الجنون في الحروب الإسرائيلية، يمتلك جذوره التوراتية، لكن "إسرائيل" لم تدرك أن الجنون أيضاً يخضع لقوانين التراكم والتكيّف، وأنه أيضاً يصل إلى عتبات نهاية الصلاحية في لحظة نضج المشروع المقاوم في الجهة المقابلة.
منذ نشأة كيان الاحتلال؛ قرّرت "إسرائيل" في علاقاتها الدولية اتباع منهج الصور المتنوّعة؛ أو "الصورة بحسب الطلب"؛ بمعنى أنها تصدّر صورة عن الذات للطرف الآخر توائم وتناسب سياستها مع هذا الطرف. بعد قرار التقسيم وما تبعه من مواجهات عام 1948، قدّمت "إسرائيل" نفسها للولايات المتحدة أنّها "الديمقراطية الوحيدة" في "محيط استبدادي"، وهذه "الديمقراطية الوحيدة الناشئة" بحاجة إلى الحماية تحت مظلة المنظومة الليبرالية التي تقودها الولايات المتحدة. وللمفارقة، في الوقت نفسه، قدّمت نفسها للاتحاد السوفياتي على أنها نموذج "الدولة الاشتراكية"، الذي يبحث عنه السوفيات في المنطقة لتعميمه، وعرضت عليه نماذج عملها في الكيبوتسات، وسارعت إلى عرض الهستدروت كنموذج نقابي لحماية العمال والفلاحين.
أرادت "إسرائيل" قطع الطريق على أيّ تحالف ناشئ بين الاتحاد السوفياتي ودول المنطقة، التي أعلنت عن تبنّيها الاشتراكية في ميدان الاقتصاد (البعث في سوريا والعراق، عبد الناصر في مصر).
عملت "إسرائيل" على أن تبقى أوروبا أسيرة "عقدة الذنب"، واستمرّت (أي "إسرائيل") في تصدير "المظلومية" واستذكار "المحرقة"، وفي كل مرة كانت أوروبا "ملزمة" في تعويض الاحتلال عن "الجريمة" التاريخية، التي انطوت على ملابسات كثيرة تُغيّر حقيقتها التي تريد "إسرائيل" تصديرها، والتي يمكن الحديث عنها في مناسبات أخرى. هذا التعويض يأخذ أشكالاً عديدة في التصدّي الأوروبي المستميت لـ "معاداة السامية"، وفي نقل السلاح لإنتاج محرقة حقيقية في مكان آخر في العالم (نُقلت أولى الشحنات من سفن ساعر تحت هذا المنطق من ألمانيا إلى الاحتلال).
عندما وُضعت أفريقيا على طاولة البحث الإسرائيلي لتطبيع العلاقات، تحديداً بعد اتفاقية كامب ديفيد، حاولت مراكز الأبحاث الإسرائيلية نسج محاكاة مُختلّة تاريخياً، أن الهجرات المتتابعة في التاريخ الأفريقي، وعلى يد الاستعمار الأبيض هي النظير الموضوعي لـ "الخروج اليهودي"، وأنّ الشتات الأفريقي هو الصورة المقابلة لـ "الشتات اليهودي"!
وإذا كانت هذه الصور قد وزّعتها "إسرائيل" على هذه الأطراف، فالصورة التي حاولت زراعتها في ذهن الفلسطينيين وشعوب المنطقة، العربية والإسلامية، كانت مختلفة؛ أنّها "دولة مجنونة"! وبحسب تعبير موشي دايان، أنها كلب مسعور، ينهش ويقتل، وسريع الانفعال والغضب، ولا يمكن الاقتراب منه. ومعايير هذا الجنون هي:
1. لا ضوابط في أشكال القتل التي تستخدمها "إسرائيل".
2. الفعل المحدود من طرف معادٍ، يكون الردّ عليه بالتدمير الكلّاني (collateral damage)، ومباشرة. لذلك يجب على الأطراف الأخرى الاكتفاء بوسائل الدفاع المحدودة، ولجم الخيال عن أي مبادرة "تتخطى الحدود".
3. فارق الخسائر في أي مواجهة يجب أن يكون هائلاً.
مع أن الكثير من أدبيات السياسة ترجع "عقيدة الجنون" إلى موشي دايان، إلا أنها كانت ممارسة عملية مستمرة على طول الخط في تاريخ هذا الكيان، وكانت الأفعال الإجرامية للهاغاناه والأرغون في قرى فلسطينية تستهدف إخلاء القرى الفلسطينية الأخرى قبل الوصول إليها، وكانت حرب 1967 تهدف إلى لجم الجيوش العربية عن أي مبادرة قتالية مستقبلية (وهي الفكرة التي سيطرت على رأس غولدا مائير وحجبت عنها التنبّؤ بأكتوبر 1973). وكانت الأفعال الإجرامية ضد الانتفاضة الثانية، تهدف إلى الرّدع، وأن إصابة الإسرائيليين يجب أن تقابلها إصابة أكثر من 47 ألف فلسطيني، ناهيك عن الشهداء الذين تجاوزوا 4400 شهيد. وكان الردّ على أسر جنديين صهيونيين في تموز 2006 يقابل بقصف سريع للبنان.
لكنّ الملاحظ في عقيدة الجنون هذه، أنها تفقد فعّاليتها مع الزمن، وبقوة؛ فالجنون الإسرائيلي في الانتفاضة الثانية لم يكن فعّالاً، لإحداث فرق يشبه عام 1948، حتى كمّياً. والجنون الإسرائيلي في حرب تموز انتهى بهزيمة، وفضيحة كبرى لعدم فعّاليته في تحقيق أهداف الحرب.
الجنون في الحروب الإسرائيلية، يمتلك جذوره التوراتية (مبدأ التحريم: أي إبادة الشعوب الأخرى)، ولكن "إسرائيل" لم تدرك أن الجنون أيضاً يخضع لقوانين التراكم والتكيّف، وأنه أيضاً يصل إلى عتبات نهاية الصلاحية في لحظة نضج المشروع المقاوم في الجهة المقابلة.
تظهر ملامح جفاف الفعّالية للجنون الإسرائيلي في اتجاهين، الأول العجز عن استخدام أدوات التدمير الكلّاني قلقاً من رد الطرف الآخر، والثاني عدم قدرة هذا الجنون على تحقيق أهدافه، ومن ذلك:
1. على امتداد فترة القلق الإسرائيلي من المشروع النووي الإيراني، كانت "إسرائيل" تهدّد بالتصرّف لوحدها، وانتهت الصورة في نهاية المطاف في مشهدية القصف الإيراني لـ "إسرائيل" في ليلة المسيّرات والصواريخ في الرابع عشر من نيسان/أبريل، ومشاركة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا في الدفاع عنها!
2. تنقلب صورة التهجير من القرى الفلسطينية، بفعل صيت جنون عصابات الهاغاناه، إلى هروب المستوطنين من غلاف غزة والشمال، بفعل جدّية التهديد الذي ثبّتته المقاومة.
3. مع أن الجنون الإسرائيلي ما زال يعمل في غزة، إلا أنه لم يحقّق أهدافه، لا على المستوى السياسي (القضاء على المقاومة)، ولا على المستوى الشعبي (التهجير مجدّداً).
4. من دون التقليل من حجم التضحيات البطولية، إلا أن الفجوة في الخسائر المادية والمعنوية باتت أضيق من أي وقت مضى في تاريخ الصراع.
5. تستمر "إسرائيل" في تهديد لبنان بالعودة إلى الجنون، إلا أنها تستعيد "رشدها" في لحظة إعادة مشاهد الصور التي التقطها الهدهد، وتعود إلى الالتزام بمعادلات الميدان التي تفرضها المقاومة في لبنان. بالمناسبة، يبدو نهج اغتيال القادة للبعض أنه وسيلة فعّالة تستخدمها "إسرائيل" في ميدان المواجهة مع حزب الله، إلا أنها في الواقع الأسلوب البديل، والوحيد الممكن، عن العجز في استخدام الجنون!
6. تكسّر الجنون الإسرائيلي أمام الإصرار اليمني على استمرار العمليات، حتى مع وصول الأساطيل الغربية إلى البحر. وأمام الإصرار العراقي على الاستمرار في التصويب على الأهداف الحيوية والحساسة.
7. كانت لحظة السابع من أكتوبر نهاية لـ "عصر الجنون"، وانفعال "كلب ديان" لم يمنع من مبادرة الهجوم الملحمي!
لم يتوقّف جنون "إسرائيل" تماماً، إلا أنه بات ملجوماً وغير فعّال. ينطوي الجنون على الغرور، وكلاهما ينطوي على الإنكار، والإنكار الذي ما زال يعمل في عقل "إسرائيل"، سيجرّها، بالتكاتف مع عوامل أخرى طبعاً، إلى نهاية "الدولة المجنونة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق