في غزة، لا يتوقف الخطر عند حدود القصف، ولا ينتهي بانحسار الطائرات عن السماء. فبعد أكثر من عام على حرب مدمّرة أعادت تشكيل الجغرافيا والحياة، باتت آلاف العائلات تخوض معركة جديدة داخل ما تبقّى من بيوتها، بين جدران متصدعة وأسقف معلّقة على شقوق عميقة، تنتظر لحظة الانهيار في أي وقت.
في أحياء تغيّرت ملامحها تحت الركام، لم تعد المنازل ملاذًا آمنًا، بل تحوّلت إلى هياكل هشّة، بعضها فقد نصفه، وبعضها الآخر يقف كجسد مُنهك يتكئ على أعمدة مكسورة. ورغم إدراك السكان لحجم الخطر، ما زالت هذه البيوت مأهولة، لأن البدائل شبه معدومة، ولأن الخروج منها يعني التشرد الكامل.
الأطفال هنا لا ينامون بطمأنينة، بل ينامون وهم يحدّقون في تشققات السقف، كأنهم يحرسونه من السقوط. الأمهات لا يخشين الليل بقدر ما يخشين صوت الرياح، والآباء لا يكتفون بمتابعة نشرات الأخبار، بل يراقبون الجدران، يتحسسونها، يقرأون صمتها، ويحاولون تقدير كم تبقّى لها من وقت. توقفت الانفجارات في بعض المناطق، لكن الخوف لم يتوقف؛ انتقل من السماء إلى داخل البيوت.
أين نذهب؟.. سؤال بلا جواب
أسفل عمارة سكنية تعرّضت لقصف مباشر سابقًا غرب خان يونس، تعيش عائلة الحداد المكوّنة من 14 فردًا داخل شقة متهالكة لا تصلح للسكن الآدمي. العمارة فقدت طوابقها العلوية، وما تبقّى منها مصنّف هندسيًا “غير آمن”، لكن العائلة لم تجد مكانًا آخر تذهب إليه.
يقول أكرم الحداد إنهم اضطروا للعودة إلى هذه الشقة بعد أن دُمّرت منازلهم بالكامل خلال القصف: “نعرف أننا نُخاطر بحياتنا، لكن أين نذهب؟ لا بيوت بديلة، ولا قدرة على استئجار مكان آمن، وكل المناشدات لم تلقَ أي استجابة”.
الحجارة تتساقط بين حين وآخر، والبرد يتسلل من كل زاوية، ومياه الأمطار تجد طريقها بسهولة إلى الداخل. ومع كل خبر عن انهيار منزل مشابه في حي آخر، يتضاعف خوف الأطفال، ويزداد ثقل الانتظار.
تكرر هذه القصص مع كل منخفض جوي يأتي إلى غزة حاملاً معه ما استطاع من أمطار وعواصف تدفع المئات من العائلات النازحة في الخيام إلى الاحتماء بمنازلها الآيلة للسقوط بعد أن فشلت في البقاء داخل خيام غمرتها المياه أو اقتلعتها الرياح.
ووثّقت تقارير حقوقية أن العشرات من المباني في مناطق عديدة من قطاع غزة دُمِّرت سابقًا بقصف إسرائيلي وأصبحت على وشك الانهيار، غير أن العائلات تبقى فيها “رغم علمها بمدى الضعف البنيوي” لأنها ترى في تلك البنايات المتصدعة خيارًا أقل خطرًا من البقاء في خيمة لا تحمي من البرد أو المطر.
نصف بيت ونصف حياة
مشهد عائلة الحداد لا يختلف كثيرًا عن واقع عائلة سلامة، التي دُمّر منزلها على مرحلتين، ولم يتبقَّ منه سوى جزء من الطابق الأرضي. في هذا الحيّز الضيق، تعيش رويدا سلامة، الثمانينية المقعدة، مع ابنتها خلود. الركام يسد المداخل، والغرف المدمّرة تحيط بما تبقّى من البيت، وكأن المكان يذكّرهما في كل لحظة بما حدث.
تقول خلود إنها تدرك تمامًا خطورة البقاء، وأن مهندسين حذّروهم من احتمال الانهيار، لكنها لا تملك بديلاً: “لا بيوت متنقلة، ولا أماكن إيواء، ولا مصدر دخل. الخروج يعني التشرد، والبقاء يعني الخطر”.
ومن بين تلك العائلات سُمَيّة نبّهان من حي الرّمال، التي قالت إنها تعيش مع عائلتها داخل بناء مائل بشكل خطير “كأنك تدخل إلى منزلق في متنزّه”، بعد أن تدمر بيتهم الأصلي، مضيفة أنها تشعر في كل لحظة أن الجدران يمكن أن تنهار فوق رؤوسهم.
شعور يتحول في لحظة إلى حادث مأساوي، ففي الحي نفسه الذي تقطنه نبهان، سقط جدار لبيت كان يؤوي نازحين نتيجة الرياح القوية والأمطار الغزيرة، مما تسبب في استشهاد شابة فلسطينية (30 عامًا)، بعدما انهار الجدار فوق خيمتها الملاصقة لبقايا البناء المدمر، بينما غرقت وغُرقت خيام أخرى في مناطق متفرّقة من القطاع بفعل الطقس القاسي.
قبل أن يلجأ السكان إلى المباني المتصدعة، عاش آلاف النازحين في خيام مؤقتة مهترئة، تعرّضت منذ نوفمبر الماضي لعمليات غرق وتطاير بفعل الرياح القوية والأمطار الغزيرة، ما اضطر الأهالي للخروج إلى العراء وسط طقس بارد.
الدفاع المدني حذّر مرارًا من اللجوء إلى المنازل الآيلة للسقوط، مؤكدًا أن آلاف الوحدات السكنية في القطاع تعرّضت لأضرار جزئية خطيرة تجعلها غير صالحة للسكن. لكن هذه التحذيرات تصطدم بواقع قاسٍ: لا أماكن بديلة، ولا مواد بناء، ولا قدرة على إنشاء مساكن مؤقتة آمنة.
أرقام تكشف المأساة
ويؤكد المكتب الإعلامي الحكومي أن كانت الخيام المنتشرة في مخيمات النزوح تعمل كملاذات مؤقتة غير صالحة للسكن أساسًا، فهي مصنوعة من أقمشة مهترئة لا تحمي من المطر والبرد ولا توجد فيها مرافق صحية ولا كهرباء.
ويقدّر مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة إسماعيل الثوابتة عدد مَن هدمت إسرائيل منازلهم بنحو مليون ونصف المليون إنسان (قرابة 288 ألف أسرة).
وذكر الثوابتة، أن عدد الذين يعيشون داخل مخيمات إيواء رسمية، أو عشوائية، يُقدر بنحو مليون و371 ألف شخص، مبينا أن قرابة 620 ألف شخص (120 ألف أسرة) يعيشون في منازل آيلة للسقوط، وهو ما يُعرّضهم لأخطار الموت والإصابة، خاصة في فصل الشتاء بفعل الأمطار والرياح.
ويقدّر أعداد اللذين يعيشون داخل مبانٍ حكومية ورسمية بنحو 48 ألف شخص (9 آلاف أسرة)، مشيرا إلى أن أعداد الخيام التي دخلت قطاع غزة، منذ بداية الحرب قبل 26 شهرا، أنها بلغت نحو 135 ألف خيمة، لكنّه 125 ألف خيمة منها (93% من إجمالي الخيام) قد اهترأت وخرجت عن الخدمة.
ويقدّر المسؤول الحكومي أن نحو 22 ألف خيمة تلفت بسبب الأمطار والرياح المصاحبة للمنخفضات الجوية خلال الفترة القصيرة الماضية.
البروتوكول الإنساني.. بانتظار الأسوء
ويوضح أن الخيام التي دخلت خلال الشهرين الأخيرين، عقب سريان اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، وصلت لقرابة 20 ألف خيمة، مؤكدا أنها “غير كافية مطلقا، فقطاع غزة يحتاج لإدخال 300 ألف خيمة بشكل عاجل، وما دخل يُشكّل 7% فقط من الاحتياج الفعلي العاجل”.
ويتابع: “الخيام عندما تهترئ وتخرج عن الخدمة، يحاول النازحون إصلاحها، لكنّها تبقى غير مناسبة مطلقا للشتاء، وبالتالي المطلوب الآن هو 280 ألف خيمة”.
ويؤكد الثوابتة أن الاحتلال يرفض إدخال البيوت المتنقلة الجاهزة، رغم أن ذلك مخالف للبروتوكول الإنساني الملحق باتفاق وقف إطلاق النار.
ويضيف أن هذه المساكن الجاهزة تحل جزءا كبيرا من مشكلة السكن والإيواء لعشرات الآلاف من العائلات التي تعاني من التشرد والنزوح، وهو ما يُصر الاحتلال على رفضه. كما أن المنازل المتنقلة ستوفر للنازحين بيئة “كريمة” للسكن، بديلا عن الخيام التي لا تصلح للسكن الآدمي.
ورغم تكرار حوادث الانهيار وما خلّفته من ضحايا تحت الأنقاض، ما زالت آلاف العائلات في غزة تعيش المعادلة القاسية نفسها، سقف متصدع أفضل من النوم تحت خيمة لا تمنع ريحا ولا تقي بللاً على الإطلاق. عائلات لا تطلب أكثر من حق أساسي بسقف آمن في واقع لا يرحم، حيث يتحوّل الصمود إلى مجازفة، والحياة إلى انتظار دائم لما هو أسوأ.