل يدي حزب الله ولو جزئياً، وأضحى الخطاب القائم على إسناد غزة حملاً ثقيلاً على كاهله، كما وأفقد الجبهة جزءاً من قيمتها بعد ان تعدى حجم خسائرها وشهداءها حجم انتاجيتها، ويقيننا أن حزب الله حزب خلاَّق وقادر على اجتراح الحلول وتطبيقها.
ثالثاً: تلعب الولايات المتحدة -كما العادة- دور الأب الروحي لإسرائيل، محاولة حمايتها من نفسها وقادتها، ومنع انجرارها وراء غوغائيتهم وشعبويتهم، فقد كشفت تقارير صحافية في الولايات المتحدة أن واشنطن حذَّرت إسرائيل من أي تصعيد كبير في لبنان المُجاور، وذلك وفقاً لتقديرات وكالة الاستخبارات الأميركية والتي أشارت إلى أن فتح جبهة جديدة، إلى جانب الحرب في غزة ضد حركة حماس، من شأنه أن يقلل فرص نجاح إسرائيل. هذا اليقين الأمريكي الذي يحتم ضرورة حماية إسرائيل أولى عليها إلاَّ أن تكمل الدور المقدس المنوط بها بالتدخل "دبلوماسياً" في لبنان من خلال مبعوثها هوكشتاين والذي كرر زياراته حاملاً معه الرسائل المطمئنة تارة وسيف عقوباته طوراً. هذا وتجدر الإشارة ،أن الحرب على غزه وجبهاتها باتت في صلب معركة الانتخابية الأمريكية، وما زيارة غانتس إلى الولايات المتحدة إلا رسالة يود الأمريكي نقلها عن إمكانية استخدام الأوراق المتاحة بوجه "نتن ياهو" وعلى رأسها حل الحكومة الصهيونية الحالية في حال تخطيه الحواجز المرسومة له أمريكياً.
أخيراً، حاولنا جاهدين من خلال هذا المقال التحليلي استخدام لغة العقل والمنطق، وأوردنا ما يجب أن تسير عليه الأمور، وبالتالي استبعاد الحرب حالياً، ولم نستبعدها بالمطلق نظراً للغوغائية التي باتت تحكم آلية صنع القرار داخل المؤساسات الصهيونية حالياُ والتي ستفضي لإطباق لعنة عقده الثامن عليه، فكم المعارك الشخصية التي استجلبها كفيل بإنهائه. تتهاوى صورة هذا الكيان أمام ضربات شعبنا العسكرية،الدبلوماسية والشعبية ، وجل ما نحتاجه اليوم لادراك هذا السقوط هو التقاط هذه الصور وتجميعها وانتظار أفول نجم هذا الكيان الشاذ…والنصر قادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق