قامت "إسرائيل" كتجمع استيطاني عسكري يضم أبناء قوميات متعددة يتباينون في اصولهم الحضارية، وهذا ما جعل التناقضات تطفو على السطح طوال تاريخ هذا الكيان.
على الرغم من أهمية الخلافات التي تحدث في "إسرائيل"، وخصوصاً بين العلمانيين من جهة وتيار اليمين من جهة ثانية، فإن التدقيق في المشهد الإسرائيلي، اجتماعياً وسياسياً، يؤكد أن هذه الخلافات تظل تحت سقف ثوابت في كل ما له علاقة بحقوق الفلسطينيين.
قامت "إسرائيل" كتجمع استيطاني عسكري يضم أبناء قوميات متعددة يتباينون في اصولهم الحضارية، وهذا ما جعل التناقضات تطفو على السطح طوال تاريخ هذا الكيان، وصولاً إلى تحذير الرئيس الإسرائيلي السابق، رؤوفين ريفلين، في مؤتمر هرتزيليا في عام 2015 من "وهن الرابط الاجتماعي والوحدة في المجتمع الإسرائيلي".
قسّم ريفلين المجتمع الإسرائيلي إلى أربع قبائل، هي: العلمانيون والمتدينون الصهاينة والحريديم والعرب. إذا استثنينا القبيلة الرابعة، أي الفلسطينيين، أو ما يُعرفون اليوم بـ"عرب الـ48"، يمكن القول إنه ليس ثمة ما يمكن أن يوحِّدهم باستثناء مساحة مشتركة واحدة تضم مجموعة من البديهيات السياسية، مثل: "يهودية الدولة" وموقع "الجيش" وتشجيع الهجرة ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين ورفض إزالة الكتل الاستيطانية.
هذه الثوابت معلَنة ويتم التعبير عنها من جانب الجميع من دون أي مواربة، إلا أن هناك عناوين إضافية قد تختفي أو يتراجع التداول بشأنها في وقت معين، إلا أنه سرعان ما يتبين، وتحديداً في المحطات المفصلية، أنها قناعة راسخة ومتجذرة في العقل الجمعي الإسرائيلي، وأنها تشكّل محط إجماع.
أبرز هذه الثوابت رفض الاعتراف بأي حق من حقوق الفلسطينيين، بما فيه حق الحياة. وفي أحسن الأحوال، فإن حياة الفلسطينيين مشروطة بما يلائم المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي. وأبرز هذه الشروط اعتراف الفلسطيني بضعفه وقلة حيلته وعجزه عن مواجهة الإسرائيليين.
هذه القناعة وجدت طريقها إلى الترجمة العملية منذ نشوء الكيان. الممارسات والإجراءات نفسها تكررت مع زعماء "إسرائيل" البارزين، على اختلاف انتماءاتهم القبلية، اذا أخذنا بتوصيف ريفلين.
مارس هؤلاء القتل والإجرام بحق الفلسطينيين منذ ما قبل عام 1948. أجمعوا على أن المطلوب هو التعامل مع العرب عبر القوة والمجازر، وتبنوا نزعات العسكرتارية المغامرة، وقاموا بتمجيد الجندي العبري القاتل، والذي مثّل، في لغة بن غوريون، الإنسان اليهودي الجديد.
وكافأهم الجمهور بأن اتخذ من الأكثر إجراماً بينهم، مثل شارون وبيغن ورفائيل إيتان، قادة ورموزاً وأيقونات.
الحقيقة أن هذه النزعة لم تقتصر على اليمين في يوم من الأيام. كشف "المؤرخون الجدد" في "إسرائيل" أن ذبح المدنيين في قبية والدوايمة ودير ياسين، مثلاً، على أيدي عصابات يمينية الهوى، إنما كان بالانسجام مع أوامر أطلقها مباشرة بن غوريون "العلماني".
تُظهر الأحداث أن ما قاله بيغن في مذكراته، بعنوان "الثورة"، ومفاده أنه لولا أعمال القتل التي نظمها في دير ياسين "لما وُجدت إسرائيل"، يشكّل قناعة لدى الجميع بلا استثناء. هذا ما يفسر وقوع زعماء "إسرائيل" في غرام استراتيجية "الجدار الحديدي" التي أرساها جابوتنسكي. لقد تبناها الجميع، وجعلوها وسيلة دائمة للحياة.
يرى جابوتنسكي أنه "لا يمكن لإسرائيل أن تعيش إلا إذا طردت العرب وأقامت حول نفسها ستاراً حديدياً من القوة". لذلك، يُفترض باليهود أن ينفذوا مشروعهم خلف الجدار، وأن يشجّ الفلسطينيون رؤوسهم بلا جدوى، الأمر الذي سيجعلهم يقرون مع الوقت بأنهم غير قادرين على مواجهة المشروع، ويرضون بالعيش وفق الشروط الإسرائيلية وعلى رأسها الاعتراف بالضعف، وصولاً إلى إعلان الاستسلام أمام "إسرائيل". عبّر شامير عن إعجابه الشديد بالجدار الحديدي عندما عدّه "وسيلة للإبقاء على الفلسطينيين في حالة خضوع دائم لإسرائيل".
شامير لا يتباين في هذه النقطة عن بيغن وباراك ورابين ونتنياهو. كل هؤلاء عبروا عن ضرورة استخدام القوة ضد الفلسطينيين في كل الظروف، وتحديداً بهدف تحصيل نتائج سياسية.
إلى جانب القتل، تبرز مركزية رفض التنازل عن الأرض لدى الجميع من دون استثناء. لقد قفز كل رؤساء الحكومة المتعاقبين، منذ اتفاق أوسلو حتى اليوم، فوق صيغة مدريد وأوسلو، وفرضوا على الفلسطينيين تطبيق مبدأ "الأمن في مقابل السلام"، وليس "الأرض في مقابل السلام".
وعلى الرغم من الوعود وخرائط الطرق والاتفاقات والاجتماعات والتفاهمات والأوراق، كانت النتيجة: مزيداً من الاستيطان وتهويد القدس ومصادرة الأراضي. يتحدث آفي شلايم، أحد المؤرخين الإسرائيليين، عن هذه المسالة، ويضع بن غوريون وغولدا مائير ومناحيم بيغن وإسحق شامير ورابين وبيريز وباراك ونتنياهو في خانة واحدة، هي خانة "الرافضين للتنازل عن أي جزء من أرض الميعاد وعدم جواز التنازل عن قسم منها ولو من أجل السلام".
عدم التنازل عن الأرض لا ينفصل عن النزعة الاستيطانية التي يتم التعاطي معها من جانب الجميع كهدف تجب خدمته من دون أخذ أي أمر في عين الاعتبار. فلا شيء يتقدم على الانتشار اليهودي الاستيطاني وإقامة بناه التحتية الاقتصادية.
لم يتوقف بناء المستوطنات في زمن بنيامين نتنياهو الذي وصل إلى الحكم في عام 1993، أي بعد ثلاثة أعوام من توقيع اتفاقية أوسلو، وكذلك في حكومة شيمون بيريز بين عامي 95 و96، وكذلك عندما وصل باراك ونتنياهو إلى الحكم. لقد استمرت المستوطنات اليهودية في التوسع والانتشار. حتى في بعض الحالات، التي تظاهرت "إسرائيل" باستعدادها لتخفيف الهجمة الاستيطانية، لم تكن المسألة سوى مناورة.
أكثر من عبّر عن هذا النفاق هو شارون، الذي نُقل عنه قوله لأحد أعضاء الكنيست، رداً على اتهامه بالتساهل في سياسة الاستيطان وقبول تجميده: "في الإمكان البناء من دون تحديد لأبنائك وأحفادك، وآمل أن يصح ذلك لأبناء أحفادك أيضاً". وبعد مرور شهر على هذا التصريح، قال شارون للوزراء في جلسة للحكومة: "ابنوا ولا تتكلموا... لا يتوجب أن نخرج راقصين كلما أعطينا إذناً للبناء في المستوطنات".
يتبين بكل وضوح أن الجذور النفسية والثقافية واحدة في أفكار شارون وبن غوريون وغولدا مائير ومن خلفهم في الزعامة والحكم. كلهم يؤمنون بصورة حاسمة بدور سياسات القوة وتأثيرها، وأن "إسرائيل" عليها ألّا تتردد في الاعتماد على القتل والقمع من دون هوادة.
وهذا ما يفسر الإجماع الإسرائيلي على الحرب ضد غزة هذه الأيام. على الرغم من بحر الخلافات والانقسامات التي تغرق فيها "إسرائيل"، فإن الكل، جمهوراً وقيادة وجيشاً وإعلاماً، يُجمعون على الاستمرار في القتل والتجويع والتدمير.
فالمأزق ينبع من السياسة الإسرائيلية نفسها وليس من الأشخاص، ويتغذى من المؤسسة الإسرائيلية بكل مكوناتها، وليس من الأحزاب والقبائل على اختلافها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق