محمد هلسة
تتعمد "إسرائيل" التهويل من قدرات المقاومة، وتحاول أن تصور أن ما يجري هو مشهد قتالي بين جيشين متكافئين في القدرات العسكرية، في مسعى لتخفيف الضغط عليها، عبر خلق مبررات أمام المجتمع الدولي لاستمرار الحرب الطاحنة.
تُطلَق بين الفينة والأخرى تصريحات ومواقف، تصدر عن بعض المنتسبين الى الأمة العربية، تشتم المقاومة والذين يقفون معها، وتحمّلهم المسؤولية عن جرائم الاحتلال التي تحدث في غزة، في تماهٍ مطلق مع رواية العدو الإسرائيلي، وعلى نحو يخدم تبرئته من الفظائع التي يرتكبها في القطاع. ويبدو أن هؤلاء، بقصد أو من دونه، يمارسون الدور الإعلامي الذي رسمته المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية، عبر إشاعة روح الانهزامية والاستسلام، وتشجيع الاحتلال على مواصلة عدوانه وتعزيز الشروخ داخل المجتمع الفلسطيني من أجل إضعاف جبهته الداخلية.
يتساءل الشارع الفلسطيني، بحق، في هذه الأيام التي تتعرض غزة لحملة إبادة وتطهير عرقيَّين لم يعرف التاريخ الحديث لها مثيلاً، كيف يمكن للجدل بشأن جدوى العمل المقاوم الفلسطيني أن يبقى حاضراً في الشارع العربي، وفي الإعلام العربي على وجه الخصوص، مع تصاعد وتيرة الحرب الإسرائيلية التدميرية الحالية على غزة، وطول أمدها!
يدّعى المنتقدون للمقاومة أن ما يُقدم اليوم في ظل الحرب الحالية من جانب بعض المتخصصين العسكريين والاستراتيجيين ومحللي السياسة، فيه تلاعب بعقول الشعوب العربية، التي تنساق بانفعال عاطفي إلى تصديق ما يقال لها بشأن قُدرات المقاومة. ووفق زعمهم، فإن تحويل حركات المقاومة إلى جيش مقاتل كبير، فيه تضخيمٌ وتضليل إعلاميان قائمان على تعظيم الذات، وتضليل الشعوب العربية بوهم الإمكانات العسكرية والاستراتيجية القادرة على إضعاف العدو وهزيمته.
وبصرف النظر عن الدوافع المُحرِّكة لهذا النقد "غير البريء"، في هذا التوقيت الذي يتعرض الشعب الفلسطيني بأكمله، من دون استثناء، لحرب إبادة وتطهير عرقيين قل مثيلهما، فإن التضخيم والتهويل المقصودين للمقاومة وقدراتها، سواء أتيا من "إسرائيل" أو من أطراف عربية، بوعي أو عن غير وعي، يخدمان أهداف "إسرائيل" التي تلجأ كعادتها إلى الدعاية الإعلامية من أجل كسب الرأي العام الدولي وتعاطف الشعوب الغربية، من خلال بث أخبارٍ كاذبة وفبركات عن الفلسطينيين، تُصوّرهم "قوة إرهابية عظيمة" تسير بخطى متسارعة إلى القضاء على "دولة إسرائيل الديمقراطية المُسالمة"، بهدف الحصول على غطاء لارتكاب مزيد من المجازر وتبرير القوة التدميرية التي تستخدمها ضد الفلسطينيين.
لا شك في أننا بتنا ندرك اليوم أن ماكينة الدعاية الإسرائيلية تهدف إلى تبرير العدوان على الشعب الفلسطيني وتضليل العالم عبر التضخيم المُتعمد لقدرات المقاومة وأسلحتها، بحيث يواصل الإعلام الإسرائيلي تناول قدرات حماس العسكرية، سواء على مستوى الخطط الاستراتيجية، أو الإعداد، بحراً وجواً واستخبارياً، ويركز حديثه على محاولتها استعادة قدراتها العسكرية والعودة إلى الوضع الذي كانت عليه قبل الـ7 من أكتوبر 2023.
هذا الحديث الإسرائيلي عن قدرات غزة يهدف داخلياً إلى إبقاء المجتمع الإسرائيلي في حالة استعداد دائمة لمواصلة الحرب، أما سياسياً فتسعى "إسرائيل"، من وراء تضخيم قدرات المقاومة في غزة، لرفع منسوب خطر القطاع عليها داخلياً، بحيث يتقبل الرأي العام الإسرائيلي، في حال قررت الحكومة الإسرائيلية التوصل إلى اتفاق تهدئة ووقف لإطلاق النار مع غزة، ويستوعب أنه لم يكن في الإمكان أفضل مما كان مع "قوة المقاومة".
لذا، يتم تضخيم قوة "الخصم" حتى يعتقد المتابع أن الخصمين متعادلان في القوة، وبالتالي لن يكون فوز "القوي" شيئاً عادياً، بل انتصار استثنائي، وخصوصاً مع عدم مقدرة الاحتلال على إخضاع المقاومة وكسرها على رغم أعوام الحصار والحرب الطاحنة، التي تُشن عليها منذ ما يزيد على 6 أشهر.
أما في المستوى الدولي، فتتعمد "إسرائيل" التهويل من قدرات المقاومة بصورة متواصلة، وتحاول أن تصور أن ما يجري هو مشهد قتالي بين جيشين متكافئين في القدرات العسكرية، في مسعى لتخفيف الضغط عليها، عبر خلق مبررات أمام المجتمع الدولي لاستمرار الحرب الطاحنة، في كل أشكالها، على القطاع، وتقليل الانتقادات الموجهة إليها وتخفيف عزلتها الدولية.
هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فإن ما يثير المخاوف هو أن يتحول التهويل إلى مدعاة لاستكانة العرب وركونهم إلى أن المقاومة "القوية جداً تستطيع وحدها"، ولا داعي لأن يتدخل العرب من أجل نصرتها وإسنادها، حتى في التظاهر والفعل الشعبي. والأخطر من هذا وذاك هو إحباط الشعوب وانتكاسها وانفضاضها عن المقاومة أو أي فعل مقاوم مستقبلاً، في حال خسرت المقاومة هذه الحرب، لا قدّر الله، الأمر الذي يعني فقدان الأمل والارتهان لمشاريع التطبيع والمطبعين والتعامل مع "إسرائيل" كقدر لا بد من التعايش والتعامل معه.
في المقابل، فإن الفئة الأخرى من العرب، والتي تستمر في جلدنا عبر استمرار الحديث عن ضعف حركات المقاومة أمام جيش الاحتلال فائق الترسانة والاحترافية، وتهويل مقدرته على القضاء على المقاومة وتفكيك بُنيتها العسكرية والإدارية، إنما تمنح نتنياهو برهاناً مجانياً على أن جرائمه أحدثت مفعولاً في المشهد السياسي الفلسطيني، وفق السياق الذي رسمته "إسرائيل".
كأن هؤلاء يقولون، تحت ذريعة الضعف "وتقزيم" قدرات المقاومة، إنه ليس من حق الشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت الاحتلال ويواجه حرب إبادة ضد الإنسان والهوية، أن يدافع عن نفسه بكل ما أتيح له من وسائل وأدوات، وأن يسعى للحصول على كل مصادر القوة لردع العدو الصهيوني عن مواصلة توغله وعربدته ضد أبناء شعبنا الفلسطيني.
صحيح أن غزة ليست "قوة عظمى"، لكنها تحاول، قدر المستطاع، امتلاك وسائل قتالية قادرة على إيلام العدو والنيل منه، وأغلبية الشرفاء تثق بقدرات المقاومة، على بساطتها، وبجهودها المستمرة في الإعداد والتدريب، ومفاجأة العدو والصديق.
فقادة المقاومة يراقبون، من كثب، التطورات في "إسرائيل"، ويواصلون تحسين استراتيجيتهم لاستنزاف العدو، على نحو يضمن وضع حد قريب للحرب الدائرة ويخفف عن شعبنا ويلاتها، ويضمن بقاء المقاومة وفصائلها عسكرياً وإدارياً داخل قطاع غزة، مع ما يترتب على ذلك من آثار إيجابية تطال مجمل الحقوق الفلسطينية، ومنها حقة في الحرية والاستقلال.
وربما هذا هو إحدى صور النصر التي يحاول نتنياهو أن يسلبها من المقاومة عبر استمرار الحديث عن استكمال الحرب حتى تحقُّق "النصر التام"، وفق تعبيره. أمّا فيما يتعلق بالقتال في غزّة، فإنّ عمليات المقاومة الفلسطينية مستمرة، ونجحت مؤخراً في تنفيذ سلسلة من العمليات النوعية المؤلمة للعدو في بيت حانون وبيت لاهيا، كما في مخيمي جباليا والشاطئ، شمالي القطاع، على رغم ادعاء العدو سيطرته عليها و"تطهيرها"!
إن المسألة لا تتعلق بتضخيم قدرات المقاومة، كما يحلو للبعض تسميته، فنحن ندرك أن تصوير الحرب بين كيانين متكافئين، في تحليلات مبالغ فيها، سياسياً وعسكرياً، لا يمثل الرواية الفلسطينية الحقيقية المتمثلة بأننا شعب أعزل يرزح تحت احتلال غاشم استيطاني وأرعن.
ولا يمثل روايتنا كذلك أولئك المنبطحين الذين يعشقون العبودية حتى وصلت بهم الدناءة إلى التنظير لها وتمجيدها، واستهجان من يطالب بالحرية وتخوين من يقاتل من أجلها، تحت ذريعة ضعف المقاومة وقدراتها وتفوق "إسرائيل" النوعي.
ووفق القدْر ذاته، فإننا ندرك ونؤمن بأن من حق المقاومة أن تمتلك أي وسائل من شأنها التأثير في العدو الصهيوني والنيل منه ومن قواته الغاشمة، وأن من واجبها أن تدافع عن شعبها وأرضه وكرامته بكل الوسائل المتاحة. فكل الفظائع والتدمير والقتل والجرائم التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة، منذ 6 أشهر، تثبت، بصورة قاطعة، أن الحكومة الإسرائيلية لم تتعلم من دروس التاريخ أن الخيار العسكري والقوة الباطشة فشلا فشلاً ذريعاً في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، أو حسمه، أو إخضاع الفلسطينيين ومقاومتهم، على رغم فائض القوة الذي تتمتع به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق