الهوية والكيانية الفلسطينية


أسامة خليفة
                باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
الهوية بالمفهوم الفلسفي تعبّر عن الصفات الجوهرية التي تميّز أي شيء عن غيره، وفق المنطق الأرسطي هي ماهيّات ثابتة غير متغيرة، لكن وفق المنطق الجدلي التاريخي، الهوية الثقافية لأي شعب هي الجوهري والمشترك من السمات التي تميز حضارته عن غيرها من الحضارات والتي تشكلت عبر التطور التاريخي لمجموع العناصر المختلفة التي تحدد الهوية مثل اللغة والثقافة الشعبية والدين والوعي الجماعي ومعايير الحياة الاجتماعية المتوارثة، لابد لهذه العناصر أن تستقر على حالة معينة في مرحلة ما من التطور، وحسب جدل التطور أن الانسان يحتفظ بوحدته الذاتية رغم مروره بمراحل التطور العمرية، وكذلك الحال في الظاهرات الاجتماعية يحتفظ الجديد المتطور بالكثير من خصائص القديم.
لم تظهر الهوية الوطنية الفلسطينية المحلية في بداية القرن العشرين نتيجة الهجمة الصهيونية ووعد بلفور، كما يدعون، بل التاريخ الطويل للوجود والعيش المشترك للشعب الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية ولأكثر من خمسة آلاف سنة، ترك تراثاً خصباً استندت إليه الهوية، وشكلت منه خصائصها الحالية، فإذا نظرنا إلى الهوية كخصائص فإنها تشكلت عبر زمن طويل من وجود الشعب الفلسطيني على أرضه وتفاعل الناس فيما بينهم وتفاعلهم كمجتمع مع البيئة والمحيط الحيوي، وإذا نظرنا إليها كوعي للذات وإحساس بالانتماء إلى شخصية وطنية مشتركة تتجاوز الانتماءات العشائرية والاثنية والمذهبية،  فقد برزت الهوية الوطنية قبل الخطر الوجودي المتمثل في المشروع الاستيطاني الصهيوني الذي يريد أن يقتلع شعب عاش ومازال في منطقته الجغرافية، لكن الاحساس بالانتماء يتعاظم ويتبلور أكثر وينضج الوعي ويزداد الحرص على أدق تفاصيل الهوية الوطنية، ويصبح الشعب الفلسطيني أحوج ما يكون إلى إبراز هويته الوطنية لأنها مستهدفة من عدو استيطاني إحلالي يدعي أن فلسطين وطن بلا شعب لشعب بلا وطن، لذلك تأكيد الهوية الوطنية الفلسطينية ضرورة نضالية وليست صادرة عن طبيعة انعزالية أو مناطقية. أصبحت الهوية الوطنية ضرورة في مواجهة الخطر الصهيوني في فلسطين للحفاظ على وجود هذه الجماعة فوق أرضها لمن بقي، أو حلم العودة إليها لمن هُجّر، في وقت انشغل الفلسطينيون بالتصدي لتصاعد القومية التركية، بأفكار قومية عربية ألح عليها المفكرون والجمعيات السياسية دون اهتمام بخصوصية فلسطينية ولو في إطار فيدرالي مع المحيط العربي، والسوري على الخصوص، كجزء من أمة أوسع هي سوريا.
الاسم جزء مهم من الهوية الوطنية لأي شعب، وليس مجرد كلمة، المؤرخ الإغريقي هيرودوت في مؤلفاته في القرن الخامس قبل الميلاد، أشار إلى منطقتي بلاد الشام وبلاد الرافدين باسم «سوريا» وإلى جنوبها بـ«فلسطين»، وذلك في عام 132 للميلاد، عمّ استخدام اسم فلسطين كاسم منطقة ذات حدود سياسية معينة عندما أقامت سلطات الإمبراطورية الرومانية ولاية فلسطين السوريةProvincia Syria Palestina» »، وفي بداية عهد الخلافة الإسلامية أصبحت فلسطين تُسمى «جند فلسطين» وكانت اللد مركز جند فلسطين طيلة العهد الراشدي وأوائل العهد الأموي إلى أن أمر سليمان بن عبد الملك (فترة ولايته 86 - 96هـ)، ببناء مدينة الرملة لتصبح عاصمة جند فلسطين.
ومن أحداث التاريخ الهامة في فلسطين خلال الفترة العثمانية، أقام ظاهر العمر الزيداني إمارة قوية مستقلة في فلسطين، عاصمتها عكا، حملت مشروعاً سياسياً يتضمن تحرير الأرض، وانتزاع الاستقلال، لكن تلك الدولة العربية لم يسمها فلسطين، وهذا يؤكد مرة أخرى أهمية الاسم في تحديد الهوية.
كانت كلمة «فلسطيني» قبل قيام الكيان الصهيوني تدل على كل شيء يرتبط بالبقعة الجغرافية الممتدة بين رفح إلى الناقورة ومن البحر إلى نهر الأردن، ولا يستثنى من ذلك اليهودي، فاُطلق على كل من المسلمين والمسيحيين واليهود اسم «فلسطينيين»، كان معنى كلمة فلسطيني يشير إلى أي شيء يرتبط بالمنطقة، حتى لو كان يهودياً، في الصحافة تأسست أول الصحف المحلية اليهودية بموازاة نظيراتها العربية، كانت تُسمى Palestine Post»  «The
وقد تم تغيير اسمها إلى  «Jerusalem Post»لاحقًا بعد النكبة في عام 1950،  وفي السياسة، قامت بريطانيا بتأسيس فوج عسكري في الحرب العالمية الثانية لمحاربة دول المحور، حيث كان يتألف من اليهود، أُطلق عليه اسم «فوج فلسطين» وقد تأسست شركات كبرى في المنطقة تحمل مُسمى «فلسطين»، مثل: شركة كهرباء فلسطين، و«شركة سكك حديد فلسطين»، التي أصبحت بعد النكبة «شركة قطارات إسرائيل»، وبالنتيجة فإن استهداف الصهيوني للهوية يجري أيضاً من خلال عملية التهويد باستبدال الأسماء العربية الفلسطينية بأسماء عبرية.
حدود فلسطين كجزء من الهوية الوطنية مرسومة طبيعياً عبر الأحقاب الجيولوجية من النهر إلى البحر، قبل أن ترسمها المفاوضات والاتفاقيات من «سايكس بيكو» إلى «مؤتمر سان ريمو» إلى «اتفاقية رودس» التي كانت أسوأ الاتفاقيات رسمت خط الهدنة عام 1949 أو ما يسمى الخط الأخضر، ليبنى على أساسه بعد ذلك حل الدولتين، في محاولة لحصر اسم فلسطين في حدود الضفة الغربية وقطاع غزة.
كثيراً ما قيل إن الهوية الفلسطينية تأخذ تعبيرها من ردة الفعل المناهضة للمشروع الصهيوني، في الأربعينيات من القرن العشرين تعمق الإحساس بالهوية الوطنية والصفات الجامعة التي تحقق وحدة الشعب، دعمتها ثقافة الصراع الدامي الذي سبق عام النكبة، وجاءت النكبة لتؤثر سلباً على تصاعد الشعور بالهوية الفلسطينية، ولكن البعض يرى عكس ذلك أنه لا وجود لثقافة فلسطينية حقيقية خارج زمن النكبة، ولا تاريخ إلا انطلاقاً من هذا الزمن ولا شخصية فلسطينية بمعزل عن أشكال الاضطهاد التي جاء بها اللجوء ورفضه، بالإضافة إلى ذلك أن الأشياء تعرف بنقيضها، فالهوية تمنح التميز عن الآخر، بهذا المعنى معاداة الصهيونية ورفض الوطن اليهودي والهجرة الصهيونية والنضال ضد مشاريعها لها دور كبير جداً في مزيد من تبلور الهوية الوطنية، إلى أن أصبحت الثورة الفلسطينية المعاصرة هي التعبير الأقوى عن الهوية والكيانية الفلسطينية، وتأسيس منظمة التحرير سيغدو بمثابة إعلان عن تأسيس التعبير الكياني الفلسطيني الذي يتناغم مع الشعور الجمعي الكامن باعتباره شعوراً جمعياً تحررياً لا يقبل المساومة على الحقوق و يتمسك بفلسطين التاريخية وحق العودة إلى المدن والقرى التي شُردوا منها.
الإرهاصات الأولى لتجسيد الهوية في كيان سياسي جرى في شباط العام 1919 حين أصدر المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في بيانه الأول المعادي للصهيونية، ورفض الهجرة اليهودية من كل أنحاء العالم إلى فلسطين، بينما اعتبر اليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين قبل هذه الهجرة، مواطنين فلسطينيين، وقد أصبحت الوطنية الفلسطينية حركة مميزة تسعى إلى بناء كيان سياسي، فانعقد المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث في حيفا بين 13 و19/12/1920. وعقد المؤتمر الرابع (القدس 29/5-2/6/1921): لتأكيد المطالب الوطنية ورسم اتجاه جديد للحركة الوطنية الفلسطينية، وتبنى المؤتمر الخامس في آخر اجتماعاته الميثاق الوطني الفلسطيني ونصه: «نحن، ممثلي فلسطين، أعضاء المؤتمر العربي الخامس، نقسم أمام الله والأمة والتاريخ بأن نواصل المساعي المشروعة لتحقيق الاستقلال والاتحاد العربي، ورفض الوطن اليهودي والهجرة الصهيونية».
من ذلك نجد أن الكيانية والهوية الوطنية مترابطتان عضوياً، يعرّف د. خالد الحروب، الكيانية الوطنية، يقول إنها مرتبطة عضوياً وتكوينياً بفكرة الهوية الوطنية، ذلك بأن الأولى هي التجسيد العملي والسيادي للثانية. فالهوية الوطنية هي التكوين العميق لخلاصات وتعبيرات الشعور بذات جمعية ذات سمات مشتركة وموحدة، لخصتها حديثاً في تاريخ العالم وفي منطقتنا مع نهايات القرن التاسع عشر، فكرة القومية أو الوطنية.
في اللغة العربية كلمة «كيان» تعني صميم الوجود الذي يحدّد ويعبّر عن ذات كائن له فردية ماثلة كحقيقة لا يمكن نكرانها، أو شيء له وجود حقيقي وجوهر متميز ويعتبر مستقلاً عن الأشياء الأخرى. ويشير الكيان إلى شيء أو حالة قائمة لها بنية ووظيفة، ومقومات الكيان الوطني مجتمع بشري منتمي لأرض الوطن بحدودها المعروفة، الأرض والشعب هما صميم وجود الكيان الوطني، تبنى عليهما مقومات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وغيرها أي مجموعةِ العناصرِ الأساسية التي تُساهم في بروزه ونهوضه.
إن الكيان الوطني كبنية تحتاج إلى من يمثلها ويعبّر عن وظيفتها أو أهدافها، أو بمعنى آخر يحتاج إلى تمثيل سياسي، الحركة الصهيونية اختلقت المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية، دون أن يكون لها في ذاك الوقت أرض لـ«كيان صهيوني» مفترض، وبعد بحث واختلاف حول أرض ما في مناطق عديدة من العالم، اعتبر زعماء الحركة الصهيونية زوراً وبهتاناً أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ودُعمت هذه الأفكار والمؤسسات من قبل الغرب الاستعماري.
بينما أشكال التعبير السياسي عن الكيانية الفلسطينية قد تم محاربتها بشدة من قبل الاحتلال العسكري البريطاني، ولا ننفي أن أحد مسببات ذلك داخلية سواء قبل النكبة أو في الحاضر تتمثل في الانقسام والاختلاف في التعبير عن الكيانية. فقد كان على القوى الوطنية الدفاع عن الهيئات التمثيلية دفاعاً مستميتاً لأن غيابها أو تغييبها قد أثر على الحاضر بما تعيش به الكيانية الفلسطينية من معضلات، وكان على ممثلي حكومة عموم فلسطين بعد النكبة مباشرة رفض قرار الجامعة العربية حلها نهائياً في عام 1959.
هناك مشروع سلام، كان يفترض أن يقود إلى دولة وطنية، لكن تعثر عملية السلام أبقت السلطة في إطار حكم إداري ذاتي للسكان، المشكلة في أن السلطة الفلسطينية تعمل على الحد من دور منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها هوية وبيت لكل فلسطينيي الداخل والشتات.
في ظل اتفاقية أوسلو يُطرح التساؤل: ما علاقة الاحساس بالانتماء بالهوية الوطنية بالمواطنة ؟. فالمواطنة تجسيد يومي بالممارسة العملية لمفهوم الهوية باعتباره ليس مفهوماً مجرداً، في هذا المستوى تنحدر الهوية إلى جنسية إلى بطاقة شخصية وجواز سفر وتصبح الهوية مفهوماً حقوقياً يطرح مسألة الدولة وتابعية المواطن لها، وبسبب الاحتلال والتشتت تبرز مشكلات مواطنة، و مشكلات جنسية، في ظل تعرض الأرض للتهويد، والشعب للتشتيت، وأكثر ما تثيره أوسلو في هذا الموضوع هو مسألة الهوية لفلسطينيي الشتات في ظل ضعف أداء المنظمات الفلسطينية وغياب دور م.ت.ف. ويخشى ألا يبقى الانقسام السياسي في حدوده الجغرافية بل من انعكاسه في وقت ما على الهوية الوطنية، أما فلسطينيو 1948  فهويتهم ردة فعل وتحدي في ظل قانون الهوية الذي أقره الكنيست كدولة لليهود كمواطني درجة ثانية. فقد قامت إسرائيل على سياسة التطهير العرقي، وانتزاع الأرض بهدف القضاء على الكيانية الوطنية بتعبيراتها السياسية، وحصر الكيانية في الحكم الإداري الذاتي لسكان محاصرين في معازل تتخللها المستوطنات ومواقع وحواجز الجيش والشرطة الاسرائيلية.
في أوائل التسعينيات جرى الاعتراف المتبادل، مما أثر في «الكيانية الفلسطينية» و«الكيانية الإسرائيلية» معاً، رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين اعترف رسمياً بمنظمة التحرير الفلسطينية ككيان شرعي يمثل الشعب الفلسطيني، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات اعترف رسمياً بحق « الكيان الصهيوني» في الوجود كدولة إسرائيل ذات سيادة، وأصبحت الأرض التي يُعترف بها كأرض فلسطينية أرض متنازع عليها، سيمهد إن لم يجرِ تنفيذ قرارات المجلسين المركزي والوطني الفلسطيني بسحب الاعتراف وبالانسحاب من اتفاقيات أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي، ليصبح «الكيان الصهيوني» دولة «إسرائيل الكبرى» من خلال تصاعد الاستيطان والضم، والكيانية الفلسطينية تسير نحو الضمور، بتغييب منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، بكل تجمعاته وأماكن تواجده، ويجري العمل على إبراز السلطة الفلسطينية ككيان جديد لتمثل فلسطينيي الضفة فقط دون غزة والقدس.
من هنا أكد المؤتمر الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، على مبدأ صون الكيانية الوطنية، بأعمدتها الثلاثة:
م.ت.ف، هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي وحدها المعنية بتمثيله والنطق باسمه في أية عملية سياسية معنية بحل القضية الوطنية؛ 2- برنامج م.ت.ف الوطني: حق تقرير المصير، إقامة الدولة المستقلة كاملة السيادة على حدود 4 حزيران (يونيو) 67 وعاصمتها القدس، حل قضية اللاجئين بموجب القرار 194، الذي يكفل لهم حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948؛ 3- قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، الضامنة للحقوق الوطنية لشعبنا غير القابلة للتصرف.
من كتاب «فلسطين والإقليم» الكتاب السادس والأربعون من سلسلة الطريق إلى الاستقلال التي يصدرها المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات
يشير المؤتمر الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى أهمية المبادرات السياسية التي أطلقتها الجبهة على امتداد السنوات الماضية، وتأثيراتها الإيجابية في مختلف الأوساط لجهة الدفع باتجاه إعادة صياغة أوضاع النظام الفلسطيني على قاعدة البرنامج الوطني الجامع، معززاً بتأكيد طابعه الديمقراطي التمثيلي الشامل لجميع القوى السياسية والمجتمعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق