“في غزة ليس لديهم شيء آخر/ هم هناك منذ اندلاع دمهم/ لا يمكن أن يموتوا/ الوطن قيد التكوين/ دماؤهم تكشح عتمة القتل/ قيامتهم.. قيد الأمل”.
هي كلمات لا بدّ منها. تطرد التشاؤم. تفتح نافذة الأسئلة. من حق الفلسطيني أن يعرف، حق المعرفة، لماذا تفوز “إسرائيل” الصغرى، على “دول وممالك وإمارات وأنظمة العرب”؟ بل من حق “الشعوب” العربية، أن تطالب بالإجابة. كيف لدولة مصطنعة، لم تكن موجودة أبداً من قبل، أن تهزم كل “جيوش العرب”. مرة تلو مرة. أحدهم في ما بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، أطلق حنجرته بأغنية فادحة: “يا ميَّة مليون عربي بصل”. الأصل: “يا مية مليون عربي بطل”.
بات من الملح جداً، أن نبحث في أسباب الهزائم المتلاحقة. مع الحرب على غزة وصمود أهلها، يتأكد مُجدداً أن قوة صغرى جداً، تستطيع أن تواجه وتتحدى وحدها، أعتى وأكبر جيوش المنطقة. غزة تُلحُّ علينا بإيجاد الجواب: لماذا نحن نخسر.. وتلك تنمو وتتعملق، و”دولنا” تجثو وتدب على جباهها؟
صح. الأسئلة فجة وملحة. كفانا بهورة وحروباً وخطباً ومؤتمرات وتصريحات ومبادرات و…
الدول العربية، الثرية والفاحشة والفقيرة البائسة، تسير على جباهها، وشعوبها معتقلة، ومسموح لها أن تشرب وتأكل وتنام و.. فقط، بشرط الطاعة والصمت.
الجواب سهل جداً.
“إسرائيل” دولة لشعبها. أي أنها ليست “فوق” شعبها. هي دولة تتميز بـ”معجزة” اقتلاع شعب من أرضه وتشتيته في غياهب ودياجير العرب والعالم، وإقامة دولة تامة. دولة مكتملة النصاب. لماذا؟
أولاً؛ الصهيونية كانت فكرة، تحولت إلى عقيدة، تخطت المستحيلات. وفي خلال سنوات قليلة انعقد الزواج، بين دول غربية بالغة القوة، وبين صهيونية بالغة الثقة، بتحقيق الدولة لشعب مطارد ومقتول.
ثانياً؛ حشدت قواها المدنية و”العسكرية” لقضم الأرض بالقوة. تخدم الدول الغربية، لقاء خدمة هؤلاء لمشروع “الدولة”.
ثالثاً؛ ترجم وعد بلفور بسرعة، فيما قام الغرب بتدمير الثورة العربية وتشريد أهلها وزعاماتها في المنافي.
رابعاً؛ قاتلت بدعم غربي السكان الأصليين. وبسرعة احتلت قرى. هدّمتها. ارتكبت مجازر مريعة. العرب يطلقون الصرخات. السلاح الوحيد في حوزتهم أقصر قامة من مشروع الدفاع عن النفس.
خامساً؛ العرب في كل واد يهيمون. الصهيوني من كل حدب وصوب جاء. اندفع. دافع. هاجم. اقتلع واحتل. ارتكب ولم يسأله أحد عن الدماء والاغتصاب.
سادساً؛ بسرعة مذهلة، حظيت باعتراف دولي وانتمت إلى المنظمات الدولية وباتت في صدارة المواجهة. دولة صغيرة جداً، تقرع أبواب الدخول إلى نادي الدول الكبرى. الغرب بات ملزماً، ولو مكرهاً، أن يكون الراعي والمدافع والمتابع. “إسرائيل العظمى”، حصلت على هذا اللقب بعد العدوان الثلاثي على مصر. فرنسا، شارل ديغول “ما غيرو”.. بريطانيا وبن غوريون… ربحوا المعركة. بعد أعوام، سبقت ثلاثة جيوش عربية فادحة العدد، في شن حرب حزيران/يونيو، فدمّرت جيش جمال عبد الناصر، (ونصف جيشه في اليمن) وجيش الأردن وجيش سوريا.
سابعاً؛ إسرائيل ربحت كل معاركها. “العرب” خسروا كل شيء. فازوا فقط ببلاغة الخطب، والتهديد اللفظي. الضفة الغربية انتزعت من الأردن. سيناء لم تعد إلا بعد استسلام مصر لـ”إسرائيل”، والجولان ما يزال محتلاً.. ولا مَن ينادي… النسيان سياسة متعمّدة.
“الدول” العربية، ليست دولاً البتة. هي سلطات وأنظمة. “إسرائيل”، يدعمها شعبها. شعبها أولاً. هي دولة قوية كاملة الأوصاف. أنشأت جيشاً من أقوى الجيوش. جيشها يحكمها بكل ديموقراطية. في “إسرائيل” أحزاب ومنابر وأندية وتشكيلات اجتماعية. الدكتاتورية غير واردة. “الإسرائيلي” مواطن جداً. كامل الحقوق، يوالي، ينتقد، ينتفض، يُحاسب، يُغيّر السلطة. انه أساس الدولة.. جيشها لا تصنعه القيادة، بل العسكرة التامة. الحرية مصانة ومقدسة. المساءلة يومية. نظام العدالة ميزان من ذهب. رؤساء ووزراء وقادة حُكمَ عليهم بعقوبة السجن وما زالوا. دولة بمواصفات مثالية. خلقت قلعة دولية، يحتاجها الغرب ولا يتجرأ على المساس بها أو محاسبتها. بل تأمره، فيطيع. جرائم غزة الفادحة وغير المسبوقة تحظى بغطاء ودعم جهنمي.. وعلني.
“إسرائيل”، مغفورة خطاياها وارتكاباتها، لأنها “دولة ديموقراطية عن جد”، وشعبها مستعد للتضحية ويُكافأ بالانتصار ويحظى دائماً بالدعم المالي والعسكري و”الإنساني”.
هل يُلام الغرب؟ طبعاً. الغرب الجميل هذا، متوحش وهمجي ومرتكب إبادات. غض النظر ارتكاب وعار. لا يهم الغرب إذا مشى عارياً سياسياً وأخلاقياً. عليكَ أن تكون كما تريد “إسرائيل”. “إسرائيل”، ومنذ اندلاع مجازر غزة، تُردّد: “الأمر لي”. فأطيعوني.
خلاصة القول؛ “إسرائيل”، دولة اغتصاب، معترف بها دولياً، ذات طابع نموذجي، إذ لم يحصل من قبل، أن تم اقتلاع شعب واستبداله “بشعوب”، تعرضت لعنف الغرب وكراهيته بسبب عنصريته. اليهود تعرضوا لإبادات على أيدي الغرب الأنيق. الغرب المبيد والفاحش. من يُراجع ارتكابات دول الغرب في العالم، يجد أن الدماء لم تجف حتى الآن. ركّعوا الهند وحلبوها. احتلوا الصين وأغرقوها بالأفيون. الجزائر فرنسية. هكذا أرادها ديغول. الغرب ملوّث. دموي. مجرم. شره. حرامي. دجّال. سفّاك. كذّاب. أنيق المظهر بأنياب ذئبية. مدّمر. مخرّب. يُؤمن بالغزو: غزو الأسواق. غزو البحار. غزو الفضاء. وراهناً، هم بصدد العمل على غزو الأرض وما فوقها وما تحتها.
الجحيم ليس ما تقوله الأديان أبداً. جحيم دول الغرب المتوحشة، هي هنا. مليارات من البشر محكومون بالجوع والموت البطيء. قراصنة أنيقون. أما من الداخل، فكلهم “دراكولا”.
هذه هي “إسرائيل”، أو هذه بعض ملامح توحشها. وهذه حقيقة الدول الأنيقة جداً، وصاحبة نهج الافتراس.
أما نحن، فما نحن؟ ومن نحن؟ ثم هل نحن نحن عن جد؟
“إسرائيل”، دولة تامة. لا ينقصها شيء لقيام نصاب الدولة. نحن في هذا العراء العربي، لسنا دولاً. بل ممالك أو ثكنات.
لسنا دولاً أبداً. نحن كيانات. ولكل كيان طبيعة ووظيفة. من بدائع هذه الكيانات أنها لا تعترف بشعوبها. ليس في العالم العربي، من يعتبر السكان شعباً. هم أتباع وخدم. الذين ليسوا كذلك، يمارسون براءتهم من خلال تبنيهم عقيدة الصمت. العالم العربي، ليس فيه حكم، بل تحكّم.
غزة اليوم، أيقونة الحرية، راية الإنسانية، أفق الحياة.
عزاؤنا بأحرار العالم في هذه الكرة الأرضية.
نعود إلى البداية:
“قيامة غزة.. قيد الأمل”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق