إذا كان المستويان السياسيان الإسرائيلي والغربي يستهدفان الإيحاء بحتمية تحقيق التوقعات بانتصار حاسم وشامل في كل الميادين، فإن الهدف من وراء ذلك لا يخرج عن محاولة إثارة جو من خيبات الأمل لدى الجبهة المقابلة.
استطاع الكيان الإسرائيلي بعد طوفان الأقصى أن يرسم أطر العدوان على غزة بعد طوفان الأقصى انطلاقاً من سيناريو حتمية الانتصار على المقاومة في غزة، وذلك من خلال القضاء النهائي على المقاومة وإفشال أي محاولة لاستغلال مفاعيل طوفان الأقصى في المعادلات التي ستحاول المقاومة تكريسها بعد أسر عدد كبير من الإسرائيليين، إضافة إلى فرض معادلة أساسها عدم قدرة البيئة الحاضنة للمقاومة على تحمل تبعات أي عمل يمس بالأمن الإسرائيلي.
وبناء عليه، انطلق العدوان الإسرائيلي وفق سيناريو يرتكز على القتل العشوائي للمدنيين والتدمير الممنهج للمدن والبنى التحتية من أجل إجبار المقاومة على الاختيار بين التسليم بعدم قدرة بيئتها على تحمُل الأثمان الباهظة للعدوان أو الاستسلام أمام قوة "الجيش" الإسرائيلي الذي استطاع أن يدخل إلى مدن القطاع، إذ ادعى أن هذا الدخول هو انعكاس لنجاحه في تدمير البنى التحتية للمقاومة، مع الإشارة إلى ما يمكن أن يثار حول هذه النقطة من تساؤلات تتعلق باستراتيجية المقاومة التي لا تستهدف منع القوات المهاجمة من التوغل بقدر ما تستهدفه من إلحاق أضرار جسيمة بالقوات المهاجمة، أي بما يمنعها من التمركز أو تثبيت وجودها في الأماكن التي تصل إليها.
يفترض الإشارة في هذا الإطار إلى قناعة إسرائيلية تتمحور حول أن مفتاح النجاح أو الانتصار في الحرب يتمثل في إظهار ثقة كبيرة بالنصر، إذ إن التفاؤل هو من أهم العوامل المضاعفة للقوة.
وبناء عليه، لم يخرج القادة الإسرائيليون عن هذه القناعة، إذ توافقت تصريحات الحكومة ومعارضيها على الإعلان المسبق للانتصار؛ فمن خلال مراقبة ما صدر في بداية الحرب من آراء تعكس رؤية الحكومة ومعارضيها، أمكن دون شك لمس يقين بتحقيق أهداف العدوان ونجاح الكيان في تحويل نكسة طوفان الأقصى إلى انتصار يتخطى إطار المواجهة مع المقاومة في غزة ليصل إلى تغيير جوهري في توازنات القوى التي فرضها محور المقاومة في السنوات الأخيرة.
ومن ضمن الأدوات التي تستهدف تحقيق هذه الرؤية، عمل الكيان على إقناع الداخل الإسرائيلي بأن الخسائر التي لحقت وتلحق بالداخل الإسرائيلي لا تعبر عن خسارة فعلية بالقدر الذي تعبر عن تضحيات ضرورية لإنجاح مشروع تحصين الكيان في مواجهة قوى المقاومة التي تستهدف القضاء عليه.
بالتوازي، عمد الكيان إلى زرع بذور الضعف في نفوس بيئات المقاومة من خلال محاولة تكريس قناعة لديها بأنها تخسر المعركة، وبأن ما تحقق في 7 تشرين الأول في غلاف غزة وبعدها في الجبهات الأخرى لن تكون له أي علاقة بالنتيجة النهائية للحرب.
في هذا الإطار، لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن تبني هذه الرؤية، إذ إن المسار السياسي الذي اعتمدته في بداية الأزمة من خلال التسويق بأن اليوم التالي للحرب لن يلحظ أي دور للمقاومة في مستقبل غزة من دون أن ننسى أن رؤيتها لواقع جنوب لبنان لا تتماشى مع معطيات الميدان، إذ إن الحلول المقترحة تفترض تراجع المقاومة إلى شمال الليطاني كما لو أنها منهزمة.
على مدى أكثر من 5 أشهر ونصف شهر استطاعت خلالها المقاومة في غزة وجنوب لبنان أن تلحق بـ "الجيش" الإسرائيلي خسائر لم يتلقَ مثلها منذ النكبة، كانت معطيات الميدان وحقيقة أداء "الجيش" تدل على تناقض واضح مع السردية التي سوق لها المستوى السياسي الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي والغربي.
وإذا كان المستويان السياسيان الإسرائيلي والغربي يستهدفان الإيحاء بحتمية تحقيق التوقعات بانتصار حاسم وشامل في كل الميادين، فإن الهدف من وراء ذلك لا يخرج عن محاولة إثارة جو من خيبات الأمل لدى الجبهة المقابلة.
يفترض الإشارة إلى أن الأسس التي استند إليها الكيان الإسرائيلي في هذا الإطار لم تكن خيالية بالمطلق، فالدعم الدولي غير المحدود الذي التف حوله، إضافة إلى الاستعداد الأميركي في بداية الحرب للانخراط في المعركة إذا استدعت معطيات المعركة ذلك، إضافة إلى الحياد العربي المريب والقناعة بأن المقاومة في غزة لن تتمكن من الصمود لفترة طويلة أمام معطيات الحرب الشاملة التي ظهرت بوادرها منذ اليوم الأول، أوحى كله بإمكانية تحقق هذه الرؤية، غير أن الواقع أثبت أن هذه الرؤية، بما تعنيه من استراتيجية يُعول عليها في تحقيق الانتصار، اصطدمت بواقع مقاومة نجحت في تحضير بنيتها وبيئتها نفسياً.
ومن خلال ترجمة الصمود الميداني معطوفاً على نجاحها في عدم الرضوخ أمام هول المجازر التي يرتكبها الكيان على مدار الساعة، استطاعت المقاومة أن تحول التوقعات الكبيرة لقادة الكيان والجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى مصدر خيبة أمل تخطت في تأثيرها حدود الكيان لتطال حلفاء الكيان وداعميه. وبالتالي، بدأت تأثيرات الميدان وفشل الجيش الإسرائيلي في تظهير إنجازات عسكرية حقيقية تنعكس انقساماً في الداخل الإسرائيلي، وأيضاً على مستوى علاقاته مع حلفائه الغربيين.
بعدما استفاق الداخل الإسرائيلي وحلفاء الكيان من سكرة الانتقام للخيبة التي سببها طوفان الأقصى، بدأت عملية تقييم مدى تحقق التوقعات التي تم التسويق لها، إذ أظهرت القراءة الواقعية لنتائج العدوان فشلاً مزدوجاً للمستويين السياسي والعسكري، وبالتالي بدأت تطفو إلى العلن ضرورة تقييم أسباب الفشل ومحاولة استدراك سبل معالجتها أو البحث عن آليات جديدة تساعد في التخفيف آثارها السلبية.
وبناء عليه، تقاطع الانقسام الداخلي الإسرائيلي بين مكونات كابينت الحرب بالتوازي مع الاتجاه المعارض لنتنياهو وحكومته مع خلاف جوهري بين هذا الأخير والإدارة الأميركية، فالخلاف العميق بين أعضاء الكابينت والحديث عن إمكانية إقدام نتنياهو على إلغائه معطوفاً على تنامي جبهة المعارضة، ممثلة بيائير لابيد وغانتس وباراك وغيرهم، تتقاطع من حيث المبدأ مع التصريحات التي صدرت عن زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي تشاك شومر وما عبرت عنه صراحة نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس في مقابلتها مع ABC NEWS، إضافة إلى ما يمكن أن يُقرأ من خلال الامتناع الأميركي عن التصويت على القرار الأخير في مجلس الأمن لناحية التسليم بعدم واقعية الرؤية التي سوق لها نتنياهو في بداية الحرب.
وإذا كانت كل الأطراف المذكورة قد عبرت مراراً وتكراراً عن التزامها بتحقيق هدف الانتصار في الحرب وتبنيها رؤية تفترض عدم وجود أي دور للمقاومة في غزة في اليوم التالي للحرب، فإن من خلال تبلور أول خطوة أميركية عملية للضغط على نتنياهو، عبر مجلس الأمن، مع ما تعنيه من إيعاز للداخل الإسرائيلي بضرورة الحد من نفوذ نتنياهو ومحاولة إقصائه، يمكن التقدير أن توصيف مرحلة ما بعد صدور القرار في مجلس الأمن لن يخرج عن دائرة الاعتراف بانتهاء صلاحية رؤية نتنياهو للانتصار، فمعطيات واشنطن "وتل أبيب" تؤشر لمرحلة أخرى أكثر واقعية وتواضعاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق